لمدينة طرابلس تاريخ عريق، فتنوع الحضارات التي مرّت عليها، ترك آثاراً وقلاعاً مهمة. وسوق النحاسين في طرابلس من الآثار المهمة التي تضفي على المدينة جمالاً وعراقة. وفي العام 1961، طلبت الدولة من بعض محال النحاس في السوق الانتقال إلى مكان آخر بسبب أعمال الصيانة التي ستقوم بها البلدية، فما كان منهم إلا أن اختاروا منطقة القلمون التي تطل على الطريق العام ولا تبعد من طرابلس سوى مسافة قليلة. ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسم القلمون بصناعة النحاسيات وبدأت رحلة طويلة من الفن والذوق والأصالة. زائر المعارض النحاسية في منطقة القلمون يجدها متحفاً حقيقياً أودعت فيه الحضارات طابعها وفنها، لتصبح القلمون بذلك شاهداً على تاريخ فن هذه الحضارات ونتاجها. بدأت القصة عندما انتقلت عائلات ثلاث إلى القلمون هي: عزو وحسون وطحلة، نقلوا معها صناعة النحاس فحسّنتها وطورتها وجعلتها تقترن بالقلمون كعنصر أساسي للحياة الصناعية والاقتصادية والسياحية من الصعب التخلّي عنها. وارتبطت هذه الصناعة بحياة العائلات الثلاث، فاتخذتها مهنة لها لا تتخلّى عنها تعلّمها لأبنائها مفتخرة بكونها باتت تقليداً وتراثاً في حياة العائلة. فها هو الحاج عبد الحميد حسون يعلم المهنة لأبنائه السبعة. وما إن امتهنوها هم حتى فتح كل منهم محله الخاص وبدأ بتعليمها لأبنائه. سر المهنة يستورد تجار القلمون ألواح النحاس من إيطاليا. ويعملون أولاً على "دق" النحاس أي إيصال الألواح ببعضها بعضاً وتصنيع الشكل المطلوب. بعد ذلك تبدأ عملية النقش والزخرفة وتزيين القطعة النحاسية. ما يميّز الحرف النحاسية أنها تصنع يدوياً وبالتالي ترتفع قيمة القطعة مع ازدياد كمية الوقت المستغرق لصنعها وتزيينها. والمنافسة بين المحال المتقاربة لا تقوم على مبدأ السعر بل مبدأ النوعية وفترة الزخرفة. فسعر المنفضة الصغيرة مثلاً خمسة آلاف ليرة وسعر "كانون" ضخم استغرق العمل فيه 9 أشهر قد يبلغ 18 مليون ليرة. قناديل، مصابيح، لوحات فنية، ثريات ضخمة، تحف شرقية، مزهريات، علب حلوى، تماثيل، سيوف وأسلحة، أوان منزلية، تذكارات... وغيرها من الأدوات المتنوعة تصطف الى جانب بعضها بعضاً. بعضها ذو طراز قديم يعود إلى الفن الإسلامي، وبعضها الى ما قبله وبعضها حديث نستطيع استعماله في الحياة اليومية أو نطلبه من الحرفي فيقوم بتصنيع الشكل الذي نريد. ولتحف النحاس هذه قصص وحكايات مع سيدات المجتمع اللبناني وخصوصاً المخملي. فبعض السيدات يهوى تجميع القطع والتحف النحاسية لعرضها في منزلهن ويتفاخرن بها أمام صديقاتهن. أبرز ما تهتم به النساء: التماثيل، اللوحات المنحوتة، الحيوانات المجسّمة، الشمعدانات الضخمة، الصحون والقدور الكبيرة... واقع وتراجع ويعاني سوق النحاسين اليوم، كغيره من الحرف اللبنانية الأخرى، تراجعاً مستمراً. فالحرب اللبنانية أثرت كثيراً في تسويق هذه النحاسيات في الخارج بعد أن كان يصدر شهرياً - بحسب قول التجار - كميات هائلة قبل الحرب إلى ألمانيا وأميركا والبلدان العربية. ولتراجع السياحة أيضاً خلال أعوام الحرب وما بعدها دور مهم في تراجع سوق النحاس، كما ان المنافسة الخارجية في الأسواق اللبنانية باتت تلعب دوراً أساسياً. فالبضائع النحاسية المصرية والسورية والتركية القليلة الكلفة باتت تزاحم البضائع اللبنانية. إضافة إلى أن الضرائب تزداد واليد العاملة تخف وأجرتها ترتفع. ويبقى المكان الأساسي لبيع هذه الحرف هو بيت المحترف اللبناني فقط. زيارة سوق النحاسين في منطقة القلمون رحلة حقيقية نعود من خلالها إلى زمن الآشوريين والفتح الإسلامي والعهد المملوكي في شكل خاص. نتذوق من هذا الفن الرائع ونتعرف الى ما ميّز هذه الحضارات وجعلها خالدة على مر العصور.