"ذكريات الأدب والحب" هو عنوان مذكرات الدكتور سهيل إدريس التي صدر الجزء الأول منها. والمشكلة أننا نظرنا إلى سهيل إدريس منذ منتصف الستينات على أنه صاحب دار نشر ورئيس تحرير مجلة، أكثر مما تعاملنا مع نتاجه الروائي. ولعلنا نشعر بالامتنان لدوره منذ نهاية الخمسينات في تقديم شاعر عملاق مثل صلاح عبدالصبور ونشر دواوينه الأولى. لكن كل هذا تم على حساب كتاباته الروائية والقصصية التي لا بد من الاعتراف أنها لم تقرأ بعناية - ربما حتى الآن. كيف أقرأ كمصري هذه المذكرات، خصوصاً ان مصر موجودة فيها من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة. وقد يكون هدف كلام سهيل إدريس في الصفحة الأولى من المذكرات عن تعديل تاريخ ميلاده هو السفر الى القاهرة ملتحقاً بكلية الآداب في الجامعة المصرية. وسهيل إدريس صاحب صوت جميل وهو يغني لعبدالوهاب وأم كلثوم. وقد سمعته بنفسي يردد أغاني عبدالوهاب في عمان في منزل الشاعر عبدالرحيم محمود. وكان صوته جميلاً من دون ان تصاحبه موسيقى. ويبدو أن لهذه الهواية جذوراً قديمة لديه. كانت أمه تعشق أم كلثوم وتحرص على الاستماع إلى حفلتها الشهرية من إذاعة القاهرة. وكان أهله يتابعون آهات المستمعين المصريين وهيامهم وتصفيقهم عبر راديو القاهرة. وتردد أمه: آه يا ثومه. آه يا ثومه. ويقول أبوه: سبحان من وهبك هذه الحنجرة. بل إن رعشة المراهقة الأولى، أو لقاء سهيل الأول مع النساء يتم من خلال حفلة لأم كلثوم أيضاً. وكانت تغني فيها أغنيتها العذبة: "رق الحبيب". وعندما يتكلم عن أحد القبضايات أحمد الجاك يقول إنه كان من عشاق أم كلثوم وهو كان يسافر بين الحين والآخر إلى القاهرة ليحضر حفلتها الغنائية، ثم يعود في اليوم التالي إلى بيروت وكانت أم كلثوم تنزل ضيفة في منزله كلما زارت العاصمة اللبنانية، وتقيم بعض الحفلات لقريباته من العائلات البيروتية وقد ظلت وفية لذكراه بعد وفاته فكانت تستجيب لدعوات ابنه حسن الجاك لإقامة حفلات غنائية في مصيف عاليه. يقول سهيل إدريس في مذكراته أنه حفظ معظم القرآن الكريم، ولا يزال يصغي كل صباح إلى تلاوات منه، ولا سيما التي يؤديها الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد إسماعيل السعدني. ويقول في هذا الصدد: "لا أحب كثيراً تلاوة أبو العينين شعيشع التي أراها متكلفة كأنما يؤديها المقرئ على مشقة. ولا تلاوة عبدالباسط عبدالصمد التي أراها تصعد من الرأس لا من القلب. وإن كان في الدارسين من يجد في أسلوبي بعض تماسك وفي لغتي بعض أشواق، فالفضل في ذلك يعود إلى القرآن الكريم". يتحدث سهيل إدريس أنه كان يترجم الرواية الرائعة التي ملكت عليه مشاعره وهي "مولن الكبير" من تأليف آلان فورييه. ويكمل: "وكنت كلما فرغت من ترجمة فصل من الرواية، بيّضته وأرسلته بالبريد المسجل إلى مجلة "الرواية" التي كان أحمد حسن الزيات أصدرها في القاهرة شقيقة ل"الرسالة". ولكن الزيات لم ينشر الترجمة، فأصابتني من ذلك خيبة شديدة، ولا سيما أن بعض المجلات اللبنانية ك"المكشوف" و"الأهالي" و"الجمهور" كانت بدأت تنشر لي. وكنت أقسمت أن أصدر في المستقبل، بعد أن أفرغ من التخصص، مجلة أنشر فيها ما أنتجه وينتجه الأدباء العرب الذين يحرمهم التزمت الزياتي تفتح براعم مواهبهم على صفحات مجلتيه". ويخصص سهيل إدريس فصلاً كاملاً - هو أطول فصول الكتاب - للكلام عن أنور المعداوي: "كان الناقد المصري الكبير أنور المعداوي أحد كبار أصدقائي. وتعود صداقتنا إلى فترة مبكرة من الأربعينات. إذ كان أوائل من تنبهوا إلى رحلتي في ميدان الأدب، واهتم بها. وحاول جهده أن يساعدني وأن يأخذ بيدي في طريق الكتابة الأدبية. وربما كان أنور المعداوي أول من كتب عن مجموعتي القصصية الأولى "أشواق" التي صدرت عام 1948. دراسة عرفني بها إلى القراء العرب، ولا سيما المصريون". هكذا يبدأ سهيل إدريس فصله عن أنور المعداوي، وينهيه قائلاً: "وسأروي في الجزء الثاني من هذه الذكريات، ما آلت إليه علاقتي مع أنور المعداوي، صديق الروح، بعد مشاركته إياي في تحرير مجلة الآداب". وإن كان أنور المعداوي كريماً - في كل شيء - مع سهيل إدريس، فهو كان شديد القسوة مع الأدباء المصريين. وتلك سمة عامة في نقاد مصر ما زالت موجودة حتى الآن. فها هو المعداوي يشبّه سلامة موسى بمحمود شكوكو، ويصف أمين يوسف غراب بأنه ذبابة. وعندما يسأل سهيل إدريس أنور المعداوي عن قصص إبراهيم الورداني ويوسف جوهر يردّ عليه المعداوي قائلاً: "ما هذا يا إبن إدريس؟ أتريد أن تتحدث عن أناس لا نقيم لهم وزناً في مصر، لأنهم من قصاصي الشوارع؟ في أطروحة الدكتوراه التي ستقدمها إلى السوربون إياك أن تعرض بكلمة واحدة لأمثال هؤلاء". أما ملاحظاتي على هذا الفصل فكثيرة. اولى الملاحظات أن سهيل إدريس ينشر رسائل المعداوي له، وكذلك رسائله إلى المعداوي، ومقالات المعداوي عنه، والخدمات التي قدمها المعداوي له وهو في باريس - وذلك جزء من طبيعة المصريين عموماً - وإن كان سهيل إدريس لم يكتب عن المعداوي الإنسان، وخصوصاً أن المعداوي رحل عن الدنيا قبل سنوات. وسهيل إدريس الروائي قبل أن يكون كاتب المذكرات - لا بد من أن تستهويه فكرة رسم صور لمن قابلهم في حياته. ومحاولة نحت جدارية داخل نفوسهم. لعل قيمة المذكرات أنها تقدم العالم من خلال عين صاحبها. والذين قابلهم كاتب المذكرات يقدمهم من خلال رؤيته. وأنور المعداوي من نقاد الأدب الذين أثاروا جدلاً واسعاً، وخصوصاً في مشروعه. ونشرت كتابات كثيرة عن مأساته الشخصية بعد وفاته. وسهيل إدريس ينشر وثائق ورسائل ومقالات من دون ان يغوص إلى ما تحت السطح، بل هو لا يحاول الغوص. ربما كان هناك جزء آخر من قصة أنور المعداوي مع سهيل إدريس في الجزء الثاني من هذه المذكرات وإن كانت إشارته إلى هذا الجزء لا تزيد عن الكلام عن شراكة أنور المعداوي معه في مجلة "الآداب". أي أنه قد لا يتوقف أمام رؤيته الى هذه المأساة الشخصية. مع أن سهيل قابل أنور المعداوي في آذار مارس 1948. وهذا يعني أن هناك علاقة إنسانية أو شخصية جمعت بينهما إضافة إلى الشراكة في العمل. الملاحظة الثانية أن سهيل إدريس يمتلك الرسائل التي وصلت إليه من أنور المعداوي، ولكن رسائله إلى أنور المعداوي فحصل على نصوصها من كتاب للراحل أحمد محمد عطية عنوانه "أنور المعداوي عصره الأدبي وأسرار مأساته". وهو كتاب يكاد أن يكون مجهولاً تماماً لأنه نشر في دار "المريخ" في السعودية. ولم يقرأه إلا القلّة. سهيل إدريس لا يتوقف أمام جهد أحمد محمد عطية في جمع هذا التراث الذي كان يمكن أن يضيع. وحاول الأخير الذي رحل صغيراً بسبب مرض السكري أن يقدم القصة الداخلية لعلاقات الأدباء بعضهم ببعض وأن ينشر رسائلهم الشخصية. وهذا التاريخ المسكوت عنه لا يقل أهمية عن التاريخ الأدبي. ولعل ما فعله أحمد عطية في كتابه هو في أهمية ما كتبه هؤلاء الأدباء، خصوصاً أن هذا التاريخ لا يجد من يكتبه أو يؤرخ له. وقد استغربت أن سهيل إدريس - الناشر - لا يفكر في إعادة نشر كتاب أحمد محمد عطية، الذي ظُلم حياً، وظُلم ميتاً أكثر. الملاحظة الثالثة ترتبط بالهامش الذي ورد في الصفحة 166 من المذكرات، وهي الصفحة ما قبل الأخيرة من فصل أنور المعداوي. يكتب سهيل إدريس فيها قائلاً: "لو كان صديقي المرحوم نجيب سرور لا يزال حياً، لكتب ملحقاً لدراسته المعنونة: "نرجس في الحي اللاتيني" التي نشرت في "الآداب" ليسأل في هذا الملحق: هل هناك أنصع من هذا الدليل على نرجسية بطل الحي اللاتيني؟". الصديق نجيب سرور، كيف لا يكون له سوى هامش يعلق فيه صاحب "الآداب" على واقعة في متن المذكرات نفسها. أعتقد أن سهيل إدريس كان سعيد الحظ بكل هذه العلاقات مع أدباء وكُتاب من كل أنحاء الوطن العربي، ومصر في القلب منها. وفي هذه المذكرات كنت أتصور وجود صور قلمية لهم. ربما كان في ذلك قدر كبير من التسرع مني، لأن هناك جزءاً ثانىاً أو ثالثاً على الطريق، خصوصاً أن هذا الجزء الأول لم يحمل مقدمة ترسم صورة المذكرات كلها وتحدد أجزاءها، حتى نكون على بينة قبل البدء في قراءة الجزء الأول منها. أما سيد قطب فله مكان في هذه المذكرات. عندما صدرت مجموعة سهيل إدريس "نيران وثلوج" 1948. وقف سيد قطب منها موقفاً شبه سلبي - والتعبير لسهيل إدريس - معترفاً أن مقالته عن المجموعة "خواطر سريعة". قرأ سيد قطب المجموعة عندما كان يشتغل على كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وفي ليلة واحدة. معترفاً بقوله الى ادريس: "تستطيع أن تعزو شعوري تجاه كتابك إلى أنني مكدود الذهن، أو إلى أنني سيئ التذوق لأدب الخلق والإنشاء في فترة أنا مستغرق في جو البحث والتنقيب، وبين الكتب الصفر والغبر من كلمات القرون الهجرية الأولى. فقد لا أصلح بحالي هذه لقراءة الأقاصيص". اعتبر سيد قطب أن قصة "قبلة اليد" هي أقصوصة واحدة كاملة وسليمة، صادفته في هذه المجموعة. وما تبقى من قصص وصفها ب"مشروعات أقاصيص ناقصة". وهذا ما حدا بالناقد المصري مصطفى عبداللطيف السحرتي على أن يرد على سيد قطب مستغرباً تردده في أحكامه. وكان السحرتي أشاد بقصص سهيل إدريس القصيرة. الملاحظة الرابعة ترتبط بمصر والمصريين، والقائمين على الثقافة المصرية الآن. والسؤال هو هل حاول ادريس أن يدرس تأثير مصر الثقافي على الوطن العربي، عندما كانت مصر منارة وعندما كانت مصنعاً للنجوم في كل المجالات كالفن والأدب والرياضة؟ ولا أبالغ إن قلت ان من لم يكن يحصل على اعتراف مصر كان يبقى وكأنه مشكوك في إمكاناته. كانت القاهرة هي التي تمنح شهادة الميلاد للكاتب أو الأديب أو الفنان وكانوا يحصلون منها على ختم الحصانة. يكفي ان ننظر إلى الدور الذي قام به نقاد مصر في ذلك الزمان، وهو الدور الذي تخلى نقاد مصر عنه الآن، ولم يعودوا يؤمنون به، على رغم كثرة ما يقال عن دور مصر الثقافي العربي. الملاحظة الخامسة تتناول خلو الرسائل المتبادلة بين سهيل إدريس وأنور المعداوي من الهم العام، علماً ان مصر كانت محتلة وكان لبنان محتلاً بدوره، وكانت الدنيا تشهد تحولات الحرب العالمية الثانية. ومع هذا لا نجد أثراً لهذا الهم العام، فيما الرسائل نفسها تفيض بآثار بعض الأحداث: مثل مشاركة سهيل ادريس في جنازة أندريه جيد في باريس، وتعرّفه الى سيمون دي بوفوار، موت علي محمود طه في مصر ... وهناك الكثير من الآراء في أدباء مصريين يكتبها أنور المعداوي لسهيل إدريس، كأن يصف عادل كامل بأنه يمثل نموذج الأديب الملتزم وصاحب القصة الاجتماعية في مصر وعلي أحمد باكثير بصاحب الرواية التاريخية ويحيى حقي بأنه من المعادن النفيسة في القصة المصرية. كان سهيل إدريس يعد رسالة جامعية في باريس وأنور المعداوي يشير عليه ببعض الملاحظات، ولكن أين نجيب محفوظ من هذه البانوراما؟ كان نجيب نشر الكثير من أعماله الأدبية الأولى. ومع هذا لا نجد له أي ذكر في هذه الرسائل. ومن الأمور التي لا بد من التوقف أمامها طويلاً في هذه الرسائل أن إذاعة القاهرة كانت تُسمع في باريس، وأن موسيقاراً من مصر اسمه علي فراج كانت تقدّم الإذاعة مقطوعات موسيقية له. كان سهيل إدريس يسمع مقطوعة عنوانها أماني. وكان يستمع الى الهتافات الموجّهة الى الملك فاروق عبر هذه الإذاعة. ومن القضايا التي يثيرها أنور المعداوي مع سهيل إدريس في هذه الرسائل التساؤل عن امكان اعتبار عباس العقاد وطه حسين روائيين؟! وفي رأيهما ان كتابة الرواية كانت في درجة أقل من اهتماماتهما. فالعقاد له رواية واحدة هي "سارة". وطه حسين له خمس روايات بعضها جيد. ولا تنس - يكتب أنور الى سهيل - أن طه حسين يعد سيد القصة الأتوبيوغرافية في كتابه "الأيام". وهي قضية لم تحسم حتى الآن: فهل تعد الرواية جزءاً من مشروعي هذين الكاتبين الموسوعيين. أم أنهما لا يعدان من كتاب الرواية؟ ويضرب المعداوي مثلاً بسارتر الذي يعد روائياً، على رغم كونه فيلسوفاً، ونتاجه الروائي الذي تجلى في ثلاثيته: "دروب الحرية" لم يتعرض للإهمال، وينظر إليه باعتباره نتاجاً روائياً. الغريب أن سهيل إدريس يعاتب في رسالة منه إلى المعداوي الأدباء المصريين قائلاً: "نحن اللبنانيين والسوريين، نتهافت على نتاجهم لنقرأه ونتذوقه وننقده، بينما هم يهملون نتاجنا، على رغم أنه يفوق أحياناً نتاجهم عمقاً وفناً وجمالاً". قد لا أفي سهيل إدريس حقه ان قلت انني استمتعت بسلاسة نصّه وعذوبة روايته وأعجبت بل وانبهرت بشجاعته في مواجهة النفس والآخرين وبالمقدرة الفريدة على الاعتراف مهما كانت قسوة هذه الاعترافات. ولعل هذا ما سيعطي الجزء الثاني أو الأجزاء الباقية من هذه المذكرات قيمة تجعل صدورها حدثاً مهماً من أحداث الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين. فالرجل عاصر كل ما جرى فيها وكان طرفاً أساساً في الكثير من معاركها ولهذا ستنضم إلى مصاف الأعمال الكبرى في أدب الاعترافات ليس على مستوى الوطن العربي فقط ولكن على مستوى العالم كله.