لا شكّ في أن الفكرة كانت ستعجب جان جينيه كثيراً. تقديم نصّه - الشهادة "أربع ساعات في شاتيلا" في حلبة سيرك. جينيه الأديب الفرنسي الذي أدمن الايغال في الجراح، وفتنه بريق الجريمة، وغاص في الظلام الداخلي للنفس البشريّة. ولعلّ الكوميديا السوداء وحدها تتسع لهذا القدر من اللوعة والذهول والغضب الذي ينطوي عليه نصّ جينيه، وهو دخل مخيّم شاتيلا ثلاثة أيّام بعد المجزرة، أي في التاسع عشر من أيلول سبتمبر 1982، وسجّل مشاهداته وتأملاته بلغة وحده يملك سرّ قدرتها على الجمع بين حيادية باردة في الوصف، وطاقة بركانية دفينة تهدد بالانفجار على شفير كلّ كلمة. هكذا تصوّرت الفرنسيّة كاترين بوسكوفيتز عرضها "الرقص على الموتى" المستوحى من نصّ جينيه في حلبة سيرك، في فضاء متقشّف، عار، احتفالي، يتحوّل تدريجاً ليجسّد حطام المخيّم ومنازله، بل خراب الروح وخراب العالم. مسرحيّة "الرقص على الموتى" قدّمت حتّى الآن بالعربيّة والفرنسيّة في مدن عربيّة عدّة، وقد استضافها أخيراً "مسرح بيروت" ضمن إطار "مهرجان شمس"، وستقدّم خلال الأيّام المقبلة في العاصمة الأردنيّة ضمن إطار "أيّام عمّان"، ثم في دمشق. يقوم العرض على بناء سينوغرافي ديناميكي، وجهاز تلفزيون، وممثّلة ممتازة هي اللبنانيّة سوسن بوخالد التي سبق أن شاهدناها في مسرحيّة "أرخبيل" عصام بوخالد. في ملابس المهرّج التي سرعان ما تعرى منها، لترتدي ملابس المأساة، تدخل وهي تجرّ شيئاً غامضاً، نكتشف أنّه جهاز تلفزيون تتدافع على شاشته الصور، والأحداث، والتعليقات التي تشكّل الخطاب الرسمي، أو الوعي الرسمي للمأساة، بل للتاريخ عامةً إلى أي حدّ تعبّر الصور التي نراها، عن حقيقة ما يجري؟. لذا فإن المهرّج الحزين الذي يضيع جنسه لوهلة، يتلاعب بالصور، يحوّرها، يسخر منها، يعلّق عليها. "لا أدري" تقول أميركيّة مذعورة على مسرح أحداث 11 سبتمبر 2002. "لا تدري!" يعقّب المهرّج، قبل أن يبدأ بسرد مقاطع من نصّ جينيه، بصوت غريب لطفل يحاول أن "يتشيطن" بالتناوب مع أصوات مسجّلة على الشريط الصوتي. الحلبة الدائريّة تحاصرها اضاءة خانقة، وكل تقنيات التمثيل والحركة والاداء تحاول أن تخدم نصّ جينيه، أن تتعامل مع هول المأساة، بشيء من السخرية المرّة، المتعالية، التي تتفادى الوقوع في مطبّ تمجيد الشهادة، وفولكلور البطولة. تريدنا بوسكوفيتز أن نرى ما هو أبعد من الصورة، أن نسمع أعمق من الكلمات، أن ندخل هذا الاحتفال الهاذي لنشارك في المأساة شهوداً وضحايا ومتفرّجين. يخرج المهرّج من جيبه زهوراً وشموعاً، يخلع طبقات الملابس، يعود أنثى، يلفّ التلفزيون بضمّادات الشاش، يسيّج المكان بالحبال ويشنق التلفزيون. يزرع الفوضى على الخشبة في ايقاع كريشاندو، فنرى منازل مبقورة، وأشلاء جثث، وأجساد مقيّدة وحبال، وأبواب مشلّعة. تنزل سوسن بوخالد إلى الصالة مع ميكروفون، لتروي جزءاً من مشاهدات جينيه بعد المجزرة. النصّ يسبق الاحتفال أحياناً، في "الرقص على الموتى"، أو يفلت منه، إذ يطغى كلام جينيه على العرض الذي تبدو وظيفته مقتصرة على زخرفة النصّ وايصاله. لكنّنا نعود فندخل مجدداً في هذا الطقس السوداوي، نضحك، نبكي، نسترسل في الذهول. يخرج المهرّج مسدساً، يسدد فوهته إلى صدغه، إلىنا، إلى التلفزيون، يطلق رذاذ الماء ماضياً في العبث. وتنتهي المسرحيّة على مشهد تراقص الحلبة، كسفينة تلعب بها الأمواج أو أرض تهتزّ...