كنا نضع الشارة السوداء على صدورنا، فقد كان عامنا الدراسي الأول بعد وفاة جمال عبدالناصر. وكان الفنان حاتم ذو الفقار يقود طابور الصباح بصوت جهير وانضباط عسكري مدهش، وقد كان في فصل الثانوية العامة وقتها. وكان يقف بجواري الطالب محمد أبو دنيا الذي سوف يعدم بعد سنوات في تنظيم التكفير والهجرة مع شكري مصطفى ورجاله. في الحسينية الثانوية قابلت "أبلة" نادية مدرسة مادة المجتمع العربي كان التأثير القومي للحقبة الناصرية ممتداً من خلال تدريس هذه المادة، وسوف تمارس علينا هذه السيدة زوجة السياسي مدحت موسى تأثيراً ملحوظاً، لأنها علمتنا التمرد والاستقلالية في التفكير. في مدرستي الثانوية اخترت رئيس الفصل طيلة سنوات الدراسة، ورئيس مكتبة المدرسة، وأمين اللجنة الثقافية، مع أن جسمي الصغير وقتها لم يكن يشي بهذه الزعامة، إلا أن فصاحتي الأدبية كانت بطاقة اعتمادي. وفي سنوات الدراسة الثانوية صادقت مؤنس، وهو شاب وسيم دمث الأخلاق اكتشفنا بعد ذلك أنه بهائي، وفي استمارة الثانوية العامة كتب أمام خانة الديانة بهائي فقامت الدنيا ولم تقعد. تحت تأثير رومانسيتي انتهت صداقتنا من جانبي عندما طالبته بكل سذاجة بالاختيار بيني وبين عقيدته، وخسرت صديقاً حميماً، ترك تأثيراً جميلاً داخلي. تزاملت منذ المرحلة الاعدادية مع رجل القضاء في ما بعد اسامة عطاوية، والذي خلف حاتم ذو الفقار في قيادة طابور الصباح واتحاد الطلاب بعد تخرج الثاني والتحاقه بالجامعة. وعلى رغم تفوقي قدمت للتحقيق في مدرستي. كنت أول مصري يهاجم الرئيس الليبي معمر القذافي. وإذا كان غيفارا فتن المثقفين المصريين في الستينات، فإن الرئيس الليبي الشاب فتننا في منتصف النصف الأول من السبعينات. كان يمثل لشبابنا قيادة فتية متمردة، وكنا نتابع أخباره بشغف هو ورفاقه الثوار: عبدالسلام جلود والخويلدي الحميدي وأبو بكر يونس والمقريف. وعندما هاجم القذافي السياسة المصرية لسبب أو آخر كتبت مقالاً شديد اللهجة وعلقته في فناء المدرسة، فقامت الدنيا ولم تقعد، وحقق معي أمنيون غرباء، ولم يقف بجانبي في محنتي إلا أبلة نادية، ومن الغريب أن احسان عبدالقدوس هاجم القذافي بعدها بأسابيع على صفحات "أخبار اليوم" في مفارقة لافتة. وعندما اعتصم طلاب كلية هندسة عين شمس المجاورة انضممنا اليهم مطالبين بالحرب بعد أن سوّف السادات في بدء المعركة في عام 1971، عام الضباب كما سمي وقتها، وأذكر أن وزير التعليم وقتها علي عبدالرازق زارنا في المدرسة، وحاول أثناءنا عن الانضمام الى طلاب الهندسة. كانت مصر تغلي، وكنا لا نزال ندرس في السنة الأولى الثانوية كتاب السادات "يا ولدي هذا عمك جمال" الذي انقلب على ما فيه تماماً لاحقاً في خطبه، وفي "البحث عن الذات" بعد أن توطدت له أركان الحكم. إلا أنه في العام الثالث الثانوي اندلعت حرب تشرين الأول أكتوبر وانضممنا وقتها الى المقاومة الشعبية وطالبنا بالسفر الى الجبهة. كنا ندرس باحترام مادة التربية العسكرية التي ألغيت من المدارس الثانوية بعد رحلة السادات للقدس، وكنا نزهو أمام فتيات الحي بلبس الفتوة الرمادي والأزرق، وبعثت فينا حرب أكتوبر روحاً جديدة، وتحول السادات الذي كانت ترجمه تظاهرات طلاب الجامعة طيلة المرحلتين السابقتين الى بطل تراجيدي، إلا أنه سوف يهوي بعدها الى القاع بعد بدء سياسات الانفتاح. ربما كنت الجامعي الوحيد في جيلي الذي تخرج في ثلاث كليات مختلفة. حصلت أولاً على بكالوريوس الزراعة، ثم انتسبت الى كلية الآداب قسم الفلسفة وحصلت على الليسانس، ثم أكملت دراستي في كلية التربية حتى عينت معيداً، وتدرجت في البحث فحصلت على الدكتوراه، في أصول التربية عام 1991، ثم عينت استاذاً مساعداً عام 1997 وحتى الآن في قسم أصول التربية في الجامعة نفسها. التحقت بالجامعة في نهاية عام 1974، وفي العام التالي كانت الجامعة تغلي إزاء ما تكشفت عنه أبعاد سياسات الانفتاح الاقتصادي. أسسنا منذ السنة الأولى نادي الفكر الأدبي ورأسه الشاعر محمد عبدالعليم الذي عمل بالصحافة في ما بعد. ونافس على منصب نقيب الصحافيين في الدورتين الأخيرتين. كنا خمسة وثالثنا القاص والصحافي اللامع محمد الشاذلي مجلة "المصور" الآن والشاعر عبدالمنعم خليل في الهيئة العربية للتصنيع الآن والشاعر محمد عبدالله رحمه الله، وكان معنا محمد القصاص الشاعر الغنائي الآن والذي تركنا وحول أوراقه إلى كلية الآداب، والشاعرة علية جودة، والمعيدة فاطمة الاستاذ الدكتور الآن. في هذا العام، كونت أنا ابن التاسعة عشرة النادي السياسي وبدأنا نشارك بفاعلية في النشاط الطلابي، وكانت لائحة اتحادات الطلاب وقتها تفرد للنشاط السياسي لجنة خاصة وهو ما ألغته لائحة 1979 كان ساعدي الأيمن إحدى الفتيات المثيرات للدهشة: نعمة رجب، ومعنا محمد الشاذلي وغيرهما.. والغريب أن نعمة هذه تزوجت في نهاية سنوات الدراسة واختفت تماماً، ولم نعد نسمع عنها شيئاً. ستقاسمني نعمة رجب سنوات النضال السياسي، كانت مفتونة بهذا الوطن، وقد هددت مرات من قبل الأجهزة الأمنية بإيذائها، وكانت تمثل ورقة ضغط بالنسبة لهم لتفاهمنا معاً ولتقاربنا الفكري الناصري لم تكن "هدى" قد ظهرت بعد، وعندما ظهرت هدى في حياتي بعد عامين قاسمتني الحلم المستحيل لمدة عامين، قبل أن تفرقنا قلة الحيلة بعد التخرج. في هذه الأجواء كانت المشاجرات تحتدم بين القوى السياسية المختلفة. كان العداء عنيفاً بين اليساريين والإسلاميين، وبين الناصريين والساداتيين، وبين اليساريين والساداتيين، وكان يصل الى الاشتباك بالأيدي وتمزيق مجلات الحائط. في العام الأول من الدراسة الجامعية طرقنا أبواباً كثيرة: شاركنا بانتظام في أكبر تظاهرة سياسية عرفتها الجامعات المصرية وخلال لقاء ناصر الفكري السنوي، الذي يعقد في جامعة عين شمس، وكان الوزراء والسياسيون يحرصون على لقائنا ومحاولة استمالتنا، كما كان بعض الرموز القومية العربية يلتقي بنا: أذكر كمال رفعت، وكمال شاتيلا، والدكتور حاتم صادق والدكتور عصمت سيف الدولة، وربما محمود أمين العالم، وكانت تدور مناقشات سياسية محتومة حول المسألة الناصرية، وانحراف السياسة الساداتية وقتها، وكانت الجامعة تفتح مدينتها الجامعية للإقامة والتكفل باطعامنا طيلة أسبوع كامل، إلى أن توقفت هذه الفعالية بعد تظاهرات الخبز في 1977 وتمت مطاردة كثير من الكوادر الناصرية والماركسية واعتقالها. وكنا نستمتع بحفلات الشيخ امام وأحمد فؤاد نجم وعدلي فخري. وتمزقت في هذه الأعوام بين الشعر والنضال السياسي. حصلت على مراكز أولى في الشعر والقصة والمسرحية على مستوى الجامعات المصرية، وقد حرصنا على استمرار النشاط الأدبي على رغم اختلافنا السياسي، فقد أسس صديق العمر محمد عبدالعليم أسرة السادات وأسست النادي السياسي مما اضفى على نشاطنا الأدبي الفتور والتذبذب. لمحمد عبدالعليم أنا مدين بالفضل، في انه انقذني من الاعتقال في أحداث 18 و19 كانون الثاني يناير 1977، ولهذا قصة أخرى. في سنوات تكويني الأولى كنت متأثراً باللص الشريف أرسين لوبين، الذي يسرق الاغنياء ليوزع ما يسرقه على الفقراء، وتأثرت بسيرة الفاروق عمر، كان العدل الاجتماعي يؤرقني، ولا يزال، كما كانت الحرية النجم الوضاء الثاني، ولذا كنت مفتوناً بعبدالله النديم، وبابلو نيرودا وصلاح عبدالصبور، إلا أن تأثير الشاعر الراحل كامل الشناوي وغيفارا كان كبيراً في تكويني. ربما كان الحزن هو المحور الثالث في حياتي. فللموت سؤدد لا ينكر في طفولتي، ولذا تلازم الموت والحب والخيانة في شعري. ومن الغريب أن وزير الزراعة الحالي يوسف والي كان يدرسنا في سنوات الكلية مادة البساتين، وكان يبشر بما طبقه بعد ذلك وقضى به على الزراعة في مصر: البستنة والقضاء على زراعة القمح والقطن والبرسيم من أجل التفرغ للفواكه والزهور وتصديرها وشراء القمح بعائدها. في هذا العام زارنا ابراهيم شكري وكان وزيراً للزراعة وقتها، وفي نهاية سنة الجامعة سيجيء السادات الليلة، ويهبط بطائرته العمودية ليلتقي بأساتذتها ويفتح كوبري شبرا الخيمة. في هذا الوقت كانت مجلة "الدوحة" صدرت، وبدأت أنشر فيها بعض الموضوعات الصغيرة، وكانت المجلة فتنتنا بإخراجها الجديد، وكان الدكتور محمد ابراهيم الشوش رئيس تحريرها، ومنها تقاضيت أول مبلغ من عالم الصحافة، كما كان للشاعر فاروق جويدة الفضل في أنه فتح لي صفحته الثقافية اليومية دنيا الثقافة وسببت مقالاتي الصغيرة وقصصي القصيرة شهرة لا بأس بها بين أساتذة الكلية. كان العداء لإسرائيل، للامبريالية الأميركية، ومناصرة القضية الفلسطينية وتبني الحلم القومي الوحدوي مرتكزات أساسية في همى السياسي وقتها. وأذكر أن الرئيس السادات شتمني في خطاب له ونعتني بالحاقد دون أن يذكر اسمي بسبب مقال حول حياة الترف التي يحياها. ومن الطريف أن أبي الذي كان من قيادات العمل السياسي في الحي كنت أحضر معه الاجتماعات السياسية للجنة القسم، أنا باعتباري ممثلاً للشباب بالمنظمة، وهو بصفته عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي. من الغريب أنني لم أهمل في هذه الفترة ممارستي لكرة القدم في ناشئي الزمالك، قبل أن أتوقف عن ممارستها مع انشغالي بهموم أخرى فكرية وسياسية وأدبية، وقد كانت موهبتي في الكرة مشهوداً بها، وكان زملائي في المرحلة الابتدائية يطلقون عليّ اسم "علي محسن" تشبهاً بنجم فريق الزمالك اليمني الجنوبي الأصل في الستينات وهداف فريقها في عصره الذهبي، وبالفعل كنا متشابهين شكلاًَ وأداء واسماً. وربما كان لأخي الأكبر رؤوف الفضل في التحاقي بصفوف فريق الزمالك لأنه كان كابتن فريق كرة السلة للناشئين قبل أن يعتزل ويصاب في حرب أكتوبر، وهو شجعني بدوره للانصراف عن الكرة. أذكر كيف كانت حفلات الشيخ أمام وأحمد فؤاد نجم وعدلي فخري تملأنا بالحماس، وكثيراً ما كانوا يقيمون حفلاتهم في الجامعة قبل أن تغلق في وجوههم ووجوه غيرهم بعد أحداث 18 و19 كانون الثاني يناير 1977 التي شاركت فيها. عزفت طيلة حياتي، ومنذ دراستي الجامعية عن الانضمام الى التنظيمات السرية، وكذلك الاحزاب السياسية، وحتى الآن انتمي الى حزب الشارع بلغة الشوام، حيث أجد في الاستقلال حيزاً أكبر من الحرية، وعزز ذلك الضعف السياسي الذي رافق مولد الأحزاب المصرية وحتى اليوم. ورفضت بشدة الانضمام الى المنابر التي أنشأها السادات داخل الاتحاد الاشتراكي العربي وقتها، وقبل أن يحولها الى أحزاب ويطلق رصاصة الرحمة على الاتحاد الاشتراكي على الرغم من انضمام كثير من مسؤولي منظمة الشباب والاتحاد الاشتراكي إليها أملاً في استمرار مزايا التفرغ التي يتمتعون بها، ودخلت في مناقشات كثيرة معهم وأنا أرى أقنعة كثيرة تسقط وخصصاً من مدعي الناصرية الذين برروا هرولتهم بحجج تنضح منها الانتهازية. وقفنا في انتخابات مجلس الشعب عن حي الظاهر والازبكية في القاهرة مع سعد الدين وهبة، وكنا نعتقد أنه الرمز الاشتراكي الأقرب الى توجهاتنا، ومن الطريف أنني انفقت 12 جنيهاً من مصروفي وقتها في حملته، وكان ينافسه عبدالمنعم الصاوي وكيل وزارة الثقافة وقتها، ووزيرها بعد ذلك، وقاومناه بضراوة. ونافسهما رأسمالي مصري من رجال الأعمال المحترمين والجادين هو المهندس كمال غنيم، وأذكر أنني عقدت له جلسة محاكمة في الشارع طيلة الليل وحتى الفجر أحاكم من خلاله الرأسماليين، وخسر في الاقتراع، وإن كان ترك أثراً طيباً، ونافس لدورتين متتاليتين. لكنه لم يجد أساليب المناورات الانتخابية على رغم ما انفقه من نفقات باهظة، وربما كان موقفنا مغلفا بالرومانسية، وأذكر كيف كنا نقف في يوم الانتخاب مع الفنانة سميحة أيوب زوجة سعد الدين وهبة في اللجان الانتخابية، واعيدت الانتخابات بين سعد الدين وهبة والصاوي، لكن تدخل الإدارة، وتزوير الانتخابات، واللعب بورقة الاقباط رجحا كفة عبدالمنعم الصاوي رحمه الله، والذي لم يحبه المواطنون في الدائرة، كما ابتعد عنهم بعد فوزه في الانتخابات. أين ذهب فتى التاسعة عشرة الذي كان في السنة الأولى الجامعية وتملكه شهوة كيتس بتغيير العالم، ولماذا تقاعد أو انصرف أو تحول أغلب نجوم العمل الطلابي قرفاً ويأساً وإحباطاً، حتى إن رندا إحدى القيادات الماركسية الشهيرة في جامعة عين شمس امتهنت تصوير أفراح الأثرياء الآن. ولم يستمر إلا القليلون والمهمومون بقضايا الوطن أمثال منى صادق وأمين أسكندر وحمدين صباحي وعماد صيام وعبدالله السناوي وعبدالحليم قنديل وأمل محمود. أسأل نفسي الآن السؤال مجدداً: هل كانت خيارات فتى التاسعة عشرة صحيحة؟ وأجيب بالإيجاب، ولو عدتم عدنا. كاتب مصري