الكتاب: سماء ثالثة. المؤلف: أحمد مَدَن. الناشر: دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2000. ليس ثمة غرابة في أن يكون حوار الشاعر مع الكتابة، او قلقه إزاءها من هموم الشعر، لا بل وأوَّلها. فهو يحسبها بمثابة الأرواح والأجساد الأولى التي يعلّق عليها أفكاره، وأجنحته وريبته، ودفائن توقه للإبداع. فالشاعر البحريني أحمد مَدَنْ ليس هو الأول ولن يكون الأخير الذي يقع في فخ مغازلة الكلمات وإغرائها، وإقامة حوار سري ومعلن معها. كل ذلك في سبيل الاهتداء الى مفاتيح أسرارها الغامضة البعيدة، البراقة من خلف ظلام كثيف. بل هو بلا ريب واحد من كثر اشتغلوا بالحرف وترصُّد الكلمات ومطارحتها ثم عادوا خائبين، لم يصبهم منها سوى السعي الجميل إثر سرابها ووهمها السديمي، إذ أنه "في البدء كانت الكلمة". ويظهر مَدَنْ مؤسلباً منحاه هذا على منبت رمزي شعري، صافٍ، معقود على خطابية رقراقة متوجسة، مرة في صيغة الغائب، ومرة أخرى في صيغة المباشر. لكنها وفي كلتا الحالتين لا تخلو من مكر وشغب ودعابة تمتهن الكلمات من مثل "الأفعال المتتابعة" لتقديم الجمالية المتوخاة أكثر من الفكرة التي هي الإشهار الكتابي الأول الذي ابتدأ به مَدَنْ قصيدتيه الأوليين "كتابة" و"مطر للوقت والورقة" كأن يقول: "في بقعة الروح شاغلتني/،... منذ زمن كنتِ مهذبة في أطراف القلب/ لم تشعلي قنديل الرأس". قصيدة "كتابة" ص 6 و7. أما وفي قصيدة "مطر للوقت والورقة" يستعذب مَدَنْ الكشف عن جرحه الإنساني عبر مفردات مستعارة من قاموس شعرية القصيدة الموزونة، والصدور عنها في أطر متعددة مثل: التفعيلة والموسيقى والقافية وغير ذلك من أشكال القصيدة الكلاسيكية، ولا سيما حين يستعير تراكيب ومفردات لغوية من مثل: "نخب العمر، وحب الشوق، وأخضر رطب، معشوشب، هجس، وهج"، واضافة الى ما تحدثه مفردات كهذه من أصداء عالية الوقع من كشف عن جوانية الشاعر المتداعية لمعظم الجروح الإنسانية، فإنه يحاول خلق عالم كتابي بديل عما هو مطروح اليوم في قصيدة النثر، لتعويض ما تفصح عنه تشكيلاته الشعرية - إن - على مستوى برانية هذه الكتابة، - أو في محاولات النفاذ الى عمقها، وما تتستر عليه من تصدعات، وخلخلات، واهتزازات صارت نمطية في نظر الكثير من النقاد الحداثيين ولا سيما الذين نظروا لقصيدة النثر، ثم وقعوا في نمطية هذه الكتابة التي لم يعد لهم الخيار في الفكاك منها. ولعل ما أشار اليه أدونيس في مقالته المنشورة في جريدة "الحياة" يوم الخميس 11 كانون الثاني/ يناير 2001 تحت عنوان: "العَرابة والغرابة" تحية لتوفيق صايغ قائلاً: "النثر طينة أولية تختزن ممكنات تتيح للشاعر أن يبتكر أشكاله الفنية بحرية ورحابة واختيار أكبر بكثير مما يتيحه الوزن/،... مما يولّد الانطباع بأنهم أي كتّاب قصيدة النثر آخذون في تنميط النثر نفسه، التنميط الذي سوّغوا به ثورتهم على الوزن - أي تنميط ما يتعذر مبدئياً تنميطه". يبرز هذا الجانب الذي أشار اليه أدونيس جلياً في شعر أحمد مَدَنْ، ويكاد ينسحب على جميع قصائد ديوان "سماء ثالثة" حتى على الجانب الشعري - اليومي ذي التفاصيل، والأشياء العامة، كما في قصيدة "فضاء" حين يقول: "أعرض خريف الصبح/ وأشكال البوح". ويذكّر في القصيدة نفسها - عبر ما يشتغل عليه من صوغ بناء الجملة واستعارة تشابيه وتقنيات - بالشعر الغنائي بالعامية، كأن يقول: "غنى الصبي أغنية المسافة/ وأنا غنيت أغنية الصمت/،... أهديتك صبحاً/ أهديتني وجعاً". تتكئ شعرية مَدَنْ على غنائية سرد الذاتي - الحميم - الخاص، والذاتي العام الذي قد نجد له آثاراً عند الآخر، في رؤيا تكشف عن علاقات مشبوبة بالوجد والالتصاق تنزاح من أمامها الكوابح، والموانع، والسواتر. وتبقى هذه الرؤية بعيدة من البصرية المجانية متاخمة للقائم والمعطى - من دون - الانسياق خلفه والولع به. إلا أن بصرية مَدَنْ ليست بصرية عينية صورية، بلهاء ما ان ترى لتسجل كما الكاميرا العمياء التي تنقل الجمال، لكنها لا تحتفظ به، فالأمر عند مَدَنْ مختلف تماماً، إذ أنه يرصد ويتأمل، ويوقّع ويحايث ما يريد تحويله من مادة ملقاة على الأرصفة، أو في أي مكان آخر من أماكن الحياة اليومية، ليوظف ذلك في قصيدته بعد أن يتأكد من أن ما رآه جدير بأن يضاف الى لبنة بناء القصيدة وطينتها. فمثلاً، في قصيدة "غرفة أمي" يجلس الشاعر في ظلال الوحشة جائلاً الطرف "وللمشهد دبيب/ وللرؤى رعشة/ ولي كلماتي/ ولروح أمي/ ثواب الحضور". وعلى رغم ان الشاعر تُغرقه التفاصيل إلا أن صوته لم يبلغ مداه الأعلى في تصعيد نبرته التفصيلية، أو أن مَدَنْ لم يشأ لصوته من أمداء. وهنا تكمن احدى عثرات النثر، إذ أن في هذا ما ينطوي على جماليات بالغة الحساسية تتشكل من التفاصيل وبها، ومن مشاكسة الكلمات المتخففة من عبء البلاغة وفخامة الألفاظ. ونرى ان غنائية شعر مَدَنْ الطافحة بالأغنيات السائلة، الهادلة ما ان تندلق حتى تصير "الدقائق وهج الرأس/ تفرّخ حزناً/ وتقتسم المدى" ملتاعة، متأوهة كأنها وُئِدت قبل "ابتداء الروح/ وزخة الزمن". في ديوان "سماء ثالثة" نعثر على مفاتيح للعالم ودروبه، وممراته، وشوارعه، وغرفه، وحرائقه الكونية. إلا ان التعرض لسبل البحث والوصول مع هذه الأشياء واليها يبدو محالاً. إذ لا يُرى الشاعر مبهوراً بها، أو مدفوعاً للبحث عن أسرارها وتتبعها. كأن كل ما يراه مَدَنْ يتم التعبير عنه ومشاهدته بصمت وحياد، أو أن ثمة عجزاً حقيقياً يواجهه الشاعر أمام جبروت الواقع وخشونته، مثلما يعبر عن ذلك صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، بيد ان مدن لا يتمتع بالتردد والجنون، والرغبة في طمس الذات مثل "هاملت" عند "شكسبير". فالكتابة هي قارب الغرق الوحيد، الغرق الجميل في يم البحث عن الوهم الخلاّب في كون مخادع يحكمه السراب واللاجدوى، ويقول مَدَنْ في قصيدة "مطر للوقت والورقة": "بي من الأشياء ما لا تفقه الكلمات/ بي من الأعصاب ما لا تقتضيه الأسطر/ بي من الندى ما لا تشخصه الأبصار/ بي من الحديث ما لا يقتضيه الوقت". ولعل الشاعر مَدَنْ يحاول الاقتراب أو التماهي مع بعض أصحاب التجارب الكونية - الصوفية الكبار. ويخلط الكلام بالبكاء، بالاحتمال، بالولوج العظيم، بالفناء. ويتجلى ذلك في قصيدة "في الطريق"، إذ ان الطريق في تأويلات الصوفيين وتجلياتهم هي "الدرب الكونية" كما عبر ابن عربي، والحلاّج، وسواهما. فعند هؤلاء لا تنتهي الطريق، كما انها في الأصل لا تبدأ، وهي التيه في الكون اللانهائي، وهي الضلال والتغرب الأزلي في طريق اللامعنى. وهي أيضاً الرؤية المتسعة، التي تضيق عنها العبارة. ويقول مَدَنْ في القصيدة نفسها: "في الطريق/ رغبة الكلام/ كرغبة البكاء/ كلاهما احتفال للصدر/ ،.../ وبات الطريق مأوىً/، ... وبت احتمالاً للاحتمال/،... وما أضيق اللحظة/ وما أوسع القافلة/،... يترتب الفناء/،... يركب العبث/ ويطلق التسمية".