في مشهد يُجسّد التطهير الممنهج، وسّعت إسرائيل من نطاق وجودها العسكري داخل قطاع غزة منذ استئناف حربها على حماس، لتُسيطر حاليًا على أكثر من %50 من مساحة القطاع. وهذه السيطرة لم تتوقف عند حدود التقدم العسكري، بل اتخذت طابعًا مدمرًا طال البشر والحجر، في محاولة واضحة لبسط نفوذ دائم، وتغيير معالم الأرض والديموغرافيا. محو المنازل ولم يكتفِ الجيش الإسرائيلي باحتلال الأرض، بل عمد إلى تدمير واسع النطاق لمنازل الفلسطينيين وأراضيهم الزراعية والبنية التحتية، خاصة في المناطق الحدودية التي تم تحويلها إلى منطقة عازلة غير صالحة للسكن. وأكد جنود إسرائيليون، بالإضافة إلى منظمات حقوقية، أن حجم هذه المنطقة قد تضاعف خلال الأسابيع الماضية، حيث اقتُلع كل ما يمكن أن يُعيد الفلسطينيون من خلاله حياتهم. ويقول أحد الجنود الإسرائيليين، ممن يعملون ضمن فرق الدبابات المرافقة لعمليات الهدم: «دمرنا كل ما استطعنا تدميره. لن يكون لديهم ما يعودون إليه. لن يعودوا أبدًا». ممرات إسرائيلية ومن خلال إنشاء ممر نتساريم العسكري، قطعت إسرائيل أوصال القطاع، حيث عزلت شماله – بما فيه مدينة غزة – عن الجنوب. ومع استئناف العمليات العسكرية الشهر الماضي، ضاعفت تل أبيب من حجم المنطقة العازلة، ودفعتها في بعض الأماكن إلى عمق ثلاثة كيلومترات داخل غزة. وفي خطوة تصعيدية أخرى، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خطة لإنشاء ممر جديد يعزل مدينة رفح عن بقية القطاع. ويرى مراقبون، مثل البروفيسور يعقوب غارب، أن إسرائيل تهدف من خلال هذه الإجراءات إلى إعادة ترسيم خارطة القطاع وفق مصالحها، مؤكدًا أن المناطق العازلة وممر نتساريم يشكلان ما لا يقل عن نصف مساحة القطاع. الأرض المحروقة وأظهرت صور الأقمار الصناعية تحول أحياء كاملة إلى أنقاض، وتم توثيق تدمير آلاف المنازل والمصانع والمدارس والمساجد والأراضي الزراعية ضمن إستراتيجية تهدف إلى تفريغ القطاع من مقومات الحياة. ويقول خمسة جنود إسرائيليين تحدثوا لوكالة «أسوشيتد برس» إن الأوامر كانت صريحة: تدمير كل ما يمكن أن يستخدمه الفلسطينيون للعيش أو العودة. ويروي أحد الجنود بحرقة: «اكتشفت أننا لا نقتل المسلحين فقط، بل نقتل زوجاتهم وأطفالهم وقططهم وكلابهم، وندمّر منازلهم». وأضاف أن الفلسطينيين الذين يقتربون من المنطقة العازلة، حتى الأطفال والنساء، يُستهدفون بالرصاص. تهجير قسري وتشير منظمات حقوقية إلى أن ما يجري في غزة يُعد تطهيرًا عرقيًا منظمًا، خاصة مع إعلان نتنياهو أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، وستشجع الفلسطينيين على «الهجرة الطوعية»، في إشارة إلى مخطط لنقل السكان خارج غزة. وأكدت منظمة «كسر الصمت» – وهي تجمع لقدامى الجنود الإسرائيليين – أن التدمير الواسع للبنى التحتية تم بتخطيط مسبق لتهيئة الأرض لسيطرة إسرائيلية طويلة الأمد. وفي حين تبرر إسرائيل عملياتها بأنها تهدف إلى الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن، تُحذّر منظمات، مثل «هيومن رايتس ووتش»، من أن ما يحدث قد يُشكّل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. استيطان ناعم وما يجري اليوم في قطاع غزة لا يُمكن قراءته بمعزل عن السياسات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي استندت إلى الزحف التدريجي، والتذرع بالأمن، وتغيير الوقائع على الأرض. ويبدو أن إسرائيل تُكرر السيناريو نفسه في القطاع، لكن تحت غطاء الحرب. ومن خلال السيطرة على الممرات الإستراتيجية، وتوسيع المناطق العازلة، وتدمير البنية التحتية، تعمل إسرائيل على فرض واقع جديد يمنع الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم، ويجعل من إعادة الإعمار مهمة شبه مستحيلة دون المرور عبر شروط الاحتلال. ويُجمع خبراء القانون الدولي على أن التهجير القسري للسكان المدنيين يُعد جريمة حرب، خاصة عندما يقترن بسياسات ممنهجة لتدمير الممتلكات ومنع العودة. وفي الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل الاتهامات الموجهة إليها، فإن شهادات الجنود والمنظمات المستقلة تكشف بوضوح أن الهدف ليس فقط محاربة حماس، بل إفراغ غزة من سكانها وتفريغها من مقومات الحياة. تحت النار وفي خان يونس، جنوب قطاع غزة، قصفت طائرات الاحتلال خيمة إعلامية بالقرب من مستشفى ناصر، مما أدى إلى استشهاد صحفيين اثنين وإصابة ستة آخرين بهجوم مباشر على الصحفيين العاملين في تغطية الكارثة الإنسانية المتصاعدة. استهداف المستشفيات استهدفت غارات أخرى خيامًا على أطراف مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح وسط القطاع، منا أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص. كما أعلنت مستشفيات غزة عن استقبالها 20 جثة جديدة، بينها ثماني نساء وخمسة أطفال، في أعقاب سلسلة غارات جوية ليلية. ووفقا لمستشفى شهداء الأقصى، فإن غارتين جويتين استهدفتا منازل في دير البلح، وأودتا بحياة ثمانية أشخاص، من بينهم ثلاث نساء وثلاثة أطفال. ومع استمرار الحرب التي دخلت شهرها الثامن عشر، لجأ آلاف الفلسطينيين إلى خيام داخل ساحات المستشفيات ومحيطها، على أمل أن تتجنب هذه المواقع من القصف. إلا أن إسرائيل شنّت مرارًا غارات على المستشفيات بدعوى استخدامها من قِبل حماس في أغراض عسكرية، وهي اتهامات نفتها الأطقم الطبية. حصيلة ثقيلة أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية، بحسب وزارة الصحة في غزة، عن مقتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، بينما تدعي إسرائيل أنها قتلت نحو 20 ألف مقاتل، من دون تقديم أدلة واضحة. كما أدت الغارات إلى تدمير واسع للبنية التحتية، ونزوح قرابة 90% من سكان القطاع. وما يحدث في غزة اليوم هو أكبر من حرب عسكرية، وأبعد من مجرد صراع مسلح، بل هو إعادة رسم للخارطة السكانية والسياسية للقطاع بالقوة، فالاحتلال لا يكتفي بقتل المدنيين، بل يُزيل وجودهم من الجذور عبر الهدم والتدمير، في محاولة لبسط سيطرة دائمة على ما تبقى من أرضهم. الاستيطان الناعم الذي تتعرض له غزة: زحف تدريجي للسيطرة على الأراضي من خلال التوغل العسكري وتوسيع «المناطق العازلة». تدمير ممنهج للبنية التحتية، بما في ذلك المنازل والمزارع والطرق، لمنع السكان من العودة والاستقرار مجددًا. فرض واقع جديد على الأرض يصعب تغييره مستقبلًا من خلال السيطرة على الممرات الإستراتيجية، وربط شمال غزةبجنوبها عبر ممرات عسكرية. إفراغ السكان قسرًا عبر التهجير الجماعي والحصار، دون السماح لهم بالعودة. عرقلة إعادة الإعمار لتبقى المناطق المدمرة خالية من الفلسطينيين أو تحت إشراف إسرائيلي مباشر. إعادة رسم للخارطة السكانية والسياسية في غزة، بما يُمهّد للسيطرة الدائمة دون إعلان رسمي عن الاحتلال. استخدام الحرب غطاء لتنفيذ خطة طويلة الأمد تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني في غزة، وتحويله إلى مناطق غير قابلة للحياة. الاستيطان الناعم: لا يُعلن كاحتلال مباشر، بل يتم عبر خطوات ميدانية تدريجية تُغيّر الواقع ديموغرافيًا وجغرافيًا.