"جمهورية الضمير" سيرة حياة السياسي اللبناني ريمون إده الذي حمل صفات ومناقب أثرت الحياة العامة في وطن وجذبت محبيه وأخصامه في آن. وفي الكتاب الذي نبدأ اليوم نشر حلقات منتخبة منه، نقرأ مشاهد من عيش نخبة طالعة من المجال الحقوقي تحاول الحفاظ على دولة واستقلال وحريات وانفتاح. كان يقول إنه قد يموت برصاصة "لكنني أرفض أن أموت تعذيباً أو بوسائل بوليسية". ولم يمنعه ذلك، في تشرين الثاني نوفمبر 1999، من سؤال أحد أصدقائه: "هل صحيح أن والدك مات في20 دقيقة؟". بعدما ردّ عليه بالإيجاب، قال: "إذاً صلِّ لي لأموت مثله، ولا أموت من المرض ولا من العذاب". أبلغ الأطباء ريمون إده مذ اكتشفوا مرض سرطان الدم لوكيميا في جسده قبل أشهر، أن مواظبته على العقاقير من شأنها منحه أملاً إضافياً في الحياة يستمر سنة ونصف سنة، في حين أن امتناعه عن متابعة العلاج ربما أدى إلى موته على قارعة الطريق في أي وقت. في البداية كتم الخبر عن القريبين منه، واستجاب لرغبة الأطباء في خضوعه لعلاج كيماوي منتظم في مستشفى ابن سينا في باريس. في هذه الأثناء كان موظف الاستقبال في الفندق يُعلم المتصلين ب"العميد" أنه في إجازة في الريف الفرنسي للراحة. بعد فترة قصيرة أوقف العلاج عندما بدأ شعره يتساقط وخشي اكتشاف الناس حقيقة مرضه، فقرّر الانقطاع عنه. إذذاك كتب وصيته في الشهر الذي سبق وفاته. قال لطبيبه، مُجدّداً، إن ما يخيفه ليس الموت بل تردّي صحّته خشية أن يصبح "عالة" على أحد من أفراد عائلته. في سنيه ال87، لن يكون في وسعه احتمال نفسه على سرير أحد - أياً يكن - أو يتكئ على ذراع أي من أفراد أسرته أو أصدقائه، أو مَن يُعاونه على التصرّف والحركة في الإنتقال، أو "يُمسك بي من مكان إلى آخر". دفعته شجاعته إلى مواجهة هذا المرض، وفي الوقت نفسه عزمه على عدم مقاومته وتسليمه بقدره، وإلى بناء فلسفة مثيرة لمفهوم رفض الشيخوخة والعجز والتهاوي البطيء للجسد الصلب الأنيق. يعيش هذا الرجل دائماً بشروطه هو، حيث يكون، وفي أي حقبة من حياته. يتخذ قراراته بشروطه، ويحدّد أمد صداقاته وعداواته بشروطه. يقترب ويبتعد بشروطه. ثم يموت بشروطه. وهو لذلك أحبّ الحياة بشروطه، وخصوصاً في تفاصيلها ومظاهرها البرّاقة والمكشوفة وفي صخبها العام كما لم يعش أحد مثله، مملوءة بالأشخاص والأسرار والأحداث والمغامرات والمجازفات والتحوّلات والمفاجآت والمفارقات، وحتى الرتابة، بدءاً من كونه، مطلع شبابه، وجد نفسه يعيش في بيت رئيس للجمهورية. في هذا الإصرار على شروطه وعلى التمسّك بخياراته في المبادرة وردّ الفعل والتصرّف والمواجهة والمهادنة والمباغتة، يُقيم مفهومه للحرّية الذي لم يتنازل عنه مرّة، ولا ساوَم يوماً على حقّه فيها، وفي أن يعيش الديموقراطية في كل تفاصيل حياته الطويلة، في الحزب وفي مكتب المحاماة، في البيت وفي البرلمان وفي الحكومة، في بيروت وفي باريس. وحيداً وفي وسط أصدقائه ومنافسيه. عندما غاب ريمون إده كان قد عمّر أكثر من أفراد بيت أبيه جميعاً. فكرة الشيخوخة هذه، وحيداً، أضحت أشبه بفلسفة عنده: "عندما لم يعد في إمكان الإنسان أن ينتج عقلياً ويُبدع، وخصوصاً كعازب لا عائلة من حوله، فلا سبب لوجوده". كان يقول أيضاً: "لو كنت تزوّجت وصار عندي أسرة، ربما ساعد ذلك على التمسّك بالحياة والحفاظ عليها والاستمرار فيها، وإن مريضاً. لأن ثمة مَن يكون إلى جانبك وتريد الاستمرار في الحياة معه ومن أجله. أما وأنا عازب، شخص مثلي في تصرّفاته، فلا أرضى بأن أزعج أحداً أو أكون عالة عليه". ضاعف شعوره بهذه الوحدة وجوده في المنفى في باريس ربع قرن، في جناح في فندق لا في بيت يملكه، بعيداً من عائلته ومن دون أسرة. ظلّ يحمل أسراره معه ووحده. الأسرار الشخصية وتلك السياسية، وأسرار الصداقات والعداوات، فيُظهر بذلك قدرته في السيطرة عليها من غير توهّمه خسارة عدم كشفها أو تدوينها. فاتحه تكراراً غسان تويني في إرسال فريق صحافي من جريدة "النهار" إليه، في باريس، لمباشرة العمل على كتابة مذكّراته ونشرها في كتاب. لكنه كان يرفض، متمسّكاً بوجهة نظر مفادها عدم تقاسمه وآخرين أسراره هو، حتى وإن ذهبت هذه الأسرار إلى التاريخ. والتاريخ فقط. على أن ثمّة سبباً آخر كان يحضّه على رفض تدوين مذكراته، هو العبارة الفرنسية التي حفظها عن والده إميل إده القائلة "وحدهم الأغبياء يكتبون مذكّراتهم" il n y a que les cons qui ژcrivent leurs mژmoires. ثم أضاف: "لا مبرّر للكتابة من أجل مديح شخصي. إذا حرّرت بلدي سأكتب كيف حرّرتها. لكنني لن أفعل كي أتحدّث عن نفسي". عبارة الأب ردّدها أيضاً شقيقه بيار الذي رفض بدوره كتابة مذّكراته، ومات في 19 آب أغسطس 1997 من دون أن يكتب. عبء حِمْل الوحدة وضجرها والأسرار في سنّ متقدّمة لم يجعلاه يخاف ضياع هذه الأسرار معه. فما كان يعوز وحدته هو طمأنة عميقة في نفسه تقول برغبته في الاحتفاظ بصحّة جيدة. وما كان يرضيه إلى أسراره أنه غير نادم على عدم كشفها أو نشرها، ولن يُقلقه أن تموت بموته. يصحّ ذلك على الأسرار التي يملكها عن أسباب قبول والده رئاسة الدولة تعييناً عام 1943 وأسرار حزب الكتلة الوطنية في حقب عدّة، وأسرار انضمامه مرغماً إلى الحلف الثلاثي عام 1967، وأسرار حملاته الانتخابية لرئاسة الجمهورية، وأسرار تحالفاته وخصوماته، وسواها الكثير الكثير من عروض وصفقات فوتح بها. فكان يقول أمام عدد من أصدقائه إن بعضها "مؤذ نشره في هذه الأيام. وفي هذه الحال أفضل تركها مكتومة". عندما يعتزم كشف جانب مخفي من حادثة ما، يفرض هو المبادرة وبقدر ما يشاء من سرد الوقائع من غير أن يُستَدرَج. يقول كل شيء عنها أو لا يقول شيئاً. وفي الغالب يكون ذلك أمام القريبين منه فحسب. أما الجوانب الحميمة والشخصية الوفيرة، القديمة والغامضة منها خصوصاً، فمطوية تماماً عنده وعند شركائه فيها. آخر عيد ميلاد له جعله يدرك ما هو أكثر من ذلك. عيد ميلاده في 15 آذار مارس. في الغالب يترك احتفاله بالذكرى إما إلى 14 آذار وإما إلى 16 منه، ولكن ليس في 15 آذار الذي يقصره على زيارة أصدقاء قدامى تعود علاقته بهم إلى سنوات طويلة، فيقصدهم ويسهر معهم. في اليوم السابق 14 آذار، أو في اليوم التالي 16 منه، يمضي عيد ميلاده مع عدد محدّد من الأصدقاء القريبين منه لا يزيد على 10. قبل شهر من ذكرى ميلاده ال87، طلب من أنطوان توفنكجي الاحتفال به في يوم 15 آذار بالذات، وحضّه على جمع أكبر عدد من أصدقائه من حوله. فحضر في تلك الليلة 12 مدعواً معظمهم من أصدقائه القدامى أو المقرّبين منه الذين يلتقيهم دائماً في باريس، واحتفل بالمناسبة معهم في مطعم باريسي مشهور اسمه Le Doyen، أي "العميد"، اللقب الذي حمله في حزب الكتلة الوطنية منذ 28 أيلول سبتمبر 1949 بلا انقطاع، وصار لأكثر من نصف قرن يتقدّم اسمه، في الحزب وفي المهنة وفي مجلس النواب وفي الحكومة. ينادونه به أكثر من ريمون إده، ومن أي صفة أخرى. ليلتذاك كان رجلاً مختلفاً تماماً لا يعرفه أي من الحاضرين. يتكلّم قليلاً ويصمت طويلاً، لا يمزح ولا يداعب إلا للحظات، ولا يُزرّك على جاري عادته ويستفز ويُغضب. قلّما كان يترك لسواه إدارة سهرة عيده والسيطرة على أوقات الفرح والسعادة فيها. لكنه مكث في تلك الليلة جالساً إلى الطاولة، لا يغادرها. يجيب باقتضاب عندما يُسأل. يصغي إلى الجميع ويبتسم، ويعلّق بجمل قصيرة منطوية على رموز ملتبسة. وضع له أصدقاؤه شمعة واحدة في قالب الحلوى. وعندما أُحضر له شرد ذهنه. الولادة في الاسكندرية يوم ولادته في الإسكندرية في 15 آذار 1913، كان أبوه في بيروت. أبصر النور في بيت جدّه جورج لطف الله سرسق في تلك المدينة المصرية الواقعة على المتوسط. رغبت جدّته ماري زهّار، الصيداوية، إلى ابنتها لودي في أن تلد بالقرب منها، في مقر إقامتها الدائمة هناك بعد وفاة زوجها الثري والوجيه الأرثوذكسي المعروف. في الإسكندرية أقام أيضاً بعض أقربائه. تعرّف جورج لطف الله سرسق إلى ماري زهّار وهي في سن ال 15، فأحبّها. ثم لم يتردّد في خطفها من أمام باب مدرسة راهبات الناصرة ليتزوّجها. ذهبت لودي ووضعت الصبي الأول بعد سنة على زواجها من إميل إده عام 1912. قبل ذلك ب29 عاماً، في 14 أيار مايو 1884، وُلد الأب إميل في دمشق. وعلى رغم انتساب البيت إلى بلدة إده قضاء بنت جبيل - مع أن ريمون إده غالباً ما تحدّث عن تحدّر عائلته من قرية أخرى في جبيل هي يانوح قبل النزوح إلى إده - فإن أياً من الأربعة، إميل وريمون وبيار وأندريه، لم يولد فيها. كان الانتماء السياسي إلى بيروت أولاً، والانتماء الشعبي إلى تلك البلدة الصغيرة، مسقط الرأس. في كانون الثاني يناير 1913 كتبت لودي إلى زوجها المقيم في بيروت تُعلمه أنها ستضع بعد شهرين، وحضّته على الحضور إلى الإسكندرية بعد السعي لدى اصدقائه النافذين في السلطنة العثمانية للحصول من الآستانة على تأشيرة سفر إلى مصر. قصد مصر واطمأن إلى صحة زوجته وبكره ريمون ثم عاد إلى بيروت. ثم ما لبث أن قرّر مجدّداً الذهاب إلى مصر عام 1915 بعدما بلغه احتمال ملاحقة سلطات الآستانة إياه. فاتح صديقه والي بيروت سامي بكر بيك في نيّته. كان تعرّف إليه في أثناء عمله محامياً لقنصلية فرنسا، وأصبحا يلتقيان بانتظام في نادي "الاتحاد الفرنسي" في محلة الزيتونة ثلاث مرات أسبوعياً للعب البريدج، هوايتهما المشتركة. ومن كثرة معرفة الوالي بميول المحامي الشاب إلى تحرّر بلاده من حكم السلطنة العثمانية، وانخراطه في نشاطات استقلالية وأخرى مناوئة للعثمانيين اتسمت مع رفاق له بالسرّية، حافظ على صداقته وأصبح مصدر حماية له. عندما أعلمه بخبر السفر إلى الإسكندرية لرؤية مولوده الأول، استجاب الوالي من فرط ما سمع منه، وهما يجلسان مع آخرين إلى طاولة البريدج، عن هذا المولود الجديد الذي كان ينتظر. بعد سنوات طويلة في معرض استعادة هذه الحادثة، سوف يقول الابن لأبيه عندما أصبح شاباً: "لو كنتَ تعرف الصبي الذي سيأتي لما تحمّست إلى هذا الحدّ". نهار سفره، مستبقاً ملاحقة جنود السلطنة العثمانية له، ترك لسامي بكر بيك رسالة تنبئه بتغيّبه عن نادي "الاتحاد الفرنسي" تفادياً لإحراجه، ولصرف الانتباه عن مساعدته له على السفر. بعد ساعات حضر الوالي إلى النادي، فأُعلم بالأمر. على الأثر نظر الوالي إلى البحر من شرفة النادي المطلة على الشاطئ وخاطب قوميسير الشرطة التركية وهو يرى الباخرة تمخر البحر قبالته: "أوقفوا هذا الكلب". باغت الناس بعبارته تلك لمعرفتهم بالصداقة التي تجمع الرجلين. لكن الوالي افتعل شتيمته هذه بغية تبرير سفر إميل إده من غير إرادته، وتنصّلاً منه أمام اسطنبول التي كان تبلّغ منها إشعاراً بإلغاء تأشيرة سفر صديقه المحامي بعدما كان صدر قرار بتوقيفه وملاحقته. يوم وُلد سمّاه أبوه ريمون، إعجاباً بالرئيس الفرنسي ريمون بوانكاريه الذي تولى حكم فرنسا عامذاك وحتى عام 1920. في ما بعد صار ريمون إده يعزو التسمية إلى اعتقاد أبيه أنها ربما قادته، هو الصبي، إلى مستقبل باهر كالذي كان لريمون بوانكاريه. مع أن إميل إده لم يلتقِ ريمون بوانكاريه إلا في الأول من شباط 1919، في إطار مهمة الوفد اللبناني الأول إلى مؤتمر الصلح في باريس. ظلّ ريمون الصغير حتى سنته السادسة، مقيماً مع والدته لودي وأخته أندريه في الإسكندرية. سكنت لودي مع ابنها ريمون في بيت أخواله خمس سنوات حتى عام 1918. قبل سنة وُلدت أخته أندريه. في الإسكندرية تلقّى دروسه الابتدائية في مدرسة الآباء اليسوعيين. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي حَكَم خلالها العثمانيون على إميل إده بالإعدام غياباً، رجعت العائلة إلى لبنان منتصف تشرين الأول 1918 من طريق حيفا في فلسطين في باخرة حربية فرنسية، والتحق الصبي بمدرسة الآباء اليسوعيين في الأشرفية. في هذه المدرسة تعلّم تاريخ فرنسا ورسم خريطتها وحفظهما، قبل أن يتعرّف متأخراً، شاباً، إلى تاريخ بلده وجغرافيته مذ بدأ يرافق كميل شمعون في رحلات الصيد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. عام 1932 دخل مدرسة الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت وتخرَّج فيها عام 1934 مجازاً في الحقوق. من مقاعد الجامعة إلى مكتب والده للمحاماة في شارع اللنبي، متدرّجاً حتى عام 1936. توزّع اهتمام المكتب بين الدعاوى الجزائية وتلك التجارية التي قصرها على الأجانب لا سيما منهم الفرنسيين. خلال حقبة وجود والده في رئاسة الجمهورية، أذن له بالمرافعة أمام المحاكم المختلطة فقط، لأن قضاتها تابعون للمفوَّضية الفرنسية، ومَنَعَه من المرافعة أمام المحاكم اللبنانية لأن قضاتها تابعون للسلطة اللبنانية، خشية إظهار محاولة استغلال النفوذ. عند نيله شهادة الحقوق هنأه أبوه وقبَّله، وأسدى إليه نصيحة قيّمة هي مثل روماني مأثور حفر عميقاً في الشاب ريمون، وسيكون له الأثر العميق والطويل على امتداد عقود في ممارسته الحقوق والسياسة وتعاطي الشأن العام طبقاً لقاعدة احترام القوانين وتطبيقها كما هي. يقول المثل الروماني القديم: Dura lex sed lex "القانون قاس، لكنه القانون". قال له والده يومذاك: "لا تنسَ ذلك أبداً طوال حياتك". في 2 شباط 1920 شارك إميل إده في وفد ثالث إلى مؤتمر الصلح برئاسة المطران عبدالله الخوري وضمّ يوسف الجميّل وتوفيق أرسلان، لتذليل الصعوبات التي كانت تعترض نيل لبنان استقلاله واسترجاع المناطق المسلوخة بما فيها السهول والمرافئ، استكمالاً لمهمة الوفد الأول ثم الوفد الثاني برئاسة البطريرك الياس الحويك في 22 آب 1919. في ختام مهمة الوفود الثلاثة استرجع لبنان كيانه، مع صدور قرار توسيع حدود هذا البلد وتحديدها في 31 آب 1920، بعدما كان سبقه في 3 آب قرار إعادة الأقضية الأربعة إليه. رسمت الحملة الفرنسية - التي كلّفتها الدول الخمس عام 1861 إعادة السلام إلى لبنان بعد المجازر بين الموارنة والدروز قبل سنة - خريطة حدود لبنان حيث يضمّ من الشرق البقاعين الغربي والشرقي، ومن الشمال عكّار إلى ما بعد النهر الكبير الجنوبي، ومن الجنوب مجرى نهر القاسمية وقضاء مرجعيون، ومن الغرب مدن الساحل من طرابلس إلى جنوب صيدا. احتفظ ريمون إده بهذه الخريطة الأصلية النادرة سنين في منزله في الصنائع. وبعد سفره إلى باريس طلب إرسالها إليه، وعلّقها على الجدار في جناحه في الفندق. في كل مرّة يُحدّث زوّاره، اللبنانيين وغير اللبنانيين، عن كيان وطنه وعن الدول المحيطة به، يشير إلى الخريطة ويُمرّر إصبعه على حدود هذا البلد. عام 1984 قدّمها هدية إلى وزارة الخارجية الفرنسية لتضيفها إلى وثائقها ومحفوظاتها التاريخية. في أحاديثه الكثيرة عن دور والده في الوفدين الأول والثالث، كان يسرد بعض وقائع المفاوضات كما أخبره إياها. عندما كان يجتمع بالوفد اللبناني في "الكي دورسيه"، ثابر رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو على توجيه سؤال محدّد إلى أعضاء الوفد، أو مَن منهم يتقن الفرنسية. فيأتيه الجواب بأن الأعضاء بطوائفهم الست يتقنونها. قبلاً كان قد تصرّف برعونة عند استقباله البطريرك الياس الحويك على رأس الوفد الثاني. إذ رفض مصافحته وسأل مساعديه، وهو الراديكالي العلماني الذي يكره رجال الدين: "مَن هو البطريرك؟ أليس كاهناً عادياً؟". أجابوه أنه رئيس الكهنة، ويجب ألا يرفض مصافحته بعد رحلة طويلة قام بها بطريرك الموارنة من ميناء جونيه إلى باريس على متن باخرة فرنسية استمرت 15 يوماً. إذذاك قَبِلَ مصافحته. خريطة كليمنصو في أحد اجتماعاته بالوفد الثالث، طرح السؤال مجدّداً عمّن يتقن الفرنسية من أعضاء الوفد اللبناني. فكان أن طلب المطران عبد الله الخوري من إميل إده إجابته نيابة عنه. قال له إميل إده بلهجة لا تخلو من مزاح منطو على تهكّم: "أتقن يا سيدي الرئيس لغات ثلاث هي الفرنسية والعربية واللاتينية، أما المطران الخوري فيتكلم الفينيقية والكنعانية والعربية والفرنسية والتركية واللاتينية واليونانية والسريانية والإنكليزية". فوجئ جورج كليمنصو بالجواب، وقال: "ماذا يريد المطران؟". قال له إميل إده: "أحضرت لك الخريطة التي سبق للجيش الفرنسي أن وضعها عام 1861 ورسم فيها حدود لبنان. ونحن نريد حدود هذه الخريطة". ردُّ جورج كليمنصو من وراء مكتبه بأن حمل قلماً أحمر ومرّره على الخريطة. من الناقورة على البحر في خط أفقي متعرّج صعوداً إلى السلسلة الشرقية فيتجاوزها - وهو يرسم الحدود اللبنانية الجديدة - ويتوغّل عميقاً إلى الشرق داخل الأراضي السورية. لتوّه صرخ إميل إده بعدما لاحظ استرساله في الزيح الأحمر الطويل: "لكنك يا سيدي الرئيس تضمّ دمشق داخل حدود لبنان". أجابه: "ولِمَ لا؟ خذوا دمشق". قال: "لكن دمشق عاصمة سورية". ردّ رئيس الوزراء الفرنسي: "إذا كنتم لا تريدون دمشق، لا تأخذوها". وأوقف قلمه على الخريطة، والتقط الخط الصاعد من السلسلة الشرقية في اتجاه البقاع إلى الشمال ليرسم عنده الحدود الدولية الجديدة مع سورية. كان إميل إده، بالنسبة إلى ابنه، أحد صانعي حدود "لبنان الكبير"، وأول مَن دقَّ ناقوس الخطر من الصهيونية، القائل برفض التخلّي عن القرى السبع عند رسم الحدود اللبنانية-الفلسطينية في 7 آذار 1923 بعد تقاسم الانتدابين البريطاني والفرنسي النفوذ على دول فلسطين وسورية ولبنان. وهو، بالنسبة إليه أيضاً، أول مَن أرسى قاعدة المشاركة في الحكم عندما رشّح الشيخ محمد الجسر لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 1932، وعندما عيّن أول مسلم سنّي في رئاسة الحكومة عام 1937، وعندما ضمّن المعاهدة اللبنانية-الفرنسية عام 1937 الملحقين 6 و6 مكرر تجسيداً لتلك المشاركة. دفعه هذا الإصرار إلى دحض ما نُسب مراراً إلى الأب الرئيس من أنه وَعَد بإبعاد مسلمي لبنان إلى مكة. فعزا الابن الرواية إلى تنافس والده وجورج ثابت على المقعد الماروني لبيروت في المجلس التمثيلي الثاني عام 1925: "كان جورج ثابت يخشى والدي المحامي اللامع الذي تُوكل إليه أكبر العائلات الإسلامية في بيروت قضاياها ودعاواها، فيما تقتصر علاقاته هو بها على الطابع الاجتماعي فقط. ومع تزايد المنافسة لفّق جورج ثابت حديثاً نسبه إلى والدي، فادّعى أن إميل إده صرّح أمامه مرّة أنه إذا حدث شيء في لبنان، فسيُرسل المسلمين إلى مكة. وقد صدَّق البعض من المسلمين أقواله من غير أن يسألوا كيف يمكن أن يُرسلهم إميل إده إلى مكة. يومذاك لم تكن هناك طائرات ولا بواخر ولا حتى طرق. صدَّقوا الأكذوبة التي ألصقت بوالدي، ثم بي عندما رشّحت نفسي للنيابة، فقالوا: هذا ابن إميل إده الذي يريد إرسال المسلمين إلى مكة. والغريب أن أحداً من المسلمين لم يتذكّر أن أول رئيس وزراء مسلم في لبنان واسمه خير الدين الأحدب، عيَّنه والدي عندما كان رئيساً للجمهورية. ثم جاء بعده عام 1938 بعبدالله اليافي. ولم يكن المسيحيون يريدون ذلك. حتى أن المرحوم الشيخ بشارة الخوري ذهب إلى البطريرك أنطون بطرس عريضة مُحتجّاً على إميل إده، لأنه جاء برئيس وزراء مسلم، ممّا أدى إلى خلاف بين والدي والبطريرك. لم يتذكّر المسلمون ذلك، وتذكّروا فقط ما نُسب إلى إميل إده من أنه يريد إرسالهم إلى مكة. قلت مرّة للمرحوم الحاج حسين العويني ضاحكاً: لو تمكّن والدي من إرسال المسلمين إلى مكة، لكانوا أصبحوا كلّهم أغنياء مثلك". يقوده هذا الجانب البارز من تماهيه بصورة الأب، الكفي والنزيه والمناضل الوطني والعادل، إلى ما يتجاوز الإعجاب به، إلى حدّ التشدّد - وإن بكثير من العنف في ردود الفعل - في رفض التعرّض له أو الإساءة إلى ذكراه أو الانتقاص من دوره، أياً يكن الموقف السياسي منه. وهو في كل حال اعتبر طويلاً، وحتى الأيام الأخيرة، أن التاريخ سيُنصف والده الذي أشعره بفخر تمرُّسه "في مكتب محام هو من أهم المحامين اللبنانيين. ليس لأنه والدي، بل لأن مكتبه من أكبر مكاتب المحامين". كانت تعني هذه المفاخرة كذلك سعادته بأن والده المحامي أضحى نقيباً للمحامين ورئيساً للجمهورية. وهو - كشقيقه الذي يصغره - عُرِفا باسم أبيهما إميل إده أكثر مِمَّا عُرفا باسم حزبهما الذي لم يُعرَف أيضاً إلا من خلال اقترانه باسم إميل إده. إذ إن حزبيتهما لم تنفصل مرّة عن تاريخ الأب، حتى بعد سنوات طويلة على غيابه. في الأشهر الأخيرة، بدءاً من كانون الأول 1999، أخذ يتحدّث كثيراً عن والده ورجالات الحزب الأوائل المؤسّسين ككسروان الخازن وجورج عقل وأمين السعد وطنّوس فريحة، وعن رجالات لبنان قبل معركة الاستقلال وبعدها. يسترجع بعض وقائع تلك المرحلة بعد انطواء السنين، وخصوصاً دور والده فيها، لينتهي إلى خلاصة هي "حاجة لبنان إلى ضمانات من أجل المحافظة على السيادة والاستقلال اللذين يفتقدهما في الوقت الحاضر. تماماً على غرار ما حدث عام 1943 عندما نال هذا البلد استقلاله، ولكن من دون ضمانات دولية تحمي كيانه وسيادته، فكان عرضة لاعتداءات الدول المجاورة". على أن أسوأ ما كان يثير عنده ردود فعل قاسية مخاطبته ب"ابن إميل إده"، في معرض توجيه انتقاد جارح إلى موقف والده في 11 تشرين الثاني 1943 عندما وافق على تسلّم السلطة لحظة اعتقال الانتداب الفرنسي أركان الشرعية. أُغرِم باكراً وهو بعد فتى في مصر ببدوية تكبره سنّاً كانت حبّه الأول، ثم بسيدة أرثوذكسية، ولكن أمه عارضت زواجه منها كونها متزوّجة وأكبر منه سنّاً. ثم أحبّ في القاهرة، في أثناء زيارته لها للمرافعة في دعوى، الفنانة الفرنسية ميشيل ألفا التي تعرّف إليها عندما قَدُمَت فرقتها لتقديم مسرحية "بشارة مريم" لبول كلوديل هناك. والتقاها مجدّداً في الإسكندرية تلعب في المسرحية ذاتها، ثم التقيا للمرّة الثالثة في بيروت عندما أتت والفرقة لعرض المسرحية على خشبة "التياترو الكبير". في الصالة أخرجت أمه التي كانت تحضرها سبحتها والدموع تنهمر من عينيها تأثراً، وقالت له: "أصلي إلى الله كي يهبك بنتاً كهذه". أما والده فالتزم الصمت. بعد العرض ذهب مع ميشيل وتناولا طعام العشاء في أحد المطاعم. صباح اليوم التالي اقتربت لودي من سريره، وقالت إنها كرّرت دعاءها له. لكنها لم تقل انها تتمناها له زوجة. إذ عندما فاتحها بفكرة زواجه من ميشيل، فوجئت الأم وسألته: "هل تتزوّج من ممثّلة؟". لم يبتّ الأب الأمر عندما سئل عن رأيه، وفضّل الاستمهال في القرار. ثم ما لبث أن رفض للسبب نفسه. التقيا تكراراً بعد ذلك في باريس، شهراً في آخر كل سنة، إلى أن قرّر الانفصال عنها باختلاقه حادثاً بسيطاً جعله مشكلة مع أنه أحبّها. طلب منها مرافقته إلى النمسا لتمضية ليلة رأس السنة الجديدة في ضيافة ابنة عمّه المقيمة هناك، فأجابته بأنها لم تتسلّم بعد فستانها الجديد. قال: "إذا لم تكوني في التاسعة صباح غد مستعدة للسفر، فهذا يعني أن كل شيء بيننا قد انتهى". الثامنة صباح اليوم التالي اتصل بها، فأعلمته بأنها لم تتسلّم الفستان بعد. عندها سافر وحده. افترقا، ولكن المكالمات الهاتفية والمراسلات المتقطّعة استمرت خيطاً رفيعاً بينهما. ظلاّ يلتقيان كصديقين، وفي منفاه زارته مرّتين في فندق "برنس دو غال"، فاجتمعا عجوزين يستعيدان ذكريات الماضي. في أواخر الثمانينات تبلّغ خبر وفاة المرأة التي حفظ لها حبّاً كبيراً حمله على القول لوالده: "إذا لم تصبح ميشال ألفا زوجتي، فلن أتزوّج أبداً". غداً: الاقامة في باريس ولا الاغتيال في بيروت.