شهدت القاهرة في تموز يوليو من العام الماضي 1999 مواجهة بين القوى المناهضة للتطبيع مع إسرائيل وبين أنصار الحوار مع "أنصار السلام" في إسرائيل أو "المطبعين"، في ما عرف بحرب الفنادق، حيث عقدت "جبهة مقاومة التطبيع" مؤتمرها في فندق "شبرد" رداً على مؤتمر "جمعية القاهرة للسلام" الذي عقد في فندق "ماريوت"، وحضر المؤتمرَين كتّاب بارزون في مجالات السياسة والثقافة في مصر. وبدا المشهد، خصوصاً بالنسبة الى الذين شاركوا في مولد حركة مقاومة التطبيع في نهاية السبعينات، بالغ الغرابة والشذوذ. فالصراع الذي كان في البداية بين الرئيس أنور السادات وأجهزة حكمه من ناحية، وبين قوى المعارضة الوطنية وقطاعات أساسية من الرأي العام المصري من ناحية، يوشك أن يتحول بعد 21 عاماً الى صراع بين فريقين من المواطنين المنتمين إلى "جبهة مقاومة التطبيع"، بينما الحكم يقف متفرجاً وكأنه ليس طرفاً في الموضوع. فالمعركة التي كانت مستعرة ضد إسرائيل والذين انحازوا لها ووقعوا معها اتفاقات صلح وتحمسوا لإقامة علاقات "طبيعية" بين مصر وإسرائيل، تتراجع لحساب صراع بين قطاعين من الساسة والمثقفين والمهنيين والمهتمين بالشأن العام، بينما "التطبيع" يتعمق في المجتمع المصري، ويمتد إلى الأردن والمغرب وتونس وقطر، ودول عربية أخرى. وبلغ هذا المشهد المأسوي ذروته عندما أقدم البعض على اتهام عدد من الرموز الوطنية التي لعبت دوراً أساسياً في التصدي لكامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصرية بين السادات وبيغن وللتطبيع مع إسرائيل، بالخيانة والعمالة للموساد، لتأخذ المعركة ضد التطبيع منحى جديداً يقوم على تبادل الاتهامات داخل صفوف جبهة مقاومة التطبيع. وهناك تخوف حقيقي من أن تنتهي معركة مقاومة التطبيع التي جمعت الصف الوطني في مصر عند انطلاقها، إلى معركة تفرّق القوى الوطنية وتزيد من ضعفها وعجزها، يسيطر عليها منهج تصفية الحسابات السياسية الشخصية و"تقطيع الملابس" في وقت يفترض فيه أن تصبح، معركة كل العرب، سواء نجحت إسرائيل في فرض "سلامها" على الفلسطينيين خلال محادثات التسوية وإعلان دولة فلسطينية على جزء من أراضي الضفة والقطاع وبلا سيادة حقيقية في 13 أيلول سبتمبر المقبل، واستئناف المحادثات على المسار السوري، أو انفجر الموقف كله واضطر العرب إلى إعلان فشل التسوية السياسية. ففي الحالين ستصبح المعركة ضد التطبيع أحد أهم أسلحة المقاومة العربية. وقد يكون مفيداً لجميع الأطراف في الساحة المصرية والعربية أيضاً القيام بمراجعة نقدية نزيهة لحركة مقاومة التطبيع في مصر لاستخلاص الدروس من تجربة استمرت 21 عاماً حتى الآن، ومحاولة وقف الانقسام والتشرذم الذي يهددها بقوة هذه الأيام. وترتبط معركة مقاومة التطبيع ارتباطاً وثيقاً بقرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي فاجأ العرب والمصريين وكثيراً من أركان حكمه، بعزمه الاعتراف بإسرائيل وقبوله مفاوضات مباشرة معها، وتوقيع صلح منفرد وجزئي، خروجاً على قرارات قمة الخرطوم التي صاغت موقف الاجماع الرسمي العربي بعد هزيمة 1967 في الشعار "لا اعتراف لا صلح. لا مفاوضات مباشرة". وكان قرار السادات رد فعل مباشراً على انتفاضة الجماهير المصرية في 18 و19 كانون الثاني يناير 1977 ضد نظام حكمه وضد قرارات رفع الاسعار، التي اصدرتها حكومته برئاسة اللواء ممدوح سالم. فقد قدر السادات أنه لا حل لمشكلات مصر الاقتصادية التي تهدد حكمه ما لم يسارع بالاستجابة للضغوط الاميركية وتوقيع صلح مع إسرائيل بأي ثمن. وهكذا سافر الرئيس السادات الى القدسالمحتلة في 19 تشرين الثاني نوفمبر 1977، بادئاً رحلة "الاستسلام"، بعد أربع سنوات من انتصار تشرين الأول اكتوبر 1973، ما أدى بعد ذلك إلى توقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد في 17 أيلول سبتمبر 1978 واتفاقية الصلح المصرية - الإسرائيلية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في 26 آذار مارس 1979. وحظي موقف من السادات بقبول شعبي في مصر، بعد أن نجح جهازه الإعلامي القوي في اقناع الرأي العام بتخلي العرب عن مصر "التي ضحت من أجلهم"، وتهجمهم على شهدائها وتضحياتها، وبأن طريق تحقيق الرخاء والخروج من الأزمة الاقتصادية يبدأ بالوصول الى سلام مع إسرائيل. ووقفت قوى وطنية محدودة، لكن مؤثرة، في مواجهة هذه السياسات والاتفاقات، وتصدت لإقامة علاقات "طبيعية" مع "العدو" الإسرائيلي. وعلى رغم عزلتها في البداية سرعان ما اكتسبت وجوداً جماهيرياً مؤثراً، مع انهيار حلم الرخاء، والاحتكاك المباشر مع واقع "التطبيع" مع إسرائيل. كان أول صوت يرتفع بمعارضة هذه السياسات، هو صوت "حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي"، ولم يكن مضى على تأسيسه مع حزب مصر العربي الاشتراكي الحاكم وحزب الأحرار الاشتراكي أكثر من 19 شهراً. وتميزت حركة مقاومة التطبيع منذ بدايتها، خصوصاً في السبعينات والثمانينات، بميزتين: الأولى، الطابع الجبهوي والحرص دائماً على انضمام قوى جديدة إليها والترحيب حتى بالقوى التي اتخذت موقفاً متردداً أو مؤيداً لكامب ديفيد ومعاهدة الصلح. كما حدث مع حزب العمل ورئيسه المهندس ابراهيم شكري الذي كان وزيراً للزراعة في حكومة السادات عند قيام الأخير بزيارة إسرائيل وتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد، وبالتالي أيد الزيارة والاتفاقيتين. ثم امتنع حزب العمل بعد تكوينه العام 1978 برئاسة إبراهيم شكري عن التصويت على اتفاقية الصلح المصرية - الإسرائيلية في آذار مارس 1979 ولم يعارضها مكتفياً بالتحفظ بعض بنودها، ولكن، بمجرد تغيير موقفه وإعلان معارضته احتفى به الجميع، خصوصاً بعد تصاعد موقفه خلال العام 1980 وإعلانه شعار "مليون علم فلسطيني مقابل علم واحد لإسرائيل"، عقب رفع العلم الإسرائيلي على السفارة الإسرائيلية في القاهرة. كذلك الترحيب بانضمام مصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار الى المعارضين للتطبيع، على رغم أنه أيد رحلة السادات للقدس المحتلة وسافر معه إلى إسرائيل العام 1977 وأيد كامب ديفيد والمعاهدة. وشهدت هذه المرحلة أشكالاً جبهوية عدة تتسع لكثير من القوى والشخصيات التي تعارض التطبيع حتى لو اتخذت مواقف سياسية مغايرة من قضية التسوية السياسية وكامب ديفيد والمعاهدة، مثل جماعة "المصريين" التي لعب لطفي الخولي دوراً مهماً في تشكيلها، وضمت شخصيات من اتجاهات ومواقف مختلفة، واصدرت بياناً ضد التطبيع وقعه أربعون من أبرز القيادات السياسية والفكرية، من بينهم محمد صدقي سليمان رئيس الوزراء السابق وقائد كتيبة بناء السد العالي، والدكتور مراد غالب وزير الخارجية السابق والدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء السابق وسيف الإسلام حسن البنا أحد قادة جماعة "الإخوان المسلمين" ونجل مؤسسها. وجاء في بيان "المصريين": "ان رفع العلم الإسرائيلي في سماء القاهرة لا يخل بقومية مصر فقط، وإنما بمصالح المواطن المصري البحتة، فلاحاً وعاملاً ومثقفاً ورأسمالياً ووطنياً وقطاعاً عاماً". وشارك في توقيع البيان ممتاز نصار وكمال الدين حسين وعبداللطيف البغدادي. وتحولت جماعة "المصريين" بعد ذلك إلى جماعة المئة بعد أن وقع البيان مئة من أهم الشخصيات المصرية. الثانية: عدم الاكتفاء بالبيانات وإنما التحول إلى الحركة والفعل والتصدي للتطبيع بأساليب وأشكال مختلفة. من أول هذه الأشكال وأكثرها استمرارية "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" التي تشكلت عقب عقد مؤتمر للمثقفين الوطنيين والتقدميين في مصر، دعت إليه فريدة النقاش، أمينة مكتب الكتاب والأدباء والفنانين في حزب التجمع، وحضره مئات من أبرز مثقفي مصر في قاعة جمال عبدالناصر وحزب التجمع يوم 2 نيسان ابريل 1979. وبانتهاء مرحلة الثمانينات التي شهدت مواجهات حادة بين القوى المناهضة للتطبيع والسلطة، وعمليات قمع والقاء قبض على بعض رموز حركة مقاومة التطبيع، كما شهدت تحقيق انتصارات جزئية هنا أو هناك، بدأت مرحلة جديدة في التسعينات، لم تتوقف خلالها حركة مقاومة التطبيع، وإن اتخذت أشكالاً جديدة وأساليب مغايرة. ومع بداية التسعينات وقعت مجموعة من الأحداث والتطورات العالمية والاقليمية أثرت في كل شيء في عالمنا العربي، ولا شك في أن هذه التطورات بالإضافة إلى تطورات في بنية ومواقف الأحزاب والقوى السياسية المصرية وانطلاق موجة الإرهاب الذي مارسته الجماعات الإسلامية وتباين موقف الأحزاب منها أثرت بشدة في حركة مقاومة التطبيع. لم تتوقف حركة مقاومة التطبيع في مصر، وإن اتخذت أشكالاً جديدة واساليب مغايرة. وتوقفت السلطة عن عمليات القمع المباشر والمواجهة الحادة للمعارضين للتطبيع، مع الاندفاع في الوقت نفسه في عمليات التطبيع الرسمي على المستوى المصري ثم العربي. وحققت إسرائيل بعض الاختراقات لساحات المقاومة للتطبيع، وقامت خلافات داخلية في صفوف الحركة السياسية المناهضة للتطبيع نتيجة لمجموعة من الأسباب من أهمها التطور في العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية. وربما يكون أخطر ما شهدته فترة التسعينات اندفاع الحكم في مصر لتنفيذ اتفاقات التطبيع الاقتصادي والتجاري، والاستجابة للأهداف الإسرائيلية التي تسعى إلى رفع جميع القيود والحواجز أمام حرية انتقال السلع والخدمات على اختلافها، بما في ذلك النتاج الثقافي، وإزالة هذه العوائق أمام حرية انتقال الأفراد والمؤسسات ورؤوس الأموال بين الدول العربية والدولة العبرية. وظهر ذلك بوضوح في مجالات عدة، خصوصاً الزراعة والنفط والعمالة والتبادل التجاري والزيارات الرسمية المتبادلة ثم السوق الشرق أوسطية. وفي مواجهة هذه الهجمة التطبيعية التي نجحت في اختراق قطاعات مختلفة من المجتمع المصري، تمتد من رجال الأعمال إلى العمال والفلاحين مروراً بالمهنيين والمثقفين، واصلت حركة مناهضة التطبيع نشاطها، وضمت إلى جانب "حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي" و"حزب العمل الاشتراكي" و"الحزب الشيوعي المصري" وهي قوى المواجهة الأساسية في الثمانينات "الحزب العربي الديموقراطي الناصري" الذي تم تأسيسه عام 1992، "والإخوان المسلمون" و"حزب الأحرار الاشتراكي" و"حزب الوفد". كما برزت في هذه المرحلة إلى جانب "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، "اللجنة المصرية لمواجهة الصهيونية ومقاومة التطبيع"، وتم إنشاؤها بمبادرة من الحزب الناصري، وعقد الاجتماع الأول لتأسيسها في حزب التجمع بحضور رؤساء أحزاب التجمع والناصري والعمل والأحرار والوفد العام 1994، وأعلن عن قيامها تحت اسم "لجنة الأحزاب والمنظمات الجماهيرية لمقاومة التطبيع" ثم تغير الاسم بهدف توسيع عضويتها وضم بعض الشخصيات العامة إليها. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1996 تأسست "الحركة الشعبية لمقاومة الصهيونية ومقاطعة إسرائيل" من مجموعة من الشخصيات الوطنية الحزبية والمستقلة. وعلى رغم أن الحزبيين لعبوا دوراً مهماً في تشكيل هذه الحركة عبدالغفار شكر وعبدالعال الباقوري وحلمي شعراوي من حزب التجمع، وعادل حسين ورفعت سيد أحمد ومحسن هاشم من حزب العمل، وأمين اسكندر وحمدين صباحي وكمال أبو عطية وفايز الكرتة وصلاح دسوقي من الحزب الناصري، فقد كانت تعبيراً عن وجود انقسامات داخل الأحزاب، خصوصاً الانقسام في الحزب الناصري بين الحرس القديم وجيل الشباب الذي لعب الدور الأساسي في تكوين الحركة. كما برز في هذه المرحلة دور اتخاذ النقابات الفنية واتحاد الفنانين العرب برئاسة سعد الدين وهبة. ولعبت هذه القوى جميعاً أدواراً متفاوتة في مواصلة التصدي للتطبيع مع إسرائيل وللسوق الشرق أوسطية، سواء من خلال المؤتمرات أو البيانات أو الندوات التي عقدت في مقار الأحزاب والنقابات ومراكز البحوث. * كاتب مصري، رئيس تحرير مجلة "اليسار" - القاهرة.