كنا في شهر آب أغسطس سنة 1981. الحرارة والرطوبة تتصاعد حولنا في كل مكان. وكان ثمة اختناق لا يزال يترسب في الهواء كما لو كان العكارة الباقية من الأحداث المؤسفة التي استهلت العام، والتي كانت التطور الطبيعي لتوقيع معاهدة كامب ديفيد في ايلول سبتمبر سنة 1978. والحق أن السنوات السابقة على العام الحادي والثمانين كانت سنوات عاصفة، لم تخل سنة منها من الأحداث الدالة، خصوصاً بعد موت عبدالناصر في الثامن والعشرين من ايلول سنة 1970، وترك السفينة بلا رّبان التي سرعان ما تنازع عليها خلفاؤه. وبدأ الصراع بالاختلاف داخل اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي في نيسان أبريل 1971 حول مشروع اتحاد الجمهوريات العربية مع ليبيا، وتصاعد الصراع مع إقالة علي صبري نائب رئيس الجمهورية، ووصل إلى ذروته في الثالث عشر والرابع عشر من ايار مايو 1971، حيث أعلنت الاستقالات المجموعة التي أطلق عليها أعداؤها اسم مراكز القوى، وأعاد السادات تشكيل الحكومة، في موازاة التظاهرات من الدعم التي أطلق عليها السادات اسم ثورة التصحيح في الخامس عشر من ايار 1971. وسرعان ما جاء شهر ايلول من العام نفسه ليشهد الاستفتاء على الدستور الدائم وعلى إنشاء اتحاد الجمهوريات العربية مع ليبيا وسورية. وبدأت بثور الوطن الموجوع في الانفجار في أواخر العام مع أول أحداث طائفية تقع في زمن السادات، وكانت في مدينة السويس، كما كانت بداية لانفجار الجرح الطالبي الذي انفتح مع تظاهرات كانون الثاني يناير سنة 1972 في الجامعة بقيادة الطلاب اليساريين بعد نهاية "عام الضباب". وتوقفت التظاهرات لأشهر، ولكنها عادت مرة أخرى مع كانون الاول ديسمبر سنة 1972، فشملت الجامعة المصرية، وأدّت إلى تشكيل لجان الدفاع عن الديموقراطية، كما أدت إلى اعتصام الطلاب داخل الجامعات، ولم ينفض الاعتصام إلا باقتحام قوات الأمن للحرم الجامعي والقبض على قيادات الطلاب المعتصمين من الشبان والشابات. وواكب ذلك ظهور المجموعات الإسلامية المسلحة بالأسلحة البيض، وقد دفعت هذه المجموعات إلى الطلاب اليساريين والقوميين، ومحاصرة التيار الناصري والقضاء عليه داخل الجامعات. ولم يكن ذلك التحرك بعيداً من حملة التطهير التي شنها السادات في الاتحاد الاشتراكي للتخلص من خصومه، الأمر الذي اقترن باستبعاد عشرات من الكتاب والصحافيين المبدعين من عضوية الاتحاد الاشتراكي، ومن ثم إبعادهم عن عملهم الصحافي، عقاباً لهم على تأييد حركة الطلاب. وجاء الثالث من كانون الثاني سنة 1973 بأمر إغلاق الجامعات بعد خروج الطلاب في تظاهرات طافت بالشوارع، واستمر الإغلاق ما يقرب من شهر، في موازاة الاعتقالات لعشرات القيادات الطالبية. ولم يفرج عن الطلاب المعتقلين إلا في ايلول سنة 1973، وتقرر إعادة الصحافيين المبعدين الى صحفهم. وكان ذلك تمهيداً لم ينتبه إليه أحد لحرب السادس من تشرين الاول أكتوبر 1973 التي أفلحت في مداواة الكثير من جروح الوطن، ولكن إدارة الحرب ونتائجها سرعان ما قادت إلى تفجرات لاحقة، فمن ناحية حدثت واقعة الكلية الفنية العسكرية التي كانت أول صدام مسلَّح بين نظام السادات والجماعات الدينية المسلحة بقيادة صالح سرية في 1974، وجاء الإعلان عن ورقة أكتوبر في العام نفسه وثيقة سياسية جديدة لتوجهات النظام الساداتي، ولم تمض أشهر على الإعلان حتى جاء أول كانون الثاني 1975 بتظاهرات عمالية وطالبية في الجامعات، وفي ميدان التحرير، حيث النصب التذكاري الذي أطلق عليه أمل دنقل اسم "الكعكة الحجرية" في قصيدته الشهيرة بالاسم نفسه حول اعتصام الطلبة في ميدان التحرير. وجاء صيف 1975 بمحاولة لامتصاص الغضب مع طرح ورقة سياسية لتطوير الاتحاد الاشتراكي، وفتح الباب للحوار حول تطوير النظام السياسي في مصر، انقلاباً على النظام الناصري، ومحاولة لتغيير التحالفات الدولية. ونتج من ذلك إعلان المنابر في الاتحاد الاشتراكي، وإجراءات انتخابات مجلس الشعب بنظام القائمة في خريف 1976 مع تحويل المنابر إلى أحزاب ثلاثة. ولكن ذلك كله لم يخفف من الغضب الشعبي الذي سرعان ما انفجر في الثامن عشر والتاسع عشر من كانون الثاني سنة 1977، فحدثت "انتفاضة الخبز" التي أطلق عليها السادات "انتفاضة الحرامية" والتي تولدت شرارتها من القرارات المفاجئة برفع الأسعار. وجاء حادث اختطاف الشيخ الذهبي واغتياله في صيف 1977 قبل أشهر من مبادرة السادات وزيارته القدس في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1977، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد مبررات الصدام بينه وحلفائه الجدد من الجماعات الإسلامية، التي كانت قد سيطرت على اتحادات الطلاب في الجامعات، خصوصاً بعد تغييب معظم العناصر اليسارية والناصرية مع الاعتقالات التي أعقبت تظاهرات كانون الثاني 1977. وأصبح الباب مفتوحاً لاتفاقات كامب ديفيد الأولى في ايلول 1978، وتوقيع معاهدة السلام في السادس والعشرين من آذار مارس 1979، الأمر الذي أدى إلى غضب شعبي، وجد بعض التعبير عنه مع تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية في الثاني من نيسان سنة 1979. وكانت مواجهة ذلك بدعم القيادات المتأسلمة بين صفوف الشباب، وإطلاق شعارات من قبيل "الرئيس المؤمن" الحريص على رفعة الإسلام، فتصاعد نفوذ الجماعات الإسلامية داخل الجامعات على نحو غير مسبوق، ولم يتردد ممثلو هذه الجماعات في فصل الطلاب عن الطالبات داخل المحاضرات وموقف الأنشطة الفنية والثقافية في الجامعات، وشعرت هذه الجماعات بقوتها التي لم تتردد في استعراضها، حتى لو أدى الآن إلى الصدام مع الشرطة كما حدث في مدينة الإسكندرية في كانون الثاني سنة 1980، تمهيداً لتحويل المدينة إلى محمية تابعة لهذه الجماعات. ومضى النظام الساداتي في تقييد الحريات التي حاول قمعها بسلسلة من القوانين والتشريعات سيئة السمعة، من مثل قانون الاشتباه وقانون العيب وقانون حماية أمن الوطن والمواطن... وذلك جنباً إلى جنب الحملات المتتالية لاعتقال العناصر اليسارية على اختلاف طوائفها، واستبعاد رموزها من العمل العام، ومن أجهزة الإعلام ووسائله، ومن ثم إغلاق المجلات ذات التوجهات اليسارية مثل "الطليعة" وغيرها، كل ذلك لتخلو الساحة تماماً لجماعات التأسلم السياسي التي استغلت الوضع لمصلحتها، ولعبت دورها تحقيقاً لأهدافها الخاصة المنفصلة عن أهداف النظام الساداتي المتحالف معها، بل المعادية له في واقع الأمر. وقرب نهاية الشهر الثاني من العام 1980، تحديداً في السادس والعشرين من شباط فبراير، افتتحت السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وأعلن إنهاء حال الطوارئ في الخامس عشر من أيار سنة 1980. ومضت الأشهر ثقيلة، متباطئة، مبتئسة بأفعال التطبيع التي لم تنجح جماهيرياً، ولم تقبلها الجامعات المصرية ولا المؤسسات غير الحكومية. وجاء كانون الثاني سنة 1981 بافتتاح معرض الكتاب الذي أعلن عن اشتراك إسرائيل فيه للمرة الأولى، تنفيذاً لمقررات التطبيع، الأمر الذي أدّى إلى احتجاج عدد من الهيئات الثقافية على هذا التطبيع، وتظاهر أعضاء لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية، مع أشكال الاحتجاج التي كان لا بد لها أن تصطدم بإدارة المعرض ورئيس هيئة الكتاب صلاح عبدالصبور الذي فرض عليه الوضع، ولم يستطع أن يحول بين الحكومة والموافقة على اشتراك إسرائيل في المعرض، فاضطر إلى الرضوخ صاغراً وتحمل الوضع المهين وهجوم الساخطين على السواء. وقامت لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية باعداد نداء وطني تحت شعار "لا للصهيونية، ولا لتمثيل إسرائيل في معرض الكتاب". واتصلت بالنقابات والهيئات المعنية للحصول على تأييدها للبيان الذي حمل توقيع عدد كبير من المثقفين، أذكر منهم فؤاد نصحي أمين الإعلام والثقافة في حزب العمل الاشتراكي، ولطفي واكد أمين اللجنة المركزية لحزب التجمع الوطني التقدمي والوحدوي، وكامل زهيري نقيب الصحافيين، وأحمد نبيل الهلال عضو مجلس نقابة المحامين، ومحمد الجندي عن دار الثقافة الجديدة، ومحمود بقشيش سكرتير جماعة أتيليه القاهرة للفنانين والكتّاب، وسمير فريد رئيس لجنة مقاطعة السينما الصهيونية، وعشرات من أسماء أعضاء لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية والمتعاطفين معها. وناصرت البيان نقابة الصحافيين ونقابة المحامين ونقابة الأطباء ونقابة الصيادلة والاتحاد العام لعمال مصر، فضلاً عن نقابات المهن السينمائية والتمثيلية والموسيقية وجمعية المؤلفين والملحنين وفروع أعضاء اللجنة البيان على رواد معرض الكتاب وقادوا تظاهرة ضد الجناح الإسرائيلي في المعرض، تصدَّى رجال الأمن لفضها. وأكد النداء أن مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب خطوة في مخطط شامل يسعى لتطويع العقل المصري لأهداف المشروع الصهيوني الاستعماري، كي يقبل التخلي عن هويته القومية وانتمائه لأمته العربية وحماسته لقضية الشعب الفلسطيني المضطهد، ولم تكن دعوة النداء إلى مقاطعة الكتاب الصهيوني في معرض الكتاب دعوة إلى التعصب الفكري في ما تنص عباراته، وإنما كانت دعوة احتجاج على أفكار استعمارية توسعية عنصرية، ورفضاً لاتجاهات تعتبر الشعب العربي الفلسطيني المطالب بأرضه، مجموعة من الإرهابيين بينما تقلب حقائق التاريخ لتعطي للإرهابيين الصهاينة حقوقاً تاريخية على أرض غيرهم. ولا شك أن اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب بالشكل الذي أعلن عنه - في ما تقول عبارات النداء - هو نتيجة لضغط إسرائيلي مكثف لدفع عملية "التطبيع الثقافي" إلى الأمام باعتبارها جبهة الحرب الأساسية الآن ضد العرب، ذلك على رغم أن إسرائيل لا تزال تحتل قسماً من سيناء، ويهدد قادتها بأن استكمال الانسحاب رهين بتطبيع العلاقات تطبيعاً كاملاً، وعلى رغم أن إسرائيل لا تزال تحتل الأراضي العربية الأخرى في الضفة الغربية وغزة والجولان وجنوب لبنان. ولذلك فعلى رواد المعرض التنبه إلى الخطر البالغ الذي يمثله اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب، ورفض كل اغراءات الدخول إلى الجناح الصهيوني تحت دعاوى حياد الثقافة أو رخص الكتب أو مجرد الفضول. وألقت أجهزة الأمن القبض على اثنين من أعضاء لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية، هما: حلمي شعراوي وصلاح عيسى، بعد الدقائق الأولى من توزيعهما النداء الذي لم يتوقف توزيعه بالقبض عليهما. واتسعت حركة الاحتجاج في الأيام التالية، وسارت داخل المعرض تظاهرات تهتف ضد التطبيع وضد كامب ديفيد، وأعيد توزيع النداء نفسه على رغم القمع الذي مارسته قوات الأمن المركزي والفرق الخاصة بفضّ التظاهرات، واعتقل اثنا عشر شاباًً بتهمة إهانة دولة أجنبية صديقة. وقد أورد الكتاب الرابع "من المواجهة" الذي أصدرته لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في نيسان 1985 وثائق الاستجواب الذي حدث مع المقبوض عليهم، فضلاً عن بقية الوثائق الخاصة بالمواجهة الثقافية التي مضى فيها أعضاء اللجنة نفسها، وذلك على نحو ما يكشف الكتاب الوثائقي الذي أصدرته اللجنة بعنوان "من مواجهة التطبيع إلى مواجهة الهيمنة" وصدر عن مركز البحوث العربية في القاهرة سنة 1994.