لعله من الأجدر بنا أن نزيح عن كاهلنا التأثير السلبي الذي مارسه، وما يزال، الاستهلاك الواسع لمقولة: إن النظام الدولي يتجه إلى "التعددية" القطبية.. بل، وأن نقدر أن الواقع الدولي هو في آن واحد: أحادي القطب، ومتعدد الأقطاب، و-ربما - "لا قطبي" في كثير من الاحيان. الدافع إلى قولنا هذا، هو أن انتهاء النظام القائم على قطبين جاء ليعيد إلى روح العصر فرضية تعددية الاقطاب، بصورة تكاد تكون بدهية، وهي الفرضية التي سلم بها عدد كبير للغاية من العاملين على ساحة العمل الصحافي العربي والعالمي أيضاً. وفي اعتقادي، أن علينا إتخاذ التدابير الوقائية، في الوقت الراهن، لمواجهة ما يطلق عليه هيرشمان "خطر الارتداد إلى الماضي"، بمعنى المبالغة في تقدير الترابط والاستقرار اللذين اتسم بهما عصر القطبية الثنائية، بدافع إظهار حالة "عدم الاستقرار"، أو "عدم الترابط" السائد حالياً. فهل يكون لهذه الإشكالية أي معنى في سياق المرحلة الراهنة؟! بعبارة اخرى، إذا كان الإفراط في إظهار "التسيب" الحاصل بعد انتهاء النظام "الثنائي القطبية"، كان أغفل أحد المواضيع الاساسية، وهو التفسير، لمعنى "النظام الدولي بعد الحرب الباردة"، فإن في طرح الاشكالية المتعلقة ب"القطبية" في الاطار العام لما نطلق عليه "المناخ العالمي الجديد"، ما يمهد لنا الطريق في هذا الصدد. وفي اتجاه إزالة احتمالات سوء الفهم، لا بد من التأكيد على أن مفهوم "تعددية الأقطاب" يعود الى الفكرة التقليدية التي ترى: أن النظام الدولي يمكن تحليله إلى دول فحسب، حيث تتمتع هذه الدول في داخله بقوى متقاربة، وتسعى إلى تحقيق الأهداف ذاتها، فضلاً عن دخولها في لعبة التحالف الآلية إذا ما حاولت إحداها الاستئثار بميزة حاسمة دون الاخرى. إلا أن التوزيع الدولي الحالي، يثير التساؤل من جديد حول مدى صحة هذا النهج، وثمة فرضيات ثلاث تؤيد ذلك الفرضية الاولى: تستند الى قاعدة مؤداها: إن فهم الدور الذي يلعبه النظام الدولي في تشكيل سلوك مكوناته، يتطلب التعامل معه ك"نظام للعمل" وهو ما يعني ضرورة تجاوز الفهم التقليدي، الذي يقوم، من جهة، على ادعاء مفاده أن "الدولة" هي الفاعل الاساسي ووحدة التحليل الرئيسية، وأن باقي الفواعل الدولية الاخرى منظمات دولية، وشركات دولية النشاط.. ما هي إلا امتدادات لإرادة الدول القومية، ويقوم، من جهة اخرى، على زعم مفادة ان سيادة نمط معين للنظام الدولي، سيؤدي إلى تماثل معين في السياسات الخارجية للدول المكونة لهذا النظام. هنا، لا بد من الاخذ بعين الاعتبار أن النظام الدولي، في ما يبدو، أكثر تعقيداً من مجرد التفاعلات بين الدول القومية وحكوماتها، حول مجموعة الظواهر السياسية والامنية. فهناك فواعل دولية - بالاضافة إلى الدول - تشارك بصورة مباشرة في السياسة العالمية. يكفي أن نلاحظ الدور الذي تلعبه الفواعل العابرة ل"الحكومات" وتلك المتعدية ل"القوميات"، مثل الشركات الدولية النشاط والمؤسسات والكنائس واتحادات العمال الدولية، والمنظمات الوظيفية، مثل: صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها.. أضف إلى ذلك، في ما يتعلق بنمط، أو بالاحرى أنماط، التفاعلات. إن هذه الأخيرة، لا تتوقف فقط على أبعاد الصراع والتنافس بين الفواعل داخل النظام، ولكن، أيضاً، على تلك التفاعلات التكاملية والتنمية الاقتصادية والتجارة الدولية والتقدم التقاني التكنولوجي، وهو ما يساهم في توضيح أبعاد ما يمكن ان نطلق عليه "دور المساومة بين الاطراف". الفرضية الثانية، تتمحور حول ما يثيره استخدام اصطلاح "تعددية الاقطاب" من اعتراضات اساسية، فالدولة إذا ما ظلت، في عصرنا الحالي، لاعباً قوياً في النظام الدولي، يتلاشى احتكارها للحركة بصورة خطيرة، وكما يلاحظ زكي العايدي، في كتابه: "المعنى والقوة في النظام العالمي الجديد"، فإنه، وإن كانت هناك ضرورة لموازنة أية قوة صاعدة من خلال تعزيز تحالف القوى "التقليدية" إلا أن ذلك لا يلتزم بالضرورة حدود الدول القومية. بعبارة اخرى، فإن المستوى الملائم للتحليل لا يقع في مجال التوزيع الاستاتيكي للقوة العالمية، بقدر ما هو في تلك التفاعلات التي تربط اللاعبين في ما بينهم. في ما يعنيه، يعني ذلك أن الطابع غير الملائم لمفهوم "توازن القوى" في المجال الاقتصادي، فضلاً عن الطبيعة الجزئية التي تتسم بها مخاطر السياسة الدولية، وعدم التطابق التام بين ميادين السيادة الاقتصادية والسياسية، من دون إغفال عدم التجانس السياسي بين الاقطاب اوروبا، مثلاً، لا تتمتع بالسيادة على الصعيد السياسي بدرجة الولاياتالمتحدة الاميركية او اليابان كل ذلك من شأنه أن يقلل من الاستخدامات العملية للفظ "تعددية الاقطاب" يكفي ان نلاحظ انه حتى إذا ما سلمنا بفكرة ان تعددية الاقطاب هي تعبير عن تخصص وظيفي بين اقطاب اقتصادية واخرى عسكرية، أكثر من كونها توزيعاً جامداً بين قوى متشابهة، فإن استعمال مثل هذا المفهوم سوف يصطدم بصعوبات عدة. الفرضية الثالثة، وتتمثل في مدى دقة الاشكاليات التصنيفية بين القوة الاقتصادية أو المالية، والقوة السياسية، إذ يستحوذ اللاعبون المسيطرون من الدول أو من غيرها، على مسؤوليات واسعة على نحو مطرد الانفتاح "العالمي" في إطار ظاهرة "العولمة"، وإذا كان تقاسمها يتم بصورة متزايدة ايضاً، وذلك في جميع ميادين القوة تقريباً، فلم يعد هناك وجود لقدرة لاعب واحد على السيطرة على تطور دولي بمجمله، بما في ذلك المجال العسكري في ما يتعلق بالولاياتالمتحدة الاميركية. يتأكد هذا إذا انتقلنا من المستوى الدولي إلى الاوضاع الاقليمية، إذ أنه ليس من المؤكد أن الطريق للقوة يمثل من الآن فصاعداً، أكثر السبل ذيوعاً وملاءمة لتأكيد هذه الاوضاع الاقليمية، لقد بدأت الخطوط الرئيسية لهيكل "ما بعد حداثي" من هياكل السيطرة تأخذ طريقها الى الظهور، من نيجيريا الى الهند، مروراً بالبرازيل وايران وباكستان والصين، يقوم على اساس نزعات انفصالية، ولا يستند الى أية تطورات مترابطة، ويعبر عن نفسه من خلال قوة قوامها الردع "لا" إعادة التوزيع، وتغذيها عوامل اجتماعية مستقلة دون مستوى الدول تحل محل السفارات كما تخضع لاستراتيجيات جزئية وليس لمخطط شامل. ولعل المسألة الاساسية، هنا، التي يمكن حسمها - على نحو قاطع بالتأكيد - أن المستوى الاقليمي لم يعد هو ذلك "المجال الوسط" بين الداخلي والعالمي على نحو قياسي، فثمة خيارات تسمى بالإقليمية، لم تعد تجري على أساس المفاضلة بين الجوانب الداخلية والعالمية، بقدر ما تعد بالاحرى: الترجمة الاقليمية لسياسة عالمية جرى وضعها على الصعيد الوطني السباق النووي الهندي الباكستاني، دال في هذا الإطار. في هذا السياق، فإن بقعة الضوء الواقعة عند مركز الدائرة، المكونة لتلك الفرضيات الثلاث، تؤكد من جديد، أنه من الاجدر بنا أن نقدر ان الواقع الدولي هو، في آن واحد، احادي القطب، ومتعدد الاقطاب و"لا قطبي" في كثير من الاحايين. هنا، نجد انفسنا مباشرة في مواجهة وضعية، غير مسبوقة، تحمل "جديداً"، من دون شك.. وهنا، يمكننا أن نلاحظ أن "الجديد" جداً، هو التغيير الحاصل في مفهوم القطبية بمعناها التقليدي، وهي - هي - الملاحظة التي يؤكد عليها عبدالمنعم سعيد في بحثه الموسوم: "التغير في دور مصر الاقليمي والدولي"، إذ أن "القطبية" تقليدياً كان يتم التعرف عليها عبر توزيع القوة والسلطة بين دول قومية أو تكتلات او احلاف بينها، ومن خلال سعي "الاقطاب" الى السيطرة التي تتضمن استخدام، أو التهديد باستخدام، القوة ضد أقطاب وأطراف أخرى في العالم. وإذا كان يبدو، هكذا، ان جوهر "القطبية" كان السيطرة وأداتها - كانت - القوة العسكرية، فالآن، اختلف الوضع، إذ أن القطبية يمكن التعرف عليها من خلال سيادة شبكة كبيرة ومعقدة من "التفاعلات" السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشؤون العالمية، ولعل هذه الشبكة هي ما يمثل "اساس" النظام "الغربي" الرأسمالي/ الليبرالي، كما هو سائد في العالم، خلال العقد الاخير من القرن العشرين. في هذا "النظام"، كما يبدو، فإن القوة والسلطة ليستا موزعتين حسب القدرات العسكرية وحدها، بل إن الامر الجدير بالتأمل، هنا، أن ما يميز هذا "النظام" هو سعيه الدؤوب من اجل توسيع السوق وتكثيف التعامل معه، وفيه وهو الامر الذي اصبح الآن متاحاً - كما لم يحدث في التاريخ من قبل - بفعل الثورة العلمية والتقانية، هذا السعي يقوم بتحطيم: ليس فقط احتكار القوة والسلطة، الذي مثلته "الدولة الاشتراكية" في أنقى صوره، ولكن ايضاً يضعف "الدولة الرأسمالية"، ذاتها، من خلال قوى "الخصخصة" في الإطار العام لظاهرة "العولمة". وهكذا، فإن الديناميات الدولية التي نراها تتجاور وتتعايش وتتداخل، بل وتتصادم، لا تجسد بالضرورة "إعادة تركيب" للمخاطر في ظل الظروف التقليدية، وإنما هي تدفع الى تصور فترة نتعلم خلالها "اعتناق" تصورات او مقولات كنا نقف منها موقف المعارضة حتى وقت قريب. بناء على ذلك، يحق لنا التساؤل - في واقع الامر - عن ما إذا كان ينبغي البحث عن مصادر القوة، لا في اقطاب يصعب علينا تحديد مجال مسؤولياتها، وإنما في "تركيبات" متميزة داخل سياقات أو أبعاد جغرافية سياسية معينة، إذ من شأن هذا النهج التركيبي، أن يعدل اتجاه إشكاليات القطبية، بطريقتين: أولاً: بالتأكيد على أن القوة تنشأ - أكثر من أي شيء آخر - على التفاعل بين اللاعبين بصفتهم المنفردة. ثانياً: ان المخاطر أو المتغيرات هي التي تصنع هيكل التركيبات، وليس العكس. * كاتب مصري.