ليست الحرب هي البؤرة المركزية التي ينشئ على أرضها الشاعر اللبناني يحيى جابر دعامات كتابته، وتدور فيها رحى نظرته الوقادة فحسب، بل هي هاجسه وأفقه ومبرر اشتعاله الدائم. وهي الآخذة بجوامع أفكاره ونبضات تدفقه الكتابي كأنها دورة الدم نفسه في الجسم نفسه، تدفعه في كل مرة مصفى، منقى مندفعاً في قنواتها التي تحرقه استكمالاً لحياة جديدة. إلا ان الحرب التي أعنيها - وأحسب انها هي نفسها التي قصد اليها الشاعر - هي تلك التي تلهب الأرواح وتخرّب النفوس، فضلاً عن اللعنات التي تورّثها للمجتمعات كأن تخلف التشوهات النفسية والجسدية ودمار العمران والأشجار والنبات والمياه وما الى ذلك. ولا ينفك جابر عن مراودة نزقه الحلو ومشاكساته الجارحة كمشرط الأورام الخبيثة حتى يوقع القارئ في كمائن شغب أسلوبه الذي يمزج القصيدة بالمتداول اليومي العادي مجانباً أشكال الهندمة الكلامية والأناقة اللفظية والصيغ وسواها. ولعله لا يمانع في أن تحمل القصيدة - أو الكتابة لديه - أسلوب سرد الحوادث اليومية المتفرقة كما في الصحف أو في محاضر الشرطة، أو في ايصالات الجباية ومحال السمانة ومحال الفواكه والخضار وبلاغات الأحزاب والجمعيات الخيرية، والمديريات العسكرية والمحاكم والشواطئ والمرافق العامة. فهو يمتص افرازات الحرب بتنويعاتها، يحفظها في مكان ما من جسد الشاعر المترامي، في جعبة مصفحة ضد التآكل والتلوث وضد ان تؤثر في حافظها. ولعل أجمل فعل يقوم به هو اعادة تفكيكها وتلميعها وتقطيعها كقطع الخردة الكاسدة، فيجعلنا نضحك لتفاهتها، ونشمئز لقذارتها، ونسخر منها، ونحزن وأحياناً نبكي، لكننا أبداً لا نتعاطف مع ذلها وذل صانعيها بل نحقد عليها وعليهم ونزدريها ونزدريهم على الدوام. ولعل الفنية الأدبية هي صنيعة من صنائع عمل جابر في كتابه "كلمات سيئة السمعة" رياض الريس، 2002، بيروت هذا، كما في كتبه السابقة وأعماله المسرحية التي تعتمد الأسلوب المباشر توخياً لإضمارات تختزن أدوات عزفها الشفافة في عالم لا يغيب عنه الاستلاب والتهميش، الوصوليون والمحتلون والقاتلون فيه هم وحدهم الفائزون: "اللبنانيون،.../ اشتاقوا لفتح مكاتب الأحزاب اضبارات وطنية لبيع الأجساد تحت اسم شهداء/،... سأحتل أجمل شقة في الرملة البيضاء وبعدها أقبض تعويضاً/،... سأستعين بالشيطان صباحاً وأستغفر الله مساءً" التقاطعات الكتابية مع تيارات ومذاهب أدبية لدى جابر كثيرة، والتميز الضمني والتمكن من النفاذ والقبول كثيرة أيضاً. فإذا أردنا الوقوف وتفنيد هذه التقاطعات والتمايزات فإننا نحتاج الى بحث وربما الى دراسة أطول وأكثر دقة من هذه المقالة. الا ان ما اتصل لجابر من كتابات عبر عدد لا بأس به من الاصدارات - الشعري منها والمسرحي - يجعل المتأمل بعين نقدية يتعامل معها كجهة تتمحور حولها رؤية الشاعر نحو العالم، وتبرز من خلالها نبرته ويشكل فيها صوته الذي مهما استعار من مقامات وأمداء وألوان تؤثر فيه وتضفي عليه مما فيها، إلا أنه يبقى صوتاً يدخل المكاتب الرئيسة والغرف الموجودة محدثاً تصدعات وخلخلات قد لا يحدثها سواه. وفي خضم النقمة وسعرات الألم الوجداني والوطني، وانجراحات الهم الحياتي الذي يُثقل تفاصيل الحياة المعيشة برعبها وفظاعة تهميش الانسان اللبناني في ظلها والعربي والكوني في شكل أشمل يقود يحيى جابر أسراب طفولته الموؤودة. فالأم التي "غرقت في بحيرة من المصل" تركت الولد يتخبط وحيداً في بلد يعوم في مستنقعات الحروب، أورثته الخوف والهلع والبقاء وجعلته "متمترساً خلف أكياس الرمل"، ولا يرى الآخرين إلا من وراء هذه الأكياس وأنهم أيضاً ينظرون الى العالم من خلال ذلك: "خذوني الى كذبة بيضاء/ ردّوني الى الولدنة/،... أعيدوني الى تشرين المدرسة/،... لكن ما الفائدة؟ حين أصل الى البيت لن أجد أمي في استقبالي لتحضنني". الوجع والمرارة والانكسار من ترديات الحال الايديولوجية هي الثمرة العلقم التي جناها الشاعر. فالأفكار والقناعات التي تمرد لأجلها على الأهل والطائفة والمدينة والوطن تبدلت ووقفت على الضفة الأخرى راودت "الشاب" وتركته في يم هواها ومزاجها المتقلب وحيداً يصارع أعاصير الواقع المغير لمبادئ معشوقته "السيدة لا". ومهما تبدلت مواضيع جابر ونصوصه وتنوعت بين الحنين الى محطات في أزمنة غابرة، كالعاطفة بمعناها الفيزيولوجي والروحي، أو التمني والرغبة في عودة زمن الايديولوجيات المفتوحة على احتمالات واسعة الا انها لا تحسن الفكاك من سطوة مناخات الحرب، وتحديداً تلك التي عصفت بلبنان. وما إن تغيب من قصيدة أو مقطوعة كتابية لتطل برأسها في أخرى تاركة إياه فتى يحذر الأطفال من "عسل كلامها المغشوس" ومن الانزلاق أو اشتهاء "الدسم الثوري المملوء بالسم". اللافت لدى جابر حين يستحضر تلك الأزمنة لا لينشئ لها ترسيمات وتركيبات هيكلية جديدة بهدف استعادتها واحيائها واطلاقها رؤية يستلذ ويستطيب الانجرار معها أو الاقامة عندها، بل ليرذّلها، ويقعّرها حتى العظم. فالفتى الذي أخذته الحرب في فوران الشباب وغمرة الاندفاع وغزارة نسغه المتدفق الى جحيمها ولؤمها وخساسة أقانيمها، ها هو "يشتري غيمة من عابر سبيل" معترفاً بأن روحه "ارتكبت أكثر من جريمة/،... كم أغوتني وأنا ضعيف البنية وتشردت لأجلها في أزقة نسائية، أو عند محطات حزبية، ونمت في شوارع كالكتب مهجوراً وسط هياكل الايديولوجيات وأنقاض الأفكار" وهكذا دواليك.