إذا صحت التحليلات بأن إدارة الرئيس جورج بوش قد حسمت أمرها بشأن الخطوة القادمة باتجاه العراق، خلال الشهور القليلة المقبلة، فلن يعود ضرورياً أن يفكر المرء مرتين قبل أن يقول بشكل قاطع ان صفحة جديدة في تاريخ البلد في طريقها لأن تفتح وأن أحداً لن يكون بمستطاعه ان يتكهن الآن بما سوف تنطوي عليه من احتمالات ونتائج ربما فاقت في أبعادها وتداعياتها حدود العراق نفسه. فالمؤشرات المتوافرة هي ان لعبة القط والفأر بين النظام العراقيوالولاياتالمتحدة والتي شهدتها السنوات الاحدى عشرة الأخيرة قد أوشكت على نهايتها، وأن نمط الصراع الذي ظل خلال كل هذه الفترة غارقاً في سياسات الاحتواء ولوي الذراع وحرب الاستنزاف التي تبنتها الإدارات السابقة قد قارب أن يتحول الى حرب خليج ثالثة غير أنها مختلفة تماماً عن سابقتيها اللتين لم تخلصا الى نهاية حاسمة. التقديرات المتوافرة في أروقة الأجهزة السياسية في المنطقة وفي عواصم صنع القرار خارجها أخذت تتخلى عن الكثير من تحفظها وتحذر من تصعيد وموجة مواجهات وشيكة وصعبة جداً بين العراقوالولاياتالمتحدة، بانية تقديراتها هذه في ما يبدو ليس على المعطيات المتوافرة فقط بل على معلومات وربما ايضاً تبليغات عما هو آت في المستقبل غير البعيد. هذه التقديرات ترتكز الى أن التصعيد في اللهجة الأميركية ضد النظام العراقي قد بلغ في الأيام الأخيرة درجة كبيرة من الوضوح لجهة الهدف النهائي الذي تسعى اليه الإدارة الأميركية كما كان جلياً في خطاب "حال الاتحاد" للرئيس بوش وفي تصريحاته التي تلته وفي الاعلان الصريح لوزير الخارجية كولن باول بأن هدف التحرك الأميركي هو اسقاط النظام في بغداد. هناك ايضاً اعتقاد جازم بأن ليس ثمة بصيص أمل لتوصل الطرفين الى تسوية سياسية حتى بافتراض قبول بغداد في اللحظات الأخيرة بشروط إعادة مفتشي الأسلحة الدوليين التي أصبح من المؤكد ان واشنطن ستستخدمها تبريراً لحملتها المقبلة. ذلك ان عودة المفتشين وحتمية اندلاع المواجهات من جديد بين الولاياتالمتحدة والنظام العراقي ستوفر الفرص والذرائع التي يمكنها من خلالها شن حربها المتوقعة عليه. وباختصار فإن الجو العام الذي اشاعته المواقف الأميركية والتحركات السياسية التي ترافقها تنذر بأن الستارة في طريقها لأن تسدل على الفصل الختامي من دراما العبث الدائرة منذ نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991 بين بغدادوواشنطن. وهو استنتاج من المؤكد انه سيثلج صدور الكثيرين في هذا العالم الذين ملّوا من تكرار مشاهد المسرحية المملة وينتظرون نهايتها ربما بأي ثمن. لكنه من المؤكد ايضاً سيثير المزيد من القلق والمخاوف لدى كثيرين يرون أن من السهل دائماً التشبث بالآمال والركون الى الحالات المزاجية في وضع يمكن أن يصف جزءاً من الصورة فقط ولكنه يعكس رفض التأمل العميق في الواقع المعقد الذي يحيط بالمسألة العراقية وبالمستقبل، وهو الأمر الذي يقتضي التمعن فيه جيداً قبل الانسياق وراء التحليلات والتقديرات المتداولة وبناء آمال كبيرة عليها. كل ما يدور من كلام غير رسمي في واشنطن هو أن إدارة بوش المنتشية بتحقيق نصر رخيص ومفاجئ على "طالبان" في افغانستان ربما تكون في طريقها الى شن هجوم على العراق خلال الأشهر القليلة المقبلة، يستهدف اطاحة النظام العراقي وإحلال نظام جديد بدلاً عنه. هذا بطبيعة الحال تغيير جوهري في السياسة الأميركية تجاه العراق التي ارتكزت فقط الى احتوائه خلال العقد الماضي. لكن أحداً في الإدارة لا يتجرأ ليخبر العالم المتشوق الى معرفة كيف ستقوم الولاياتالمتحدة بتنفيذ سياستها الجديدة هذه وما هي الخطط والسبل التي اعتمدتها لذلك. قد تكون الإدارة الأميركية اتخذت قرارها فعلاً بانتهاء صلاحية النظام العراقي وضرورة رحيله، وربما ستجد من يتلهف الى انبلاج تلك اللحظة من العراقيين والعرب وفي العالم. وقد تستطيع بالعصا أو بالجزرة ان تتغلب على المخاوف الاقليمية من كسر ميزان القوى وتغيير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة. ولعلها قادرة ايضاً على اقناع حلفائها وشركائها الدوليين بنبذ ترددهم الحالي والانضمام الى تحالف دولي من أجل تحقيق هدفها. لكن السؤال يظل كيف سيمكنها الآن اطاحة هذا النظام بعدما ظلت كل هذه السنوات تنتظر المعجزة أو الاعجوبة التي لم تتحقق. هناك أفكار وربما خطط ساذجة يتبرع بها البعض لكنها لا تساوي حتى الأوراق التي كتبت عليها، ولكن في السيناريو المتطرف يقال ان آلافاً أو مئات الآلاف من القوات الأميركية ستشارك في عملية عسكرية تسبقها حملة جوية مكثفة ربما تأخذ شكلاً من اشكال السيناريو الأفغاني، أي الاستعانة بتحالفات معارضة محلية، بعضها قائم وبعضها متخيل، للقيام بالجزء الصعب من العملية أي المواجهة المباشرة مع قوات النظام. غير أن هذا بالحسابات العسكرية والسياسية البسيطة سيناريو لا يتسم بالمغامرة بل بالحمق، مما يجعل كثيرين يشككون في امكان اقدام الإدارة على خوضه مهما كان دافعها ومهما كانت درجة كراهيتها للنظام العراقي ورغبتها في غيابه عن الساحة. اذ أن نجاحه سيكون رهاناً محفوفاً بالكثير من المخاطر وبثمن قد لا تستطيع واشنطن دفعه بينما سيمثل فشله انهياراً لاستراتيجياتها الاقليمية والكونية ولهيبتها في العالم. طبعاً هناك سيناريو آخر وربما سيناريوات خفية لا يدور الحديث عنها أو يتم تداولها علناً كما ان أحداً لا يملك معطياتها ويمكنه التنبؤ بها الا ان نتيجتها لو حصلت سواء منفردة أو مجتمعة سيكون هدفها حشر النظام في الزاوية وخلخلة قواعده واضعافه ثم اسقاطه من داخله وحلول نظام بديل من دون حرب أو مواجهة عسكرية مما يعني نصراً اميركياً نظيفاً وغير مكلف من ناحية الخسائر البشرية أو السياسية. ان حصول مثل هذا السيناريو قد يبدو مجرد افتراض غير انه ليس نتاج جموح في الخيال بمقدار ما هو نتيجة ممكنة لألاعيب السياسة وتكتيكاتها ولو تحقق فعلاً لأصبح بالتأكيد مفاجأة مذهلة لأولئك الذين لم يتمرسوا في دهاليز هذه السياسة وسراديبها. يقول مسؤولو الإدارة الأميركية في معرض تبريرهم لخطوتهم المتوقعة ان عراقاً من غير نظامه الحالي هو أفضل لشعبه ولجيرانه وللعالم أجمع، وهو شعار ذو بعد أخلاقي لا يستطيع أحد للوهلة الأولى ان يجادل برفضه. غير أنه اضافة الى كونه مثيراً للتساؤلات بشأن توقيته فإنه يبدو مجرد صياغة بالغة التجريد لشعار من شعارات الدعاية في الحروب التي تستثير من الأوهام والغرائز أكثر مما تستجيب للأهداف النبيلة والقيم. وإذا كان الأمر يخص العراقيين بالدرجة الأولى فإن السؤال الأساسي الذي لا بد من طرحه في الوقت الذي تفتح فيه الستارة عن مسرح عمليات حرب الدعاية المتمثلة بعصف التصريحات الطنانة والتسريبات الاعلامية الهائلة بشأن الحملة القادمة على العراق هو أين الشعب العراقي من كل ذلك، بكل طوائفه وقومياته وقواه السياسية والاجتماعية ونخبه سواء التي في داخل الوطن أو في المهجر وأين آمالهم وأحلامهم وطموحاتهم بالمستقبل المنتظر لكي يخلصهم من كل سنين العذابات والآلام والقهر. من هنا فمن المهم ان يعرف العراقيون على وجه التحديد ماذا تريد واشنطن المنتشية بالنصر الأفغاني والتي تقرع طبول الحرب على محاور الشر والارهاب ان تحقق في العراق وان تفصح علناً عن حقيقة نياتها لئلا تكون وصفتها المطروحة طريقاً آخر الى جهنم. إذ لا يجدي فقط ان تتستر خياراتها وخططها وراء قسوة معاناتهم لكي تبشر بالنهايات السعيدة، فتلك بالتأكيد ازدواجية لغوية لن تؤدي الا الى نهايات خطيرة وتعيسة مشوبة بالخذلان والنحيب والعويل. نعم ان العراقيين متلهفون الى التغيير وهو تغيير أصبح يتجاوز الآن متطلبات ازالة النظام الشمولي واقامة العدل والديموقراطية الحقيقية والمشاركة التعددية الى إعادة بناء العراق الذي خرب خلال العقود الماضية وفق مشروع نهضوي حضاري متكامل يزيد الميراث المرير من الدم والعنف والطغيان والارتباك والضعف وإعادة الأمل والحياة والسعادة والقوة الى بلد كان يوماً مهد الحضارة البشرية وموئلها للنور والحق والعلم والأدب. ان ما يعنيه التغيير للعراقيين هو عودة العراق الى أهله وعودة أهله اليه. وفي ظل النفق المظلم الذي دخل اليه وانسداد أي افق لحل سياسي سلمي بسبب الستار الحديدي وسياسات الاحتكار والتشبث بالسلطة وبسبب العجز العربي المخزي عن تقديم مبادرات خلاقة تتجاوز تصريحات الادانة والتحذيرات التي هدفها رفع العتب وكذلك بسبب النفاق العالمي والارتزاق من استمرار الأزمة العراقية، فإن كثيرين من العراقيين قد يكونون مجبرين على التشبث بالحل السحري الذي تمثله الخطوة الأميركية على رغم غموضها والمخاطر التي تترتب عليها. لكنه تشبث نابع من المعاناة واليأس والغضب وربما كجزء من احتياجات الصراع. لكن هذا يجب ألا يدعوهم في هذا المنعطف التاريخي بأي حال من الاحوال الى الترحيب بالتغيير بأي ثمن. فالتغيير الذي انتظروه كل هذه السنين الطويلة يجب أن يكون وطنياً وجديراً بتضحياتهم وملبياً لطموحاتهم والا كان وهماً وسراباً. * كاتب عراقي.