قبل قرون تحدث عبدالرحمن بن خلدون عن العرض والطلب، في مقدمته فقال عن رواج الصنائع إنها "إنما تُستجاد وتكثر إذا كثر طالبها"، وهذه حقيقة يدركها بالفطرة والمعايشة حرفيون يدويون زالت حرفهم، وحرفيون يدويون حرفُهم آيلة إلى زوال. وأما البكاء على الحرف الزائلة فكالبكاء على الأطلال، إنه لا يحيي، ولا يستطيع اعتراض سنن في التطور تُحِلُّ الجديد محل القديم، فلا تراعي المشاعر، وربما بدت، في بعض الحالات، قاسية لا ترحم، أو بدت، في حالات أُخَر، محايدة في موقفها من المصالح والمشاعر. والجديد صناعات حديثة تقفز في تطورها قفزات نوعية بدأت مع انقلاب واسع في أنماط الإنتاج في الغرب، في القرن الثامن عشر، وتأخر في بلداننا العربية ولكنه حدث بفعل سنن التطور نفسها، وبفعل غزو أنماط الإنتاج الغربية الجديدة. وأما القديم فحرف يدوية كانت جزءاً من أنماط إنتاج قديمة، فلما زالت عواملها كان محتماً ان تتقهقر هي وأن تسير في طريق الزوال، لولا ان الانقلاب لا يلغي القديم بضربة واحدة، بل يبقيه، إلى حين، إلى جانب الجديد. حقيقة أخرى هي أن الصناعة الحديثة لا تكتفي بإنتاج سلع حديثة، بل هي تروِّج أيضاً عادات استهلاكية جديدة لا تنفك تتطور، ولا تنفك تجد في الإعلان ظهيراً قوياً لها، فماذا يفعل إبريق الفخَّار حين يتصور أن في إمكانه منافسة هذا الحشد الكبير من أدوات حفظ الماء وتبريده؟ إنه، مع حرفة "الفاخوري" وما تنتجه من أدوات فخارية أخرى، يدرك، على نحو غامض، أن عليه، وعليها، أن يغير وظيفته، وأن تغير وظيفتها، إذا شاءت لعمرها أن يمتد إلى حين، أو إذا شاءت أن تبقى إلى الأبد. وربما أدركت هذه الحرفة، على نحو غامض أيضاً، أن بقاءها رهن لا بسوق استهلاك الضروريات، بل تحديداً بسوق استهلاك الكماليات، ولذلك فالإبريق والجرة وسائر الأواني الفخارية جزء من الديكور المنزلي، ولم تعد كالأمس الغابر وسائل لحفظ الماء والمؤونة من سمن وعسل وغيرهما. وعلى حرفة الفخار يمكنك أن تقيس حرفاً أخرى، كتعدين النحاس وتبييضه، وكصناعة المكانس، وصناعة الطربوش والشروال والغنباز، وما شئت من صناعات حرفية كانت هي عماد اقتصاد القرون الخوالي، وصارت مجرد تراث قليلون هم الذين يقيمون له وزناً، وكثيرون أولئك الذين غيرت طباعهم ثقافة العولمة فوقفوا منها موقفاً محايداً في أحسن الأحوال، وهؤلاء هم الشرط في أن "تستجاد الصنائع وتكثر" أو في ألا تستجاد وتكثر، وشرط في أن يتعلمها جيل من جيل على رأي ابن خلدون، "والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً، لأنه كسبُه ومنه معاشه ... وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاق كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها، ولا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك وفقدت للإهمال". كأننا بابن خلدون يتحدث عن الحرف اليدوية في أيامنا، وندر من يسعى لتعلمها، حتى بين أبناء الحرفيين أنفسهم، وهؤلاء، كسائر خلق الله، يبحثون عن أبواب رزق في الوظائف وفي قطاعات غير حرفية. وما كان يتسم بالسرية وتتشدد الأسر الحرفية فيه بات مبذولاً ولكن في غياب طالبيه، ف"سر المهنة" غدا ذكرى من ذكريات الماضي، وكان الحفاظ عليه يحملهم على عدم تزويج بناتهم من غير الأقارب حتى لا ينتقل إلى الآخرين. وهذا عيسى اسكندر المعلوف يكتب في العام 1914 أن "من غريب ما في طباع أرباب الصنائع في لبنان تكتمهم بها واحتكارهم لها، حتى أنهم يضنون بها على أقرب الناس منهم، فقد يحفظونها في أولادهم ولا ينقلونها إلى إخوتهم، وقد تتزوج المرأة من أهل صناعة مشهورة رجلاً يجهلها فيتهددها بالهجر، ولا سيما عند النصارى، فتفضل هجره على إفشاء سرِّ صناعة أهلها، ولذلك ماتت بعض الصناعات أو كادت، فضلاً عما يتهددها من الإهمال". ونحن نلاحظ أن المعلوف لا يصيب في تعليل "موت بعض الصناعات"، فهو يرده إلى كتمان أسرارها، فيما هذا الكتمان كان من شروط رواجها واستجادتها، وإنما يُعلل بدء موتها في العقد الثاني من القرن العشرين بالتحولات الكبيرة في أنماط الإنتاج. ولا ننس أن كلام المعلوف كان عشية الحرب العالمية الأولى، وهي حرب قامت بسبب هذه التحولات. وها نحن اليوم لا يعزُّ علينا سر مهنة، فالحرفيون في لبنان مثلاً لا يتحفظون أمام عدسات الكاميرات، وفي ما يجري معهم من أحاديث صحافية، وكاتب هذه السطور أجرى ما يزيد على مئة مقابلة فما كتمه حرفيٌّ أسرار حرفته، بل أفاض الجميع في الحديث عن أدوات الحرفة وتقنياتها، وسمحوا للعدسات بأن تتلبث طويلاً عند تفاصيل "الشغل"، فلا تخفى عليها خافية. وهذا حرفي يصنع أواني الفخار، هو عاطف الدبيسي من دير كوشة يؤكد أن "لا أحد قدم لنا دعماً"، وأما بقاء الحرفة فرهن "بأن يتعلمها الجيل الجديد". غير أن حرفياً آخر يصنع الأواني نفسها، هو إبراهيم الفاخوري من الناعمة يؤكد "أن الأولاد يتجهون اتجاهات أخرى. يلحقون العلم. ولم يتعلم الصنعة غير واحد من أبنائي". مع ذلك فالبقية من حرفيي لبنان تعلمت الحرفة عن الآباء والأجداد، وكتب عليها أن تعاصر مرحلة انهدام الحواجز بين حضارات الأمم، وصيرورة هذه الحضارات حضارة واحدة توحد الأذواق وعادات الاستهلاك وحتى التقاليد، الأمر الذي يهدم بالضرورة حرفاً، أو يتقهقر بها إلى حدود لا تتعداها. ولنضرب على ذلك بالأزياء مثالاً. وها كم "غنبازاً" و"شروالاً عربياً": الأول ذهب بذهاب أجيال، وتخلت عنه أجيال جديدة فما بقي في لبنان غير خياط غنباز واحد أو خياطين بعد وفاة الثالث وكان الأكثر شهرة، وهو الحاج المرحوم أمين الخطيب الذي قال لنا: "بقي من خياطي الغنباز في بيروت ثلاثة: أنا وخياط شاب وثالث شح بصره فانقطع عن العمل" "الحياة"، 16/7/1991. وأما الشروال فورث خياطته عن الحاج أمين ابنه محمد. وفي الجبل عدد قليل جداً من خياطي هذا الزي الذي لم يعد يرتديه غير مشايخ الدروز وقلة من كبار السن في بعض مناطق لبنان الأخرى. نخلص إلى واقعة تغيير وظيفة الحرفة، شرطاً في بقائها ولو في أُسَر حرفية قليلة، وقد تقدم أن الحرفة مع هذا التغيير تستجيب للحاجات الكمالية علاوة على أنها صارت "تراثاً"، بغض النظر عن مفهوم التراث هذا، وعلاوة على احتياج الفنون إليها، كالسينما والتلفزيون والمسرح، ومن الشواهد على ما تقدم حرف يغني الحديث عن واقعها اليوم عن حديث يجمل الحرف جميعاً. أزياء وتعدين وسلال فالأزياء التقليدية القديمة، كالطربوش والشروال الإبراهيمي والغنباز، لا تزال مطلوبة من الممثلين خصوصاً. فالرواية المعروضة تستدعي، في ما تستدعي، أزياءها، ولذلك بقي من الحرفيين من يلبي هذه الحاجة، فالحاج أمين الخطيب وابنه من بعده خاط الشروال والغنباز لفرق الدبكة وممثلي التلفزيون والسينما. وأما الطربوش، الذي بقي على رؤوس رجال الدين وبعض كبار السن، فأمره لا يختلف، إذ هو عمرة رؤوس الممثلين عند الضرورة، ولا يعدم الحرفي الوحيد الباقي في لبنان على حرفة كيِّ الطربوش وتنظيفه زبائن من غير الممثلين، فها هو نمر خليل شافي من شحيم يذكر أن بين زبائنه 20 عاملاً في مطعم كبير في بيروت وحدوا زيهم فاشتمل على الطربوش. وممن اعتمدوا الطربوش في أعمالهم متجولون يبيعون القهوة والتمر الهندي والسوس والجلاب، فالطربوش جزء من مشهد فولكلوري يعتقدون أنه جاذب للزبائن، وأن بينه وبين هذه المشروبات التقليدية أسباباً. وأما تعدين النحاس فلم يعد يستجيب للحاجات الضرورية أيضاً، ولذلك قلَّ حرفيوه في لبنان وكادوا ينحصرون في طرابلس والقلمون، ومن هؤلاء الحاج صلاح عبدالمجيد حسون الذين أكد لنا "أن المصلحة لا تزال مجزية" "الحياة"، 24/3/1992، ولذلك فهو يفضل أن يتعلمها أولاده إلى جانب العلم في المدارس. ويتحدث حسون عن أزمة عانتها الصنعة في الحرب وما تلاها، والسبب أن السياح قلَّ عددهم، وهذا يعني أن أكثر زبائنه منهم، علاوة على الفنادق التي تطلب أواني نحاسية ذات سمات تراثية قديمة، وعلاوة على أن الأثرياء في لبنان وغيره لا يزالون يطلبون أواني النحاس المزخرفة المخرمة لوضعها في صالوناتهم وشرفاتهم وحدائقهم. واستجابة لهذه الوظيفة الجديدة، اقترب تعدين النحاس كثيراً من الفن، بما يحرص عليه الحرفي من رسوم وآيات وأبيات شعر يجعلها نافرة في ما يصنع من أوان نحاسية، ويجعلها أقرب إلى المنحوتات واللوحات الفنية. إلا أن حرفة أخرى ارتبطت بتعدين النحاس، تواجه موتاً محتماً، هي حرفة تبييض النحاس، وتخصص بها أهالي جويا في جنوبلبنان، ثم هجرها أكثرهم إلى بلاد الاغتراب، وهجرها الباقون لعدم الحاجة إليها إلا في حدود ضيقة، باستثناء عدد قليل جداً لا يزال يخدم الراغبين في تجديد شباب أوان نحاسية بعضها يستخدم في إعداد الطعام وأكثرها يُفضل عرضه في الصالونات مبيضاً براقاً. الأمر نفسه ينطبق على حرفة طالما استجابت لحاجات الناس الضرورية، هي حرفة صنع السلال من القصب. وإذا استثنينا بعض صيادي السمك الذين يستعملون السلال في حمل عدتهم ورصيدهم، نجد أن اللبنانين انصرفوا عن السلال إلى الأدوات الحديثة المعدنية والبلاستيكية والزجاجية في جمع غلالهم وحفظ مؤونتهم ونقل محاصيلهم. مع ذلك فصناع السلال القلائل في زغرتا وسرعل في شمال لبنان، لا يزالون ينتجون هذه السلعة، فتعرضها محال متخصصة على الطرق وفي مراكز الاصطياف، يشتريها السياح، ويشتريها اللبنانيون الراغبون في إضافة لمسات تراثية على صالوناتهم. وكالسلة المصنوعة من قصب، غيَّرَ طبق القش وظيفته، وما عاد يكتفي بالقش مادة أولية، بل صار يصنع أيضاً من قش بلاستيكي ملون، لزوم العرض في الصالونات والتعليق على الجدران كما تعلق اللوحات وسائر الجدرانيات، ولم يعد الطبق وسيلة لحفظ الخبز وتقديم الطعام والقهوة والنقول، وما عادت "المثنية" إناءً لجمع الزيتون في المواسم، وما عادت "القفة" وسيلة لحفظ جهاز العروس وأدوات زينتها. فلقد صار كل ذلك جزءاً من المشهد التراثي في الصالون الذي يحرصون على تسميته ب"الشرقي". وثمة حرفة تكاد تكون الأكثر "نخبوية" بين سائر الحرف، في تحولها من وظيفة إلى وظيفة، وفي استجابتها الى الحاجات الكمالية. إنها حرفة تصنيع "الجزينيات"، واختص بها بعض أهل جزين، وجاراهم فيها بعض الأرمن في بيروت. حرفة طالما قدمت للمستهلكين السكاكين والعويسات والسيوف والملاعق والشُوَك، للاستخدام اليومي العادي، ثم نحَّتها آلات جارحة حديثة غزت المطابخ ومحال الجزارين، وزاحمتها أدوات أخرى ك"المولينكس" وغيره. غير أنها كانت، هذه "الجزينيات"، حرفة ذكية تحسن التكتيك، إذ طورت تقنياتها، وجعلت موادها الخام معادن نفيسة، وطعمت مصنوعاتها بالعاج والفضة والذهب، فجاءت سيوفاً مطبوعة، وأطقمَ سكاكينَ وملاعقٍ وشوكٍ يعجز عن اقتنائها غير الموسرين في الشرق والغرب، وتجد لها زبائن في قصور الملوك والرؤساء كما قال لنا حبيب الحداد "السفير"، 24/8/1988. ومع غزو الآلات الجارحة الحديثة، وهي التي حملت "الجزينيات" على تغيير وظيفتها، زالت حرفة ارتبطت بالسكاكين أو كادت تزول، هي حرفة المجلخ ودولابه الجوال في الأحياء، وفي القرى والبلدات. ولم يبق من المجلخين غير عبدالمجيد هدلا الذي يتجول قليلاً اليوم، ولا يطيل الدوران فهو يذهب مباشرة إلى زبائنه القلائل وهم الجزارون الذين مع ذلك يجدون وسائل شخذ وتجليخ حديثة. إلاَّ أن عبدالمجيد هدلا يتسلى، ويدرك أنه مع دولابه تراث، لذلك فهو يجد متعة في الإدلاء بأحاديث صحافية، والتعرض لعدسات التصوير. ومن الحرف ما لا يستطيع تغيير وظيفته، ولذلك فهو باق إلى حين، ما بقيت الحاجة إليه، ومن هذه الحرف: حرفة تصنيع سكة الفلاحة والنير، وتقهقرت مع شيوع الجرارات الزراعية، ومع تحول المزارعين إلى الوظائف. والباقون القلائل على صنعة المحراث والنير الخشبيين يدركون أن نجم حرفتهم آفل، كما أفل نجم تصنيع المورج أمام درّاسات القمح والشعير الآلية. كذلك يعجز البيطار عن تغيير وظيفة حرفته، والبيطريون القلائل الباقون يخدمون اليوم عدداً قليلاً من المكارين في الريف اللبناني، وأفضل حالاً منهم بيطريون يخدمون اسطبلات الخيول في بيروت والبقاع وعكار. ويطول حديث الحرف ويتشعب، إلا أنه لا يخرج عن حقيقتين: الأولى أن الشروط التي انتجت أكثر الحرف اليدوية زالت مع التحول من نظام إلى نظام، ومن نمط إنتاج إلى نمط آخر، فكان حتماً أن تزول معها الحرف التي توافقها. والثانية أنَّ ما بقي من الحرف اضطر إلى المناورة والتكتيك فغير وظيفته. ولولا ذلك لكانت حرفة صنع الفخار نسياً منسياً. فالفخاريات التي تطالعك في المحال وعلى الأرصفة تجد طريقها إلى الصالونات والحدائق، لتزينها، فما عادت وسيلة حفظ للماء والمؤونة من عسل وسمن وقورما، كما تقدم القول. وتلك سنن لا تبقي على قديم حين يستجيب مماثلُهُ الجديد للحاجات... فسبحان الذي يغير ولا يتغير.