مثلما اطاحت هجمات 11 أيلول سبتمبر الماضي ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وبجناح رئيسي من مبنى البنتاغون في واشنطن، فإنها على ما يبدو قد أطاحت أيضاً ببعض محاور النقاش والجدل الطويل الذي استنفد العقد الأخير في ما يخص ماهية الوضع الدولي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة وآفاقه المستقبلية. وبالطبع فإن تلك الهجمات لم تحسم ذلك النقاش بقدر ما نحَّت بعض محاوره جانباً، فيما قننت محاور أخرى للنقاش صوب مسالك جديدة واستنبتت اتجاهات جديدة لنقاش متصل. والواضح وبغض النظر عن هوية مدبري هجمات أيلول، ان تلك الهجمات آذنت بدخول فاعلٍ غيرِ الدولة في ميدان الصراع والتنافس على القوة في المسرح العالمي. وكانت التباشير تقول ان القوة صارت تميل الى المنظمات غير الحكومية، والشركات المتعددة الجنسية، وشبكات الإعلام والاتصال الفضائية. الا ان هذه الفواعل - على عكس الارهاب - ظلت تكتسب تأثيرها وقدرتها من التسلل الى لعبة التنافس على القوة العالمية واستخدام "القوة الناعمة". أما الارهاب فلم يكتف هذه المرة بالدخول في لعبة التنافس على القوة العالمية باستخدام القوة العسكرية "الغليظة"، بل دخلها معلناً الحرب على القوة الدولية العظمى الوحيدة. وجاءت أحداث أيلول ولواحقها لتبرهن ان السياسات العالمية ستظل أسيرة القوة العسكرية. وأثبتت الحلقة الأفغانية ان "الجيوبولتيك" الجغرافية السياسية لم تخل مكانها لصالح "الجيو ايكونومي" الاقتصادية في عصر العولمة. وزعمت قراءة بعض المحللين للهجمات وتوابعها أنها كرست أحادية أميركا غير المكترثة. وانه من المستبعد ان تنتهي هذه الأحادية في العقدين القادمين على الأقل، خصوصاً بعد ان برهنت الأحداث حاجة الحلفاء الأوروبيين المتزايدة للشراكة الأمنية مع أميركا، وتكشف لهم انهم لا يملكون وسائل الانتقام من هجمات مشابهة. وبعد ان تأكد في اطار هذه الأحداث ان رغبة موسكو في اقامة شراكة مع واشنطن تفوق القضايا المختلف عليها، ومن بينها قضية الدرع المضادة للصواريخ. واتضح للعالم ان الصين مصممة تماماً على عدم اثارة الشريك الأميركي. واعتقد بعض آخر ان الهجمات وتوابعها مهدت الطريق سريعاً الى اقامة عالم متعدد الأقطاب. إذ بسبب الحوادث تخلت اليابان والمانيا عن المعوقات الداخلية التي تحول دون انتشار قواتهما العسكرية. وهذا قد يذكي التطلع الياباني والالماني الى وظيفة تتجاوز الوظيفة الاقليمية الى آفاق أرحب وأوسع. وإذا كانت روسياوالصين قد توأمتا مع أميركا في اطار المرحلة الأفغانية، فذلك لأنهما تريدان تحقيق أهدافهما بتسخير قوة أميركا لصالح تلك الأهداف. وكانت القوتان تريدان لأميركا ان تغرق في وحول أفغانستان، ثم في صراعات حربية متواصلة مع عدو "شبح" ينتشر في أنحاء مختلفة من العالم. وهذا قد تكون له نتائج على انهاك القوة الأميركية. وآنذاك يكون من السهل أن تبرز الدولتان لمزاحمتها واقامة عالم متعدد الأقطاب. وفي ظل الفتوحات التقنية، بات متاحاً، إذا تمكن المرء من التسلل لموقع عسكري أو اقتصادي أو من أي نوع أن يدخل معه آلات مبرمجة لا يزيد حجم الواحد منها على المليمتر الواحد، فينشر آلاف الألغام المتناهية الصغر بواسطة هذه الآلات التي يمكن تفجيرها بالذبذبات. ان الآفاق المتصورة لمدى ما يمكن أن يلعبه الارهاب في تغيير معادلة القوة التي تشكل تركيبة النظام العالمي يكمن جوهرها في قدرة الارهاب على تغيير معادلة القوة. وهو أمر إذا تحقق، فإنه سيترك آثاره على مستويين: الأول يطرح امكان عودة الجيوش الحديثة الى الأسلحة القديمة التي باتت توصف بأنها غبية. والمستوى الثاني هو الدخول في متاهات التنافس المعرفي بعد أن تكون معادلة القوة العالمية نفسها قد استندت في شكل كلي على المعرفة. وآنذاك فإن التوازن العالمي نفسه سينتهي لأنه سيكون عرضة لتقلبات متسارعة نتيجة طبيعية لتغير بنية قوة التوازن نفسها واعتمادها على المعرفة التي بطبيعتها متغيرة باستمرار. بغداد - عصام فاهم العامري باحث مشارك في مركز الدراسات الدولية في الجامعة