وما زالت- بؤرة سردية تمدّ الروائيين بأفكار وآراء وصور. وعلى رغم مضيّ سنوات على انتهاء تلك الحرب، ظلّت ذكرياتها عالقة في أذهان من عاشوها، فاختاروا أن يخلّدوها كتابةً كي لا ننسى ويلاتها ونقع في شركها مرّة أخرى. وهذا ما يتجلّى بوضوح في رواية غسّان الديري الجديدة «حقل الرصاص» (دار غوايات)، وفيها يُطلق الكاتب صرخته المدويّة محذّراً من عودة حرب كلّفت البلد وأهله كثيراً. واستفاد الروائي من بعض ما يشكّل وثائق معروفة عمّا حصل أيّام الحرب اللبنانية لمدّة خمس عشرة سنة، متأثّراً بما يحيط به من مشهد دمويّ يزنّر البلاد العربية وحدودها عموماً. وفي هذا التحذير الروائي نستذكر ما كتبه الشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته بعيد انتهاء حرب داحس والغبراء: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ...»، مؤكّداً أنّ طبولها تقرع في الأفق إذا لم نعمل على نقدها وفلسفة أسبابها ونتائجها عبر مشرط نقديّ موضوعيّ جريء. يدفعنا نصّ «حقل الرصاص» على طرح أسئلة إشكالية منها: «إن كانت الحرب محرّضاً أساسياً على الكتابة، هل يمكن أن تكون عنصراً بنّاءً في وجه من وجوهها؟ يأتي هذا السؤال في وقتٍ يتفّق فيه الجميع أنّ الحرب فعل تدمير، ولها معنى السلب، وهي تُعادل في أيديولوجيتها وفي خطابها وفي تأثيرها فعل الانتحار. وهذا ما يؤكّده الديري في سيرورة السرد، حاملاً على الحرب التي لم تأتِ من أجل الحياة بل من أجل الفناء. «لستُ مع الهدم. لم أسمع من حضرة المسؤول العسكريّ أيّ كلام عن البناء. إنّي أشتمّ رائحة الموت تفوح مع كلّ كلمة تقولها» (ص11). يُجسّد المسؤول العسكريّ شخصيّة إشكاليّة، تفرضه الظروف شبه حاكمٍ على قرية «كهف السنديان» المتاخمة لقرية «عين التفاح»، يطلّ الكاتب على رجالات الحرب الذين أُسقطوا فوق ثقافتنا وحياتنا إسقاطاً، ليزرعوا الضّغينة، ويقيموا السواتر ويرسموا خطوط التّماس، زارعين في الأذهان أنّ العدوّ داخليّ يكمن في القرى، على رغم أنّ الحقائق الفعلية مغايرة. فالنصّ يُبرّئ لأهل القرى مما حصل بينهم من قتال ودماء وعداوة، ويشير نحو مكانٍ آخر، أبعد من القرية وأهلها. وهذا ما يقوله بطل الرواية نفسه، عمر، في وجه المسؤول: «نحن تقريباً أهل ضيعة واحدة، تربيّنا معاً، وتعلّمنا معاً، وحاربنا الفقر معاً. لغة السلم أجمل من لعلعة الرّصاص. لا أريد أن أسمع صراخ الأمهات وهنّ يستقبلن جثث أولادهنّ» (ص12). وهو يُحمّله بذلك مسؤولية كلّ ما حصل وما حملته الحرب من ويلات وموت، منزّهاً البارئ عن مثل هذه الأفعال البشريّة الّتي لا يأمر بها إطلاقاً وإنما تُرتكب باسمه: «الله محبّة، لا يحبّ القتل ولا يحبّ المجرمين. هذه مشيئة من نصّب نفسه أميراً للحياة والموت ونحن رضخنا للأمر» (ص48). وعلى رغم اجتهاد الكاتب في رسم صورة الحرب بموضوعية، مؤكّداً التآخي بين الطوائف، عبر نقله واقع التعايش بين القرى المختلفة دينيّاً وفكريّاً، من خلال سيميائية الأسماء، ودُور العبادة وتلاقي الشيخ والخوري، لم يتمكّن من جعل «المسؤول» شخصية تحوي جميع سمات المتحاربين، إذ ظهرت في أحيانٍ كثيرة أيديولوجيته ذات البعد اليساري والتي تتعارض تماماً ومؤامرته وارتباطه مع الخارج، فيقول: «كم أحبّ أن أعذّب الأغنياء الذين جعلونا نسكن بيوت الخشب والتنك» (ص56). واختلطت الأمور علينا أيضاً حين أوجد الكاتب بديلاً لهذا المسؤول العسكري، وجعله يتحلّى بثقافة واسعة وفكر تنويري، وكأنّ الحرب كانت تتوقّف على أفراد وليس على نهج يسمى القتل والتدمير. لا شكّ في أنّ الحرب- التي حرمت البطل من أصدقائه وأهله وبلدته- هي العصب الرئيس في الرواية، لكنّ الكاتب نجح في ربط الموضوعات بعضها ببعضها الآخر، فنقل القارئ إلى ثنائية حضارية، «الشرق والغرب»، محاولاً التأكيد أن الشرقيين، ومنهم اللبنانيون، لهم ثقافتهم وحضارتهم، وهم يحملون في قلوبهم الحب والنظرة الراقية إلى الشعوب الأخرى. «سكّان تلك البلاد لا يتعاطون غير لغة الجسد، فهل يختلف عمر عنهم؟ ...- رسم ابتسامتي على فوّهة قلبه، ودعا العالم لكي يشاهدها» (ص126)، وهو يكرّس بذلك رؤية النصّ التي تقضي بأنّ الحب كفيل بهزم الحرب والقضاء على الموت. تمكّن الديري من تحقيق معادلة بين طرحه الروائي وفنيّة نصّه، معتمداً تقاطبية الأمكنة، وتقنيات الزمن ومفارقاته، واصفاً حين يشعر بضرورة إبطاء السرد، وحاذفاً أو قافزاً فوق أحداث لم تكن لذكرها أهمية عبر حذف ضمنيّ وصريح... لكنّ هذا لم يحمِه من السقوط في التدخّلات غير المسوّغة ككاتب قطع سيرورة السرد مراراً ليعلن عن موقف مباشر كاشفاً ما يطمح القارئ إلى كشفه. وبهذا تشكّل هذه الرواية كغيرها، بناءً كتابيّاً وجماليّاً لمحاربة اللاجمالي في الواقع التدميري. إنّها حرب ضدّ الحرب، وطرح يعرّي أيديولوجيا الحروب ومن يحاول ترويجها على أساس أنه يقاتل من أجل الحياة.