سهيل ادريس المنكب على كتابة الجزء الثاني من سيرته، كيف يعيش أيامه بين البيت والمكتب؟ بعد أيام في حياة نجيب محفوظ واحسان عباس ومحمد الماغوط وعبدالله الغذامي، هنا تحقيق عن حياة صاحب "الحي اللاتيني" ضمن سلسلة "يوم في حياة كاتب": الثامنة صباحاً... اقف في مدخل بناية بيهم الواقعة في المنطقة المحيرة بين ساقية الجنزير والروشة قرب فندق الكارلتون في بيروت، أتصفح الجريدة، منتظراً مجيء آل ادريس لبدء يوم عمل جديد. السيدة رنا ادريس، مديرة دار الآداب، غير موجودة في بيروت، وهذا يعني ان السيدة عايدة هي التي ستأتي لتفتح الباب ويولد يوم جديد في المكتب. دقائق بعد الثامنة وتأتي. تفتح الباب الحديد المفضي الى آخر خشب، وتكون أول الداخلين الى البيت سابقاً والمكتب حالياً، جمانة الغور هي الداخلة الثانية وميشلين خوري الثالثة وأنا الرابع، طبعاً يكون محمد ناصر الدين الأخير، الذي يأتي صيفاً على التوقيت الشتوي وفي الشتاء على التوقيت "الذاتي". اتجه الى غرفة مكتبي في الجهة الجنوبية الشرقية، منتظراً الحركة الفعلية مع مجيء "الدكتور" الذي يكون سعد - السائق - قد عاد الى البيت ليأتي به. مرّت نصف ساعة، وهي الوقت المحدد لمجيئه، ولم أسمع وقع خطواته في الممر المفضي الى مكتبي، كي أستعد لصبحيته المعهودة "صباح الخير محمد، كيفك اليوم، نمت منيح، الأمور تمام، شربت قهوة، جابب الشغل، متضايق من شي"، وانما سمعت وقع خطوات سريعة أعقبها دخول ميشلين "ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد" التي قالت سريعاً "محمد، الدكتور مريض والست عايدة راحت على البيت، ان شاء الله ما يكون صار له شي". بخطوات سريعة، أيضاً، عادت الى مكتبها لتجيء بعد دقائق وتقول "مدام عايدة وسماح" نقلا "الدكتور" الى مستشفى الجامعة الأميركية، وهيهات ان يأتي أحدهما للاستفسار عما حدث والاطمئنان على صحته، وربما لن يجيئا اليوم الى المكتب. بعد ساعتين تقريباً، جاء الدكتور سماح ليخبرنا ان "الدكتور" أخذ جرعة "الأنسولين" قبل ان يتناول شيئاً من الطعام فخفض السكر وارتفع الضغط، لكن حالته مظمئنة. بعد أيام، عادت الصبحية المعهودة. جاء "الدكتور" الى المكتب، يلبس بدلته الكحلية وربطة عنق ملونة، وهو في أبهى حلة، ليقول لي ان الطبيب نصحه بأن يعاود المشي، فقد انقطع لفترة عن مزاولة هذه العادة على كورنيش البحر ومن هنا وصاعداً سنمشي معاً. ويبدأ البرنامج الجديد الذي دخلت عليه النزهة البحرية، وما عداها ظل على ما هو عليه. بين الثامنة والثامنة والنصف يأتي الى المكتب، كرسيه المعتاد يحتل موقعاً استراتيجياً يسمح له برؤية الجميع والتحدث معهم من جهة، ويطلّ على البحر ومكتب السيدة رنا - كريمته - من جهة ثانية، فتعدُّ له السيدة عايدة - زوجته - السندويش والعصير ليتناول الدواء. ثم يأتي دور الصحف مع ثاني فنجان قهوة - لأن الفنجان الأول قد تناوله باكراً في البيت - يتصفحها ملقياً نظرة على العناوين، ومدققاً أكثر في الصفحات الثقافية التي يطلب من زوجته ان تقرأ له الموضوع الذي يهمه، لأن نظره بدأ يشحّ على رغم استعماله النظارة، وان أعجبه فغالباً ما يأتي به اليّ لأعيد قراءته ول"يمخّخ عليه" مع فنجان القهوة الثالث الذي أقنعه أحياناً بأن "ينفخ" معه سيجارة. ثم يأخذه سعد الى شاطئ البحر مستعيداً عادته القديمة التي أرافقه فيها أيام العطل والآحاد. يمشي على كورنيش البحر، مفتقداً كثيراً من الأصدقاء الذين كان يرافقه بعضهم في هذه النزهة، وأكثر ما يفتقد "صديق العمر" - كما يسميه - نزار قباني، إذ اعتاد القيام بهذه الرحلة الصباحية فترة طويلة من الزمن أيام "بيروت الأنثى". يعود سهيل ادريس الى مكتب الآداب. الجميع يبحث عن النظارات، فمرة على مكتبي ومرة في مكتب الدكتور سماح ومرة في مكتبه أو مكتب السيدة رنا أو على الطاولة بجانب كرسيه، ويبدأ التنقيب والتقميش، وتبدأ دورة الهواتف والمواعيد. وبما ان غرفة مكتبه مقابلة لغرفة مكتبي يتناهى إليّ صوته وهو يناقش في الأحداث الأدبية والسياسية، إذ كثيراً ما تأتيه اتصالات من خارج لبنان لاستشارته في بعض المواضيع الثقافية، وغالباً ما يأخذ كلامه منحى أقرب الى النكتة والطرافة. فسهيل ادريس محب للنكتة، ويتمتع بظرف نادر، حتى انني ألاحظ ان كثراً من أصدقائه ومعارفه يأتون الى المكتب لإخباره نكتة جديدة ومن ثم يعودون، بعد دقائق، وكأنهم جاؤوا فقط لإخباره النكتة، فهو مغرم بالنكت وأكثر ما يطرب للجنسية وتلك التي تتناول رجال السياسة، إذ يعتبرها تعبيراً غير مزيف عن أحاسيس الناس وآرائهم العفوية. ومن القصص الطريفة التي يحدّثني بها دائماً، انه طلب من الناقد المصري محمد مندور، حين أصدر مجلة الآداب أن يسهم بمقالاته فيها، وقد استجاب مندور لطلبه. فكتب له سهيل يشكره، مضيفاً: أرجو أن تقبل هذا التحويل تعويضاً رمزياً عن المقال. وكان التحويل بخمسة جنيهات مصرية، وكانت مبلغاً معقولاً في الخمسينات. وظل مندور يوافي الآداب بمقالاته وان كانت قد بدأت تقصر شيئاً فشيئاً، وظل سهيل يرسل له "التحويل الرمزي" نفسه، الى ان سافر سهيل الى القاهرة وزار محمد مندور في منزله، ولكنه لاحظ ان استقباله إياه كان فاتراً، ثم فاجأه بالسؤال: هل صحيح انك حصلت على شهادة الدكتوراه في الآداب من السوربون؟ استغرب سهيل السؤال، وبدا عليه الغضب، فأراد ان يقطع الزيارة بحجة ان مندور كان يشك في صدقه. ولكنه استبقاه وهو يوضح له ان شكّه ناشئ عن اعتقاده بأن سهيلاً لم يكن مطلعاً بما فيه الكفاية على تطور المذاهب الأدبية الحديثة وانه توقف عند المذهب "الرمزي" فقط، جاهلاً أن مذاهب أخرى عدة قد نشأت في ما بعد، ومنها المذهب الواقعي، والمذهب المادي، وفرك مندور إصبعيه كأنما يشير الى الخمسة جنيهات اليتيمة. فأدرك سهيل الغمزة وانفجر ضاحكاً مع مندور. في شقة الآداب، أكثر ما يسمع المرء كلمة "دكتور" التي يخاطبه بها الجميع بمن فيهم ابنه سماح ادريس رئيس تحرير الآداب، ما عدا زوجته التي تناديه "سهيل" وابنته التي تقول "بابا" فهو مستشار لغوي والكل يرجع اليه، الى الشيخ سهيل. عندما يأتي صباحاً الى المكتب ويتأكد أن لا مواعيد لديه، يطلب من الجميع ألا يعطوا موعداً لأحد، وما ان يسمع صوت جرس الباب ويتناهى الى سمعه أنّه صوت أنثوي حتى يخرق القاعدة فوراً، يجري مقابلة أو يعطي حديثاً، أو يقدم استشارة، وانما بشرط أن يكون هذا القادم أنثى لا سيما إذا كانت جميلة، وحين تغضّ السيدة عايدة النظر. قال لي إنّه عاد مرة من رحلة الى المغرب، وهو يحمل مخطوطة جاء يدفعها الى "الصفّ" وأخذ الفضول زوجته فسألته قائلة: على علمي أنك غير متحمّس لقصيدة النثر، أليست هذه منها؟ أجاب: لا، فهذه نصوص. قالت: كل المخطوطات نصوص. - ولكن هذه نصوص جميلة. فسألته: بربّك، هي الجميلة أم المؤلفة؟ أحياناً يرن جرس الباب لتطل إحداهن وتسأل عن "الحاج"، وفي كل مرة ينسى الجميع أن المقصود بالحاج هو "الشيخ" سهيل. وللحقيقة فإن "الحاج" لا يرد سائلاً وأسمعه يعلق دائماً بعبارة "يكفيه ذل السؤال". من النادر ان يرى أحد أو يسمع سهيل ادريس وهو في حالة عصبية، وعندما يعلو صوته أعرف أن الموضوع متعلق بمجلة الآداب، وأعرف كيف سيغلق الحديث في الموضوع لأنني حفظته "لن تغلق الآداب ما دمت على قيد الحياة، بعد أن أغيب افعلوا بها ما تشاؤون". ويعود الى مكتبه حيث يبدأ في التحضير لفترة ما بعد الظهر، إذ يذهب الى البيت في الثانية، ينام ساعة ما بعد الغداء. كثيراً ما أذهب اليه في منزله مساءً، ويتأخر في المجيء الى الغرفة التي نعمل فيها، وعندما أسأل عنه يكون الجواب أنه يستمع الى الراديو أو يشاهد التلفزيون، فأذهب اليه لأجده "مسلطناً" مع أم كلثوم، أو مشدوداً الى سماع الأخبار. منذ شهرين تقريباً، دخلت الغرفة، حييته، فأومأ لي بالجلوس. كان يتابع القصف الاسرائيلي على غزة ورام الله، ولم يستطع تمالك نفسه فبكى... يقول سهيل ادريس: "أنا لا أبكي على الشهيد فقط، بل أبكي تعبيراً عن عجز العرب عن الانتقام له". يبكي أيضاً، عندما يحدثني عن "كنّته" السيدة كيرستن شايد زوجة سماح، الأميركية الأصل، التي كانت تذهب أسبوعياً في شكل طوعي الى المخيمات الفلسطينية "لتدريس أبنائنا". يتحدث بإسهاب عن حماستها واندفاعها وتمسكها بقضيتنا العادلة التي أصبحت قضيتها. عندما نقرأ عملاً جديداً للنشر في دار الآداب، يكون أكثر تركيزاً، لا يهمه الاسم ان كان معروفاً أم لا، يركّز أكثر على النص الذي بين يديه. وكثيراً ما قرأنا مجموعات قصصية وروايات تعتبر الأولى لكاتبها، فإن رأى فيها كاتباً موهوباً يقول لي: أكتب رسالة للكاتب بأننا سننشر كتابه. وان لم يكن الكتاب كذلك، لا ينسى ان يرسل رسالة اعتذار، غالباً ما استثقل لباقتها الزائدة التي تحضّ على كتابة أفضل. ثم إن جُلّ وقته يذهب لقراءة اعمال الآخرين الذين لا يعرفهم عادة. وإذا وقع خلاف في الرأي حول رواية أو مجموعة قصصية يحيل العمل على لجنة القراءة التي كثيراً ما تقرر النشر وان لم يكن هو متحمساً للعمل. كثيراً ما يدور الحديث حول كساد المجموعات الشعرية والقصصية والخسائر التي تتكبدها الدار في طباعتها، فأسمعه يجيب: "إذا أنا ما شجعت المواهب الجديدة، وما طبعت قصة وشعر، فمن سيقوم بهذا العمل... معليش، كل فترة وفترة "نمرّق" ديوان أو مجموعة قصصية". ينام سهيل ادريس باكراً، ويصحو باكراً، يفتح عينيه على فنجان القهوة الأول، ثم يبدأ بالمشي داخل البيت وهو يستمع الى القرآن الكريم، خصوصاً عندما يكون المقرئ الشيخ مصطفى اسماعيل. ثم يبدأ بحلاقة ذقنه التي يرافقها في الغالب غناؤه الذي تصفه زوجته بأنه جميل. ثم يلبس ليبدأ يوم عمل جديداً بهمة واندفاع شاب في مقتبل العمر. حريص على مواعيده، متمسك ببرنامجه الذي يُخترق في حالتين، الأولى عند مجيء امرأة جميلة، والثانية عند مجيء أحد أحفاده. فكل القراءات، الأفكار، الكتابة، تدوين المذكرات، المواعيد، المقابلات، متابعة عمل المكتب، الملاحظات، كلها تتوقف، وتكاد تلغى، إذا دخل أحد أحفاده، تالة أو عمر أو ياسمين أو سارية أو ناي. وخصوصاً "ياسمين" أصغر الجميع، التي لم أسمعه يوماً يناديها باسمها بل "يا قلبي، يا حبيبتي، يا حياتي"... ولو أن سهيل إدريس ما زال يدير في شكل كلي مجلة الآداب ودار الآداب وأراد أحد ممن يزعجهم وجودهما أن يوقف العمل فيهما، فليكن متأكداً أن لا الضغوط ولا المنع ولا الرقابة ولا الأزمات المالية قادرة على فعل شيء... كل هذا لن يفيد في ايقاف عمل سهيل ادريس الروائي والمعجمي والمترجم وصاحب الموقف الذي أدار، على مدى نصف قرن، معارك أدبية كبيرة" وحدها ياسمين، بحضورها الطفولي، قادرة على ايقاف كل المشاريع، فلا دار نشر ولا مجلة ولا كتابة ولا مذكرات ولا من يحزنون. عندما أذهب الى بيته مساء، ونكون مشغولين بالمراجع والقصاصات والرسائل وتدوين الملاحظات، غالباً ما أرى ياسمين نائمة على سريره. إلاَّ انني أعرف أنه غير قادر على التركيز. يسترق النظر في كل لحظة ليتمتم "يا عمري"، وعندما تستيقظ يعني أنّ كل شيء قد توقف. السيرة والمؤلفات - ولد عام 1925 في بيروت. - حصل عام 1951 على ديبلوم معهد الصحافة العالي في باريس، وعام 1952 على شهادة الدكتوراه بالآداب في السوربون دكتوراه جامعة، وكان موضوع أطروحته "القصة العربية الحديثة والتأثيرات الأجنبية فيها من عام 1900 الى عام 1950" وكان مقرّر الأطروحة المستشرق ريجيس بلاشير وعضوا لجنة التحكيم السيد ديديان استاذ الأدب المقارن في السوربون، والأستاذ مورو أستاذ الأدب الحديث. - أنشأ عام 1953 مجلة "الآداب" في بيروت بالاشتراك مع بهيج عثمان ومنير البعلبكي صاحبي "دار العلم للملايين". - عيّن عام 1953 أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة اللبنانية، كما عيّن أستاذاً للترجمة والتعريب والنقد في كلية المقاصد الإسلامية في بيروت. - عام 1956 استقل بمجلة الآداب عن شريكيه فيها. له مجموعات قصصية: أشواق 1947، نيران وثلوج 1948، كلهن نساء 1949، الدمع المرّ 1956، رحماك يا دمشق 1965، العراء 1973. جمّعت عام 1977 في مجموعتين بعنوان قصص سهيل ادريس "أقاصيص أولى"، "أقاصيص ثانية". وروايات: الحي اللاتيني 1953، الخندق الغميق 1958، أصابعنا التي تحترق 1962. ومسرحيات: الشهداء منشورة في مجموعة رحماك يا دمشق 1965، زهرة من دم 1969. ومعاجم: معجم "المنهل" فرنسي/عربي و"المنهل" عربي/فرنسي بالاشتراك مع الدكتور صبحي الصالح. وكتب مترجمة عن الفرنسية: ما يزيد على عشرين كتاباً بين دراسات ورواية وقصص ومسرحية، أهمها "دروب الحرية" 3 أجزاء و"الغثيان" و"سيرتي الذاتية" لسارتر و"الطاعون" لالبير كامو و"هيروشيما حبيبي" لمارغريت دورا إلخ...