قد تكون العودة اليوم إلى نص جان جنيه «أربع ساعات في شاتيلا» مناسبة لقراءة المجازر التي يرتكبها النظام السوري وبخاصة في مخيم اليرموك لللاجئين الفلسطينيين. فهذا النص الذي كتبه صاحب «الأسير العشق» بُعيد معاينته مجزرة شاتيلا التي ارتكبتها إسرائيل بأيدي مقاتلين كتائبيين عام 1982 يدين فكرة المجزرة ويفضح فعل القتل الجماعي الذي يحصد الضحايا بقسوة ووحشية. كان جان جينه في بيروت عشية وقوع هذه المجزرة المروّعة في 16 أيلول(سبتمبر) ولم يتوان بعد ثلاثة أيام عن دخول مخيم شاتيلا الذي كان لا يزال على حاله عقب القتل الهستيري. كانت الجثث لا تزال على الأرض وروائحها النتنة تملأ الهواء ومن بقي على قيد الحياة من عجائز ونسوة كانوا أشلاء بشر، مذهولين ومرعوبين من هول ما حصل. كان جينه من أول الواصلين إلى أرض الجريمة مع بضعة صحافيين، وراح يتنقل بين الجثث غير آبه للروائح والذباب والغبار، وكان هذا التنقل أشبه بالقفز كما يقول، و»قد يستطيع طفل ميت أن يسدّ الزقاق لأنه ضيق جداً والموتى كثر». بعد أن عاد جينه إلى باريس راح يستعيد المشهد المأسوي الذي لم يُشف من رهبته إلا بعد أن كتبه في نص رهيب وأليم، وكان على هذا النص أن يشهد رواجاً كبيراً بعد نشره في مجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة في باريس بالفرنسية، وترجم إلى لغات عدة. وأثار حفيظة الإسرائيليين جراء اتهامهم مباشرة بالوقوف وراء المجزرة وتحريضهم الكتائبيين على ارتكابها، عطفاً على فضحه وحشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وما أحدث من دمار وخراب، وما أسقط من ضحايا وقتلى. واستهل جينه نصه، من قبيل السخرية، بجملة قالها مناحيم بيغن أمام الكنيست: «في شاتيلا وصبرا، أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود، فما الذي يعنينا في الأمر؟». سرعان ما عرف هذا النص طريقه إلى المسرح في فرنسا والمغرب ولبنان. وإن لم يكن النص درامياً على غرار مسرحيات جينه الشهيرة، فهو أشبه ب «مونولوغ» تبعاً لاعتماد الكاتب فيه الأنا الراوية. وكان المخرج الفرنسي ستيفان أوليفييه بيسون أحد المتحمسين لهذا النص، درامياً وإنسانياً وجمالياً فعمد إلى إخراجه أكثر من مرة. والآن يعيد إخراجه في بيروت في صيغة فرنسية، جميلة وجريئة، متعاوناً مع الممثلة القديرة والفاتنة كارول عبود التي كانت واصلت دراستها المسرحية في باريس، وإلى جانبه المخرج اللبناني الشاب نصري الصايغ كمساعد مخرج. وأصاب بيسون كثيراً في اعتماده ممثلة وليس ممثلاً لأداء دور الراوي الذي هو جان جينه نفسه. لكنّ الصورة مع كارول عبود لم تنقلب فهي نجحت تماماً في اللعب على وتائر هذه الشخصية (الراوي) وفي منحها أبعاداً إنسانية وتحريرها من الهوية الجنسية المكتسبة لتصبح في آن واحد رجلاً وامرأة، راوياً وضحية، شاهداً ومشهوداً عليه. إنه إحساسها العميق بهذه الشخصية التي راحت تتمرأى في مشهد القتلى المرميين على أرض المخيم تحت ضوء الشمس التي تحدث عنها جنيه. ولم يكن ليضير المخرج أن تتحدث الممثلة في صيغة الأنا الرجل ولا أن يتوجه إليها الصوت الخارجي (فوا أوف) بصفتها رجلاً. وعرف المخرج كيف يوظف هذا الصوت الخارجي ليختصر عبره دراماتورجياً ما ورد في النص الأصلي من حوارات متقطعة وعابرة، إضافة إلى اعتماده المؤثرات الصوتية التي عبرت عما كان يحصل في الخارج الذي هو المدينة التي يحتلها الجنود الإسرائيليون (القصف والرصاص والأصداء المعدنية...). ولعله عبر هذه المؤثرات الصوتية تحاشى الابتعاد عن عرض السلايدات والصور التي تمثل مشاهد الإجرام والخراب وهي باتت مستهلكة من كثرة ما استخدمت. ولعله أصلاً شاء الفضاء السينوغرافي شبه فارغ يحتله اللونان، الأبيض والأسود، اللذان هما لونا الحداد والموت. إنها خشبة الموت حقاً: جدار أبيض هو من رموز الحالة الفلسطينية يخترقه باب كأنه باب مقبرة، يطل على عالم آخر تدخله الممثلة وتعود منه عودة الطيف القتيل، أما الأرض فهي أرض المجزرة ولكن بما سقط من جثث اختصرتها الثياب المهلهلة والممزقة والممرغة بالدم «الأبيض» والغبار. وكان على الممثلة أن ترتدي هذه الثياب ثوباً فوق ثوب وكأنها ترتدي جلد الضحايا لتعيشهم وتتقمصهم ثم تخلع الثياب هذه عائدة إلى الحياة التي لا تشبه الحياة. وكم بدت كارول عبود رهيبة في أداء هذه الشخصية، بصوتها الطالع من عمق المأساة، بصمتها الصارخ، بحركتها الهاذية، بوقوفها أو استنادها إلى الجدار. وعندما يلقى الضوء على وجهها لحظة وقوفها عند الباب يبدو وجهها الرهيب بتعابيره أشبه بأيقونة تختصر عذاب البشرية. ومن شدّة إغراقها في عيش الشخصية تغدو كأنها طالعة من قلب التراجيديا الإغريقية، من عالم سوفوكل وأوريبيد، مذكرة تذكيراً خاطفاً ب»أنتيغون» أو «ميديا» أو «فيدر» وأقدارهنّ المأسوية. دمجت كارول عبود ببراعة تامة، بين شخصية الراوي الذي هو جان جنيه وبين الشخصية الإغريقية، ولعل هذا ما قد يرضي الكاتب الذي وصفه سارتر ب «القديس الشهيد»، فهي استطاعت فعلاً أن تصالحه مع جذوره المأسوية الإغريقية. ولم يفت المخرج أن يدفع الممثلة إلى استعادة أنثويتها في بضعة مشاهد، ومنها عندما تغسل وجهها وذراعيها بالماء معتمدة حركة ملؤها الدلال الجسدي، ثم سرعان ما تعود إلى عالمها القاسي المفعم بالخوف والألم والاضطراب. ولعل كارول لم تكن غريبة عن مبدأ القسوة الذي تبناه جان جينه مستوحياً إياه من المسرحي الفرنسي أنطونان آرتو، لكنها عاشته داخلياً وعبرت عنه بعينيها ونظراتها الحارقة وجسدها الذي يفيض ليونة وتوتراً في آن واحد. «أربع ساعات في شاتيلا» عرض لا يمكن إلاّ وصفه بالبديع وهو على ما بدا خلاصة تجربة عميقة و»شاقة» خاضها المخرج والممثلة والفريق المساعد. ولئن كنا نظن أنّ هذا النص بات على هامش أعمال جينه فهو هنا بداً حديثاً جداً وآنياً ومحمّلاً بالكثير من الأسئلة والأفكار والمشاعر. وقد عاد إلى الواجهة مع وقوع المجازر التي يرتكبها النظام السوري بعنف وقسوة. (تقدم المسرحية بالفرنسية على مسرح مونو - بيروت).