"الحمام التركي" نوع من الحمام الذي ولد في الشرق الأوسط خلال السيطرة العثمانية، ومن هنا اسمه "التركي"، وهو عبارة عن حجرات متعددة يدخلها الفرد، أولاً الى حجرة المياه الدافئة ثم حجرة البخار، ثم "التكييس" والتدليك وهما بحسب الطلب، وأخيراً الحمام البارد المنعش. وعادة دخول الحمام مرتبطة باعتبارات عدة منها النظافة وعلاقة النظافة بالصلاة، ومنها ندرة المياه في البيوت المدينية. والحمام لصيق بالمدن فلا نجد حمامات في الأماكن الريفية أو البعيدة من المدن. حمامات تركية قليلة بقيت تعمل في مدن لبنان الأساسية، ففي بيروت حمام واحد صمد في وجه الحداثة وولادة النوادي الرياضية وزيادة الرفاهية في المنازل، وهو "حمام النزهة الجديد" في منطقة زقاق البلاط الذي أسسه الحاج أحمد بيرقدار عام 1920 كما هو مذكور على يافطة مدخله. والحاج أحمد بيرقدار أتى منذ قرن تقريباً الى بيروت من سورية وأسس عائلة واستقر في المدينة. ولهذا الحمام قصة تشبه قصص مباني بيروت التي تنقلت وغيرت عناوينها بفعل التحولات المدينية أو بفعل الحرب. تأسس الحمام أولاً في منطقة الباشورة وكان يحمل اسم "حمام النزهة"، وبسبب التخطيط المديني والتحديث، كبناء الجسور وشق الطرق الواسعة، هُدم الحمام، وانتقل صاحبه الى منطقة زقاق البلاط حيث حوّل الطابق الأرضي من المبنى الذي يسكنه مع عائلته الى حمام وأضاف كلمة "الجديد" الى اسمه فأصبح "حمام النزهة الجديد". والحمام عبارة عن بيت ارضي فسيح يطل من الخارج على صالة رحبة ذات سقف عال وأبواب متعددة تفتح على صالات أصغر حجماً تستعمل للراحة والاسترخاء بعد أخذ الحمام في الحجرات الداخلية التي لا تطل على الصالة الخارجية. والصالة، كما الغرف، مفروشة بمقاعد عربية مريحة تزينها اغطية قطنية ملونة، وعلى جدرانها صور شرقية قديمة وصور أشخاص زاروا الحمّام وكانوا من زبائنه لسنوات. فهم بعض المشاهير، أمثال ملكة جمال العالم السابق جورجينا رزق. والمبنى الذي يقع فيه الحمام قديم الطراز يذكرنا بعمارات وسط بيروت المرممة، وقد بقي على حاله، ولم يُرمم، إلا أن بابه الخارجي استُبدل بباب من الألمنيوم والزجاج وهي مواد لا علاقة لها بطراز المبنى القديم وعراقته. يُعدّ الحمام مؤسسة سياحية ويخضع لقوانين ضرائب المؤسسات السياحية. وشهدت منطقة زقاق البلاط الحرب اللبنانية عن قرب كونها تقع تقريباً في وسط بيروت التي كانت مقسمة، مع هذا لم يتوقف "حمام النزهة الجديد" عن عمله كل يوم بل زادت اعماله - بحسب قول صاحبه الشاب احمد بيرقدار - بوجود المسلحين حوله الذين كانوا يدخلون الحمام بأعداد كبيرة طلباً للاسترخاء من مهنة "قتل الناس" وطلباً للنظافة ولعب الورق والطاولة، فكانوا يتركون اسلحتهم ورشاشاتهم وقنابلهم في الصالة الخارجية أمانة عند أصحاب الحمام، ومعظمهم - كما اخبرنا بيرقدار - كانوا لطفاء مع "شغيلة" الحمام على رغم مهنتهم القتالية العنيفة. ويستقبل الحمام الزبائن من الرجال ليلاً ونهاراً طوال أيام الاسبوع عدا قبل ظهر كل يوم اثنين حين يُخصص للنساء فقط، ويختفي "شغيلة" الحمام للرجال قبل ظهر كل اثنين لتدخله عاملات استقبال النساء الآتيات، ويُدار الحمام في هذا الوقت فقط عبر السيدة بيرقدار والدة أحمد حفيد المؤسس الحاج أحمد بيرقدار. أما الزبائن فينتمون رجالاً ونساء الى طبقات اجتماعية مختلفة وهم في الغالب تجاوزوا الثلاثين من العمر. وتكلفة دخول الحمام للرجال أقل بكثير مما هي للنساء 14 دولاراً للرجال بينما تتجاوز 23 دولاراً للنساء. والسبب كما يقول بيرقدار ان النساء يقضين وقتاً أطول بكثير في الحمام، ويستهلكن ماء ومناشف ويطلبن "التكييس" لمرات عدة ويُدلّكن لفترة أطول، ثم يأخذن وقتهن للراحة من عناء البيت وهمومه. أما الرجال فعلاقتهم مع الحمام مختلفة، وقد تكون وتيرة مجيئهم المتكررة أحد أسباب سرعتهم في أخذ الحمام ثم الانتقال الى الصالة الخارجية حيث يقضون وقتاً أطول. ينتهون من الحمام بسرعة ويتكيّسون ويدلكون مرة واحدة، إلا انهم يحبون قضاء وقت أطول ملفوفين بالمناشف القطنية الكبيرة جالسين في الصالة الخارجية مع اصدقائهم أو مع أناس تعرفوا عليهم للتو. والصالة بالنسبة اليهم مساحة تعارف اجتماعي ولقاء واحياناً فضاء لعقد صفقات عمل. يدخنون ويلعبون الورق والطاولة ويأخذون نفس "أركيلة". أما النساء فيحملن معهن أدوات الزينة ولوازم الحمام الخاصة والكريمات المطرية للجلد، يضعنها فور الانتهاء من تجفيف أجسادهن والخروج ملفوفات بالمناشف الى الصالة الخارجية أو "البرّاني" كما يقال بلغة الحمام. والحمامات التركية كما ذكرنا مرتبطة منذ القدم ببناء المدن والأحياء وقد يكون لبنان بين الدول العربية المتوسطية من أقل الدول التي شهدت شيوع الحمام مقارنة مع مدن مثل حلب ودمشق ومدن عربية أخرى. ونقرأ في رواية "حمام النسوان" للكاتب السوري فيصل خرتش التي صدرت عام 1999 عن دار المسار اللبنانية المقطع التالي واصفاً المدينة في الزمن القديم: "... للمدينة سبعة أبواب، يربط بين الباب والباب سور من حجر عال ومتين... وداخل هذا السور يوجد خمسون حماماً... فيها سوق كبيرة وقلعة تتوسط المدينة وتشرف عليها كأنما تحرسها من العين وأولاد الحرام وجور الزمان. والحمامات كانت قبل الظهر حتى الصلاة للرجال، وبعد الظهر حتى المغرب للنساء، ثم تعود للرجال ثانية... بعضها كان للأغنياء وبعضه كان للفقراء، وبعضها كان لسكان الحارة والمناطق المحيطة، وبعضها كان للغرباء والبدو الذين يغتسلون فيها وينامون حتى الصباح "دفء وشفاء" ودخول الحمام ليس كالخروج منه...". ولعائلة بيرقدار حمام آخر في مدينة طرابلس هو "حمام العبد" وهو قديم وعمره أكثر من 500 عام، ويقع داخل الأسواق القديمة في عاصمة الشمال اللبنانية بين سوق "الصياغين" وسوق "الكندرجية". ولا دخول للنساء الى هذا الحمام العريق، والعمل فيه خفيف والسبب كما يقول بيرقدار ربما عدم قدرة المواطنين هناك على دفع تكلفة الحمام. ويبدو ان الحمامات تتحول تدريجاً الى حمامات للرجال بعدما استغنت المرأة عن زيارة الحمام واستعاضت عنه بحمام خاص في منزلها تتوافر فيه أساليب الراحة، أو صارت تزور النوادي الرياضية حيث الراحة متوافرة بسهولة أكثر. ونعود في نهاية هذا المقال الى رواية "حمام النسوان" وننقل مقطعاً منها يصف فيه الروائي فيصل خرتش اجتماع النساء في الحمام: "... سكبت كل واحدة عدة أجران من الماء الساخن، فامتلأ الحمام ببخار الماء، لفّت الأجساد بشفق من البياض... بدأن غسيل الأجساد وتلميعها... وزدن على ذلك بالغسيل بالصابون المطيّب والمعطّر، والدريرة وتمر الحنة والياسمين. أزلن زوائد الجسد، استرحن قليلاً للطعام... خرجن الى "البراني"، فوجدن صواني اللحم قد فُرشت بانتظار الأيدي، رُشت العطور، ودخلت جوقة النساء بعد الطعام الى الداخل... ثم تعطرن ومسحن زوايا الجسد...".