في مأتم رسمي وشعبي مهيب يليق بكبار من أمثاله، ودع لبنان، كل لبنان، أمس عميد حزب الكتلة الوطنية النائب والوزير السابق ريمون إده، الرجل الذي "مقتت شفتاه النفاق ودافع عن الحق" طوال عمره، على ما ابنه البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير. وقد حمل نعش الراحل الكبير من منزله في الصنائع حيث كان مسجى منذ الجمعة الماضي، في موكب ضخم، وسيراً إلى ساحة النجمة حيث أصر المشيعون على الدوران به حول الساعة المقابلة للمجلس النيابي الذي عرفه فارساً على منابره، أكثر من ثلاثة عقود. ثم اخترق الموكب، تتقدمه سيارات قوى الأمن الداخلي، وثلاث سيارات تنقل الأكاليل فمحازبون من الكتلة حملوا أكاليل وصوراً للعميد يتوسطهم علم لبناني كبير، وشلح أرز، ثم فرقة الكشافة التابعة للكتلة ففرقة كشفية أخرى ففرقتا موسيقى غوسطا وقلب يسوع، فنعش الراحل الذي لُف بالعلم اللبناني وعلم الكتلة. ومشت خلف النعش شخصيات رسمية في مقدمها الوزير السابق ميشال إده، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط على رأس عدد من أعضاء كتلته النيابية ويرافقه نجله تيمور ووفد كبير من منطقتي عاليه والشوف وفرقة من الكشاف التقدمي رفعت كوكبة من أعلام الحزب وتلاقت مع فرقة كبيرة من الكشاف الماروني على مقربة من كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت التي غصت بالرسميين، فيما امتلأت الشوارع المحيطة بالمشاركين الذين قدر عددهم بنحو أربعة آلاف حضروا من مختلف المناطق، خصوصاً من مدينة جبيل وضواحيها. وبوصول النعش وخلفه المسيرة الحاشدة علا التصفيق، وراح حملة النعش ومحبو الراحل يرقصون به ويهتفون "بالروح بالدم نفديك يا عميد"، و"وداعاً يا عميد". ثم اخترق الموكب باحة الكنيسة ومن خلفه المشيعون، طريقهم بصعوبة الى داخلها، وسط الحشود فعلت الصلوات والتصفيق. وسجي النعش في الكنيسة التي غصت بالرسميين في مقدمهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري ممثلاً رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الحكومة سليم الحص وممثل للبابا يوحنا بولس الثاني السفير البابوي المونسنيور انطونيو ماريا فيليو والسفير انمار الحمود ممثلاً العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، ورئيسا الجمهورية السابقان شارل حلو والياس الهراوي ووزراء ونواب وشخصيات رسمية وسياسية ودينية وعسكرية وحزبية ومتروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة ووفد من "حزب الله". وكان لافتاً التصفيق الحار الذي قوبل به جنبلاط لدى دخوله الكنيسة، وقد جلس الى جانب ابن شقيق الراحل العميد الجديد للحزب كارلوس إده. ترأس الصلاة البطريرك صفير، متجاوزاً البروتوكول وألقى بنفسه الرقيم البطريركي النعي ومما جاء فيه: "لو كان للفقيد الكبير العميد ريمون إده الذي نودع اليوم الوداع الأخير بأسف عميق أن يتخذ شعاراً له يستهدي به في حياته، لاتخذ شعاراً من سفر الأمثال: شفتاي تمقتان النفاق". وأضاف: "قضى الفقيد الكبير حياته وهو يسعى الى محاربة النفاق وإعلان الحق وجلاء الحقيقة، وهذا ما جعل منه زعيماً وطنياً وبرلمانياً مجلياً ورجل دولة يستجلي المستقبل ببصيرة نافذة، مما جعل له وزن رئيس للجمهورية، ولكان جلس في دست الرئاسة الأولى لو تزحزح قيد أنملة عن ثوابته أو ساوم لحظة على مبادئه، أو بدّل، لمحة، من اقتناعاته". وبعدما توقف عند محطات ولادته ونشأته في بيت سياسي لبناني كبير وتربيته دينياً ووطنياً وسياسياً خصوصاً أنها تزامنت مع ولادة لبنان الكبير عام 1920، نوه "بدور الرئيس الراحل إميل إده في هذه الولادة". وأضاف "بعدما ورث ريمون إده عن والده عمادة حزب الكتلة الوطنية، راح يتعاطى الشأن العام، فخاض غمار السياسة، فحالفه فيه النجاح أكثر مما خانه الحظ. وكان على اتصال دائم بمريديه الذين أحبوه وأخلصوا له وأعجبوا بما كان يبدي من آراء ويتخذ من مواقف وطنية، وكان نهجه الصدق والصراحة، ولم يعلن غير ما يبطن، وأثبت أن السياسة ليست كما يظنها بعضهم خداعاً ونفاقاً. إنها فن شريف يعتمد الصراحة والشفافية، كان برلمانياً مجلياً، فقه النيابة خدمة وطنية وتخطيطاً لمستقبل مزدهر عبر تشريع سليم ورقابة يقظة لسياسة الحكومة، ولم تكن النيابة يوماً خدمة شخصية أو وسيلة لإثراء على حساب مصلحة عامة، أو حماية تجاوزات أو تبريراً لانتهاكات تتجاهل القانون، أو في أحسن الأحوال تأدية لواجب اجتماعي إرضاء لمشاعر اعتزاز بالذات، وقد عرف كيف يرفع ناخبيه الى مستواه". ورأى صفير أن إده "كان قائداً يعرف ما يريد وإلى أين سيصل، ولم يرض يوماً أن يقاد الى حيث لا يدري أو لا يريد، لذا آثر النفي الاختياري طوال ربع قرن ظلّ خلاله كأنه في لبنان ومع اللبنانيين، في حياتهم اليومية، بالفكر والقلب والتوجيه والموقف. وعانى مرارة البعاد والقهر وخيبة الأمل، وعندما دقت ساعة الفرج دقت ساعته الأخيرة، فمضى ليشهد الفرج من حيث أصبح في جوار ربه". وقال "كان رجل دولة واكب أحداث لبنان لأكثر من نصف قرن، وكان له على كل منعطف تاريخي وقفة، من مثل اتفاق القاهرة والاتفاق الثلاثي واتفاق الطائف، وما عقب الأخير من انتخابات نيابية وتدابير إجرائية، وشن حملات لا هوادة فيها على انتهاك الحريات وإخضاع الأجهزة والمؤسسات للهوى السياسي. وكان يحرص على التوفيق بين أقواله وأفعاله، وعندما كانت تجري رياح السياسة بما لا يشتهي كان يلجأ دوماً من دون تردد الى الاستقالة من المسؤولية، غير آسف على ما توليه السلطة من جاه فارغ ومجد باطل، وعرف كيف يوثق مع جميع الأطراف اللبنانيين أواصر الصداقة والألفة، فجسد بمسلكه العيش المشترك خير تجسيد، ولم يكن له صديق غير الحق ولبنان، ولم يكن له عدو غير الفساد والطغيان. وكانت له كتب مفتوحة مطولة وجهها الى أهل الحكم في مختلف العهود، تناول فيها الأوضاع بالتحليل والتعليل والانتقاد والتوجيه. ولكم فاخر أنه إبان الحروب اللبنانية لم يسمح لمحازبيه بحمل السلاح، على رغم أنه تعرض للاغتيال ثلاث مرات، فكان لقامته السياسية بعد وطني شامل، وإذا دعا كان كثر عند دعوته الجواب، فلا عجب إذا ما أطلق عليه ضمير لبنان". وهنا علا التصفيق طويلاً في الكنيسة. وتابع صفير "كان وهو في باريس يجعل، كل أحد، من غرفتيه في فندق كان ينزله منتدى يجتمع فيه اللبنانيون وأصدقاؤهم لعرض الأوضاع الراهنة، في الوطن الجريح، وحمل ال87 كفافاً، وهو على ما يشبه الشباب صحة تفكير ومرح روح وسرعة خاطر وبراءة نكتة، ولم يكن بعيداً عن ربه... وقد اتصل بنا هاتفياً قبل أعوام ليقول إنه يقف بيت والده في قب الياس، ليكون رعية تحمل اسم ماراميل وهذا ما حدث". وختم: "إننا إذ نكبّر الخسارة في العميد الكبير نتقدم بأحر التعازي من جميع من نعوه، وبخاصة من ذويه، وابن شقيقه وخلفه على رأس الكتلة الوطنية السيد كارلوس إده علا التصفيق مجدداً، ومن جميع أعضائها، ونسأل الله لهم ولجميع اللبنانيين فيض العزاء وللراحل الكبير الذي تحنو على رفاته تربةلبنان، الراحة الكبرى في دار الخلود". وبعد صلاة الجناز، أعلن الرئيس بري أن الرئيس لحود "منح وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر للمرحوم الفقيد الكبير العميد ريمون إده". ثم كانت كلمات تأبين لنقيب المحامين السابق أنطوان قليموس باسم النقابة، وللأمين العام للكتلة الوطنية المحامي ابراهيم اسطفان، ولطبيب الراحل الأمين العام المساعد للحزب الدكتور صخر سالم، وللعميد الجديد للحزب كارلوس إده الذي لم يستطع أن يتلوها، فغص وبكى مرات... ثم انطلق موكب التشييع الى رأس النبع حيث ووري العميد إده، كما طلب، الى جانب والديه، في مدافن العائلة...