في تلك القاعة الفسيحة، داخل "المسرح القومي" بالقاهرة، المشرف على حديقة "الأزبكية"، أحد أقدم مواقع القاهرة المملوكية، التي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وفي الثلث الأخير من الليل، صاح صاحب الصوت المبحوح "والآن مع صاحب الابتسامة الندية، والطلة البهية، المهرج صالح". ظهر المهرج بملابسه الزاهية، وهيئته الغارقة في المساحيق الملونة، قدم فاصلا من الحركات والألعاب، التي غلفها بطابع كوميدي تعالت معه أصوات التصفيق، وتواترت الضحكات، وقد بدا من حركته البطيئة على المسرح، أنه بلغ من العمر عتيا، ولكن لم تتأثر لياقته طوال تقديمه لفقرته. أسئلة معلقة انتهى العرض المرح، وبقيت أسئلة معلقة في رأسي: ترى هل هذا الرجل الذي يبتسم في كل الوجوه، ويلون وجهه بمساحيق البهجة، يمتلئ قلبه بنصيب منها؟ هل يعيش الحياة كما يعيش في السيرك، يقتات على الفرحة و"يحلي" بالابتسامة؟ هل يلقي حقا بهمومه وراء ظهره قبل أن يرتقي خشبة المسرح، وماذا يخفي خلف أنفه الأحمر؟. غارق في وحدته سألت ال"عم صالح"، عما دار في ذهني، فأجابني "أكل العيش. هذه صنعة ورثتها عن أبي، أمارسها منذ عشرين عاما، وقد أحببت شخصية المهرج وأنا طفل، ولكن لم أتمنَ أن أكون مهرجا"، وأضاف "ما باليد حيلة"، مسترسلا في سرد قصته "لم أكمل تعليمي لظروف مادية، ولم أتعلم صنعة، ومهنة المهرج لم تعد مربحة، وحتى ما يكسبه المهرج لا يكفي شراء الخبز الحاف، والكل يأتي هنا ليضحك ويقضي وقتا ممتعا، وينصرف تاركا المهرج في وحدته، غارقا في أحزانه وفاتورة التلفون ومصاريف الدروس الخصوصية". الملابس والأنف الأحمر الملابس المميزة التي يرتديها المهرج، والاستعداد الشكلي، اللذان يبدوان معدين بإتقان، يروي تفاصيلهما العم صالح، قائلا "لم أشتر طوال حياتي بدلة المهرج الجاهزة، وأجمع الملابس قطعة قطعة، لأصنع لنفسي شكلا مميزا. أما ألوان ومساحيق الوجه، فأختار الملائم منها، وهي إلى حد ما غالية الثمن، ولا يمكن الحصول عليها بوفرة. وعندما استوضحته عن إحساسه وهو يرتدي قناعا، ولا يراه أحد، أجابني "القناع يساعدني لأخفي وراءه الكثير مما بداخلي، وقد تفضحني عيناي، لولا المساحيق". وعن الأنف الأحمر، أوضح أنه والملابس المهلهلة بألوانها الغريبة والطريفة، جزء من هيئة المهرج، بهدف إضحاك المشاهد. ويعتقد العم صالح أن الأنف الأحمر يعني "أن الشخص مريض بالأنفلونزا"، ولذا يبدو على المسرح يترنح وغير قادر على الوقوف. رسالة ولكن يرى العم صالح أن للمهرج رسالة، وأن "المهرج الحقيقي لا يكون همه إضحاك المتفرجين فحسب، بل يمكن أن يؤدي دور الخطيب والمرشد، ويمتلك فرصة ذهبية، لأن جميع الجالسين أمامه جاؤوا طواعية، ويمكن أن يتقبلوا منه النصيحة والعظة، لكن بشكل غير مباشر، ولاسيما الأطفال، الذين يعجبون بشخصية المهرج". رمز للتضحية سعد، الابن الأكبر للعم صالح، الذي يدرس في السنة النهائية بكلية "الآداب" ويساعد والده، يصف المهرج بأنه "رمز لكل إنسان، يدوس على قلبه وصحته وحياته، لكي يضحك الآخرين. يضحي بنفسه في سبيل لحظة سعادة يعيشها غيره، وقد يفقد حياته وهو يتخطى حلقات النار أو يمشي على حبل. ويمكن أن تأتي وتغادر المسرح أو السيرك وتنساه، وتغرق في همومك ومشاغلك، والشيء الوحيد الذي تعلمته من المهرج، أن تلعب على كل الحبال كما يفعل". ويكمل سعد قائلا "هؤلاء الذين يضحكون لحركات وقفشات المهرج، ينظرون إليه إذا صادفوه مارا بالشارع، ولسان حالهم، يقول: بهلوان"!. سعيد، وأثناء حديثنا، فاجأني بسؤال "لو تقدم لابنتك مهرج، هل ستوافق عليه؟". وقبل أن أفكر في الرد، عاد ليقول "لن تقبل ومعك حق، فالمساحيق التي تملأ وجه المهرج يراها الآخرون في كل وقت، حتى لو سكب عليها برميل ماء وصابون". شخصية تاريخية رئيس أكاديمية الفنون بالقاهرة، والناقد المسرحي، الدكتور سامح مهران، تحدث إلى "الوطن"، عن المهرج "الشخصية والتاريخ"، قائلا: يعود تاريخ ظهور أول مهرج إلى عصور قديمة. كان الناس يطلقون على المهرج أسماء، مثل المُضحك، والأحمق، والأبله. وشاعت كلمة المهرج في بداية القرن التاسع عشر، على لسان جوزيف جريمالدي، وهو ممثل كوميدي بريطاني شهير. وظهر مهرج السيرك في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ممثلاً كوميديًا يقف أمام الجمهور ليلقي النكات. مضيفا في معرض شرحه "ولأن حلبات السيرك في بداية ظهورها كانت صغيرة الحجم، فقد كان مهرجٌ واحد كافيًا لتسلية الجمهور كله بالنكات والأغاني. وفي تلك الأيام كان المهرجون من بين نجوم السيرك. وباتساع حجم السيرك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، لم يعد المهرج الفرد قادرًا على إمتاع الجمهور، فظهرت جماعات من المهرجين، لتُدخل المرح على الجمهور، وتحل محل المهرج الواحد. إلا أنه في منتصف القرن العشرين عاد المهرجون كالأمريكي إيميت كلي، كي يُحْيُوا التقليد القديم بظهور مهرج واحد". أنواع المهرجين يشير الدكتور مهران، إلى أن "هناك نوعين رئيسيَّين من مهرجي السيرك، هما: الضاحك والبائس. ويضع المهرجون الضاحكون مساحيق صارخة، ويرتدون الملابس الفضفاضة، وتبدو على وجوههم علامات الغباء والبَلَه. أما المهرجون البؤساء فهم أكثر أناقة، ملابسهم ومساحيقهم بيضاء، ويؤدون أدوارًا عكس أدوار المهرجين الضاحكين. كما أن هنالك أنواعا أخرى من المهرجين، مثل "المتشردين، أو الضائعين، أو من هم على شاكلة المهرج تشارلي" اشتهروا في حلبات السيرك الأمريكية، وهم يقلدون المتشردين في ملابسهم الرثة، وشعرهم الأشعث، وأنوفهم الحمراء، وتبدو عليهم دومًا أمارات الحزن والوحدة". الحكمة الفكرية يكشف الدكتور مهران عن الجاني الإنساني للمهرج، قائلا "في المسرح العربي ظهرت تلك الشخصية لتقديم ما يعرف بالحكمة الفكرية، من خلال السخرية وإضحاك المشاهد. وتحليلي أن المهرج تقمص الشخصية حتى أصبح الحزن والمأساة لصيقين به. وعموما في عصر الحداثة، انتقلت شخصية المهرج إلى ما يعرفه المسرحيون بالكوميديا الساخرة". مهران يعتبر أن من أهم الشخصيات التي بقيت في المسرح الكوميدي والحكاية والقصص والسير هي "المهرج أو البهلول" ولكن لهذا المهرج وجهان، وجه ضاحك، ووجه حكيم وحزين، وفي مجتمعاتنا العربية وفي السيرك تحديدا أخذنا الوجه الضاحك وابتذلناه إلى درجة الاستسهال. والمسرح العربي المعاصر أعاد إنتاج "البهلول"، معتبرا أن هنالك خيطا واهيا جداً بين التهريج والكوميديا. كما أن فن المهرج يعتمد على فن آخر اسمه المايم حركة بدون كلام يعرفه ويتقنه جموع المهرجين". مركب درامي من جهته، اعتبر المسرحي والرئيس السابق ل"الجمعية السعودية للفنون والثقافة" بفرع الدمام، عبدالعزيز إسماعيل أن "شخصية المهرج في المسرح، أي الموجودة على الخشبة، هي التي تمثل أو تشارك في عمل مسرحي، وليس المهرج الحر في السيرك، أو في أي مكان آخر خارجها"، مضيفا "ولأن الحضور المسرحي يدفع بالممثل عادة إلى إخفاء شخصيته الحقيقية، خلف قناع التمثيل المسرحي، فالمهرج على المسرح سوف يمثل ويخفي خلفه شخصيتين مزدوجتين معا، إضافة إلى شخصيته الأولى خلف قناع التمثيل. فقناع المهرج سوف يخفي خلفه شخصية الممثل المسرحي، وشخصية الممثل المسرحي قد أخفت مسبقا خلفها شخصيته الحقيقية الأولى في الحياة، وبالتالي نحن أمام مركب درامي صعب ومعقد جدا، لثلاث شخصيات مركبة، ولكل منها أبعاد وصفات إنسانية ودرامية، مختلفة بالضرورة". المهرج والقناع يستشهد المسرحي إسماعيل بتجربة شخصية، للحديث عن رؤيته للعلاقة بين المهرج والمسرح، قائلا "مثلنا مسرحية الملقن من تأليف الصديق أحمد الملا، ومن إخراج جمال قاسم، في جمعية الدمام عام 1995، وهي شخصية أقرب إلى المهرج منه إلى الممثل المسرحي. حيث كانت شخصية مهمشة في الحياة المسرحية، التي تعيشها وسط المسرحيين لتلقينهم حوار أدوارهم فقط، هذا الدور الثانوي أخفى وراءه هما وقلقا إنسانيا عميقا في شخصية الملقن، الذي يحفظ كل الأدوار ولا يراه أحد، فهو يعيش دائما في الظل، وعندما لبس قناع الممثل وليس المهرج، تفجر غضبا وسخر من الجميع، لأنه يعتقد أنه يمثل أفضل منهم"، مضيفا في إيضاح فكرته "خلف القناع يمكن أن تفعل وتقول أي شيء، وهذا ما يقوم به المهرج بالتحديد في المسرح، أو هذا هو الهدف الرئيس من حضور المهرج على المسرح، حيث تستطيع الشخصية أن تقول ما لا تستطيع قوله، وتفعل ما لا يقبله الناس منها خلف القناع، ولهذا السبب استعان شكسبير في كتاباته بالمهرج". المهرج الشرير علي العكس من شخصية المهرج، التي ترسم الطيبة أبرز ملامحها، تأتي شخصية "الجوكر"، أو المهرج "الشرير"، التي هي أقرب إلى المهرج البائس الذي ذكره الدكتور مهران، ويرى فيه قائد فرقة "مورتيز" المسرحية، مرتضى الشويخ، أنه "تمرد على نظيره الطيب، في الشكل والمضمون"، معتبرا أن المهرج الشرير "يتسم بالمكر والدهاء، في محاولة منه للوصول إلى هدفه، ولكن بشكل كوميدي. وتختلف هيئة المهرج الشرير، فهي تحاكي العصر وتتميز بالأناقة، ويرتدي المهرج فيها القميص الأبيض والبنطال والببيونة السوداء"، ويكمل الشويخ مفصلا "يلعب المكياج دورا مؤثرا في إبراز ملامح الشخصية، فاللون الأسود أسفل العينين يرمز للشر، والشفاه الحمراء للتمييز عن الأنف الأحمر، الذي اشتهر به المهرج التقليدي". معتبرا أن "المهرج التقليدي هو الحمل الوديع، بينما المهرج الشرير بمثابة الثعلب الماكر". الشويخ ومن خلال تجربته، هو وأعضاء فرقته، يحاولون تغيير الصورة النمطية عن المهرج، وإن لم يخفِ تحرجه من ممارسة هذه المهنة، لأنها وبحسب كلامه "منقوصة اجتماعيا، ويُنظر لأصحابها نظرة أخرى". وفي هذا السياق يؤكد الشويخ، أن "المجتمع قد يقتنع بدور المهرج، الطيب أو الشرير، ويُعجب بموهبته، لكن من الصعب تقبله عضوا في أسرته، سواء بالنسب أو المصاهرة، وهي عادات وتقاليد وأعراف في مجتمعاتنا العربية، لا يمكن إغفالها".