ترى ما الذي يجعل رواية "البؤساء" للكاتب الفرنسي فكتور هوغو، واحدة من أشهر الروايات في تاريخ الأدب الأوروبي، وربما العالمي ايضاً؟ ما الذي يجعلها مقروءة ومترجمة أكثر من أية رواية أخرى؟ وما الذي جعل فن السينما يهتم بها كل هذا الاهتمام، خلال القرن العشرين كله؟ هل هو طابعها الميلودرامي؟ هل هو كمّ المغامرات التي تملأها؟ هل هو كونها "رواية الشعب كتبت لكي يقرأها الشعب" بحسب تعبير النقاد الواقعيين التقدميين في القرن التاسع عشر؟ كل هذا... في الطبع، اضافة الى العديد من العناصر الأخرى التي يجعل من هذه الرواية "رواية الروايات" والنص الذي لا يمكن لقارئ أن يتركه قبل ان ينتهي منه تماماً. وذلك على رغم ان الرواية تستغرق عدداً من الصفحات، وتتشابك فيها الأحداث والشخصيات والأماكن والظروف النفسية والإجتماعية. غير ان في إمكاننا، وسط هذا كله ان نتوقف لنقول: إن القطب السحري الأساسي في هذه الرواية هو شخصيتها الرئيسة: جان فالجان. فهذا الرجل الذي يتحول ذات لحظة، خلال النصف الاول من الرواية من الظلمة الى النور بفضل فعل لا يد له فيه، انما مثل على الدوام قدرة الانسان على التوبة واتباع خط النور حين يلوح له، وسط نفق حياته الطويل. ومن هنا ربما كان يصح أن نقول أن أهمية جان فالجان تكمن في كونه أول بطل اشكالي رغب القراء في أن يتماهوا معه، لأنهم رأوا أن معركته الداخلية هي معركته، وبالتالي فإن انتصاره على ذاته ينعكس بسرعة عليهم ويبعث في داخلهم طمأنينة لا يقلل من شأنها أن جان فالجان، على رغم كل محاولاته لارتياد دائرة النور في مساره، يشعر دائماً أنه مطارد وأن عليه أن يهرب على الدوام. وان يهرب بخاصة من ذاته، من هويته ومن إسمه، وانه في كل مرة يرتاح فيها الى ما يوصله اليه ذلك الهرب، حتى يجد أن مكافأته - في الحياة - لم تكن على قدر ما كان يتوقع. ولكن هل حقاً أن جان الجان كان يتوقع شيئاً؟ هل كان يبحث عن خلاص في علاقته مع العالم الخارجي. أم أنه أدرك منذ اللحظة التي فاجأه فيها المونسنيور ميريال بانقاذه من السجن، أن صراعه الوحيد انما هو ذاك الذي يدور في داخله، وأدرك في نهاية أيامه أن انتصاره الأكبر انما كان انتصاره على ذاته، في معركة بدت دائماً غير متكافئة؟ اننا، في الحقيقة، نجد انفسنا هنا في مواجهة الاشكاليات نفسها التي طرحت على هاملت: اشكاليات الصراع من الذات. ولكن لئن كان هاملت "الانسان الحقيقي الاول" في الادب العالمي لمجرد انه تردّد وقلق في اللحظات الحاسمة، فإن ميزة فالجان تكمن في انه لم يتردد. اقدم دائماً، ليكتشف، كما هو حال سيزيف حاملاً صخرته، أن عليه أن يبدأ من جديد. وان خلاصه، وبلوغه النور، انما له ثمن عليه ان يدفعه. وغالباً ما يكوم هذا الثمن سعادته: السعادة في مقابل الخلاص. وليس النور في مقابل الظلام كما قد يتبادر الى الذهن أولاً. من هنا يمكن القول أن "البؤساء" هي، وبالغرابة هذا التناقض، رواية عن السعادة. أو بالاحرى عن السعي الى السعادة في مسار طويل يكتشف المرء بعده أن السعادة لا يمكن ابداً الوصول اليها لسبب بسيط وهو أنه حين يصل لا يدرك ذلك... فقط يدركه حين تغيب لحظات السعادة وتصبح مجرد ذكرى. ولحظات السعادة في حياة جان فالجان، كانت كثيرة. أما معضلته الاساسية فهي انه لم يلتقط تلك اللحظات، وحين كان يدفع الثمن، انما كان يدفع ثمن ما كان استهلكه أصلاً. وازاء هذا لا يعود من الغريب ان يكون فكتور هوغو كتب "البؤساء" خلال فترة متأخرة من حياته. ولا يعود من الغريب، أن نجد في جان فالجان، صورة ما لفكتور هوغو نفسه، نوعاً من السيرة الذاتية المواربة. ولكن أفلا يمكننا ان نستطرد هنا لنقول: اجل هي سيرة مواربة لهوغو... لكنها ايضاً سيرة مواربة للإنسان نفسه، في احلامه وخيباته، وفي هربه الدائم من هويته ومن ماضيه، ومن الجانب الشرير في ذاته، وانشودة للخير الدائم والبدايات المتجددة؟ نشر فكتور هوغو رواية "البؤساء" في مجلداتها العشرة، في صيف العام 1862، وكان في الستين من عمره. ولكن من المعروف انه بدأ كتابتها - وكان اسمها "ضروب البؤس" أولاً - في العام 1845. ومن الغريب ان ذلك الكاتب الرومانسي الكبير بدأ يخط الصفحات الاولى من هذه الرواية البؤسوية الاتهامية للمجتمع، في العام نفسه الذي كرمه فيه لويس - فيليب ارفع تكريم. المهم ان هوغو اشتغل على الرواية جدياً خلال تلك الاعوام الاولى، لكن الوضع السياسي وانخراطه هو في العمل السياسي الميداني، عمدة ثم مرشحاً خاسراً للمجلس النيابي. وخلال السنوات التالية نجده ناشطاً في المعارضة والمقاومة الى درجة ان لويس نابوليون - بونابرت نفاه عن فرنسا حيث ظلّ في المنفى 18 عاماً. وحين صدرت الرواية كان هوغو منفياً. غير انه حين عاد للاشتغال عليها، ولا سيما خلال سنوات المنفى، كان مطلعاً على ما يحدث في الحياة الادبية الفرنسية، ولا سيما على النجاحات التي كانت تحققها روايات الحلقات المسلسلة مثل "اسرار باريس" وبعض أعمال بلزاك. وهكذا، طلعت "البؤساء" في نهاية الأمر ابنة زمنها، شكلاً وموضوعاً. لكنها أتت ايضاً شمولية معبرة عن الانسان ككل، وهذا ما اعطاها حياتها الكونية اللاحقة. تتألف رواية "البؤساء" من خمسة أقسام، يحمل كل منها اسم شخصية محورية: "فانتين" ام كوزيت الصبية التي سيلتقطها جان فالجان ويربيها ويرتبط بها طوال حياته: ثم "كوزيت"، وبعد ذلك "ماريوس"، أما القسم الرابع فيحمل عنوان "الغزل في شارع بلوميه وملحمة شارع سان ديني"، ويتألف هذا القسم من "كتابين" اولهما "صفحات من التاريخ" ويغلب عليه كونه بانوراما للحياة الاجتماعية في فرنسا اوائل سنوات الثلاثين من القرن التاسع عشر، اما الثاني فمكرس كله للصبية ايبونين، ابنة تيناردييه، معذّب كوزيت، وهي صبية تتأرجح بين السمو والشر وتخدم هنا كرابط بين الشخصيات. والقسم الخامس والأخير من الرواية يحمل اسم "جان فالجان" وهو كله مكرس لاعادة الاعتبار لشخصية الرواية المحورية هذه، ولموته راضياً، بعد حياته الغريبة والمدهشة التي عاشها. وعلى رغم امتلاء "البؤساء" بمئات الشخصيات التي تبدو لكل واحدة منها اهميتها ذات لحظة فإن جان فالجان يبقى هو الشخصية المحورية. ففي النصف الاول من الرواية نجد فالجان غائصاً في عالم الظلمة والشر وسنكتشف لاحقاً ان لا يد له في ذلك، لأنه نشأ فقيراً ومحروماً أما في النصف الثاني فسنجده باحثاً عن عالم النور. واللحظة الانعطافية هنا هي ما يبديهنتحوه المونسنيور ميريال، حين يسرق فالجان منه في وقت كان ميريال آواه بعد هربه المرة الاولى من السجن، واغلق الناس جميعاً ابوابهم في وجهه: اذ هنا بدلاً من أن يسلم ميريال فالجان الى الشرطة، ينقذه ويكشف له طريق النور. ومنذ تلك اللحظة، وأمام ذلك التصرف الذي لا يتمكن فالجان من تفسيره، تتبدل حياته ويبدأ سعيه الى النور، ثم علاقته بالطفلة كوزيت، التي سيكرس لها كل حياته، وستكون أعظم انتصاراته، من خلالها، على انانيته التي تدفعه حين تشب كوزيت عن الطوق، الى محاولة الاحتفاظ بها. هنا بعد صراع، وبعد مسار حياته قاده الى السجن ثم الى الهرب مرة أخرى، وبعد ان يحس بقدر كبير من العداء للشاب ماريوس الذي يغرم بكوزيت، يكون انقاذ ماريوس على يديه حين تندلع انتفاضة باريسية يقمع بالقوة. وهذا الفعل الذي يتطابق مع ما كان المونسنيور ميريال فعله ازاء فالجان، سيكون فيه الخلاص النهائي، أي السعادة النهائية التي لا يعود لجان فالجان بعدها الا ان يودع الحياة، اذ مارس الخير وزرع النور: اضاء للانسان طريق السعادة الوحيد، الخلاص والتوبة. اذا كانت رواية "البؤساء" تعتبر الأشهر بين أعمال فكتور هوغو 1802-1885 وتحتل مكانة اساسية في علاقته بقرائه في فرنسا والعالم كله اذا ترجمت الى معظم لغات الأرض، فانها لا تشكل كل ذلك العمل على رغم اجزائها العشرة. فهوغو، كما عاش حياة متقلبة ممتلئة عاصفة، كتب ألوف وألوف الصفحات، وكتب في كل شيء: في الشعر، والمسرح والرواية والنصوص السياسية وفي التاريخ والنقد ورسم واهتم بالموسيقى. وغاص في السياسة، محافظاً رجعياً حيناً، وجمهورياً تقدمياً في بعض الاحيان، ووقف ضد الحلم بالاعدام، ومع فصل التعليم عن الكنيسة. وهو عاش في باريس وصخبها كما عاش منفياً. ويعتبر من كبار واوائل الرومانطيقيين في الادب. كما يعتبر من أساطين الادب الاستشراقي، شعراً ونثراً. ومن أهم أعماله، الى "البؤساء": "الأناشيد" و"الشرقيات" و"اوراق الخريف" و"هرناني" و"خرافة العصور" و"روي بلاس" و"كرمويل" و"نوتردام ذي باري" و"عمال البحر"... الخ.