كما هو معروف أعلن العراق موافقته على القرار 1441، القاضي بعودة المفتشين الدوليين، وقبوله بكل ما تضمنه القرار المذكور من بنود وبكل ما حدده من اجراءات صارمة قاسية، وان ارفق مواقفته تلك برسالة، سارع وزير خارجية بغداد، ناجي صبري، درءا لكل سوء فهم لا تحمد عقباه، الى الايضاح بأنها لا تتضمن شروطا او تحفظات، بقدر ما تهدف الى التذكير بالمظالم التي سلطتها الاممالمتحدة، الخاضعة الى الارادة الاميركية، التي أُنزلت بحق العراق... واما وقد تم ذلك اذن، فإن حجة اساسية كان يرفعها المعترضون على اطاحة حاكم بغداد ونظامه، على اعتبار انهما آخر حماة السيادة والكرامة العراقيتين، قد سقطت. فمع القبول بالقرار، يكون آخر مظاهر تلك السيادة الوطنية العتيدة قد تلاشى، وان بقرار دولي، ولقي نفس المصير الذي سبق له ان كان من نصيب صلاحيات سيادية اخرى منذ ان وضعت حرب الخليج الثانية اوزارها، كتلك المتمثلة في حرمان الحكومة المركزية العراقية من مزاولة سلطتها على كامل ترابها الوطني، او من التصرف في مواردها الاقتصادية وما الى ذلك الكثير. هكذا إذن، ومع هذه الخطوة الاخيرة التي اقدم عليها صدام حسين، يكون نظامه قد سلم بما لا يمكن لأي "كرزاي" عراقي محتمل، ان يسلم بأكثر منه... والسؤال لم يعد حول ما اذا كان الحكم العراقي سيخضع للإرادة الاميركية، حتى وان تغلفت بغلاف اممي، بل حول ما اذا كانت هذه الاخيرة سترضى ببقائه واستمراره، حتى بعد انصياعه ذاك. فالأمر الآن سيان، سواء نشبت الحرب واحتل العراق ام لم تنشب، الا في ما يتعلق، بطبيعة الحال، بدمار الحرب وكوارثها على البلاد والعباد، وذلك، على اية حال، ما لا يعتقد بأنه من الاعتبارات التي كانت في حسبان الدكتاتور العراقي وهو يقرر استجابة القرار الاممي المذكور. وهكذا، يكون العراق قد فقد استقلالاً او انه استكمل فقدانه، على يدي صدام حسين، لم يحسن التصرف فيه، فلا عرف كيف يصونه، ولا افلح في تقدير ما يترتب على التمتع به من حقوق ومن واجبات ومن مسؤوليات، حيال محيطه الاقليمي وحيال العالم. وبصدور القرار المذكور، وقبول العراق به، يكون قد اتضح امر اساسي، لمن ساورته شكوك واوهام او لا يزال بفضل التعامي: ان السجال الذي احتدم في مجلس الامن طيلة الاسابيع الماضية، والذي قد يكون نظام بغداد ومن يناصرونه قد علقوا عليه آمالا عريضة، لم يكن خلافا بين معسكر احتلال العراقالولاياتالمتحدة وبريطانيا وآخر لا يريد التفريط في استقلاله فرنسا وروسيا والصين، بل ان الخلاف كان حول شكل الوصاية التي يجب ان تفرض، في كل الحالات، على عراق صدام، وما اذا كان يتوجب ان تكون احادية الجانب، تتولاها الدولة الاقوى، شأن ما كان عليه الحال خلال الحقبة الاستعمارية، لدى فرض فرنسا، مثلاً لا حصرا، "نظام الحماية" على كل من تونس والمغرب بين اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، او ما اذا كان يتعين ان يجري فرض تلك الوصاية بتفويض دولي، من خلال هيئة الامم، او القوى النافذة فيها، كما كانت الحال بالنسبة الى "الانتداب" الذي قررته عصبة الامم، في اعقاب الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية، على آخر ولايات هذه الاخيرة في المشرق الآسيوي، واوكلت امر تطبيقه الى الدول النافذة في زمانها. الفارق بين الصيغتين قد يكون هاما من الناحية القانونية، او لأن الركون الى الصيغة الانتدابية، وان كان ارساؤها يجري، في نهاية المطاف، في صالح الطرف الاقوى، من شأنه ان يمكن تلك القوى الوسطى من الاضطلاع بدور في الشؤون الدولية او من توهّم ذلك، لكن الفارق ذاك منعدم، او يكاد، في ما يتعلق بمن فرضت عليه الوصاية، مهما كانت صيغتها، وما ينجم عنها من حرمان من صلاحيات الاستقلال والسيادة وما يماثلهما، مؤقت او مبرم. هذا "النيو انتداب" قد لا يكون بالامر المستجد تماماً، منذ نهاية الحرب الباردة، بل سبق ان ارهصت به منطقة البلقان، وان على نحو محدود وموضعي. اذ ان القوى الكبرى الغربية كانت قد رأت بأن نظام سلوبودان ميلوشيفتيش ليس اهلا، بالنظر الى ما ارتكبه من جرائم التطهير العرقي، لمزاولة السايدة الصربية على اقليم كوسوفو، علما بأن الاقليم المذكور جزء من تراب صربيا بمقتضي القانون الدولي. هكذا بعد ان حررت ذلك البلد، نصبت عليه سلطة تديره تابعة للامم المتحدة. لكن ما كان، بالنسبة الى صربيا، اجراء جزئياً، حيزا وزمانا، هو بالنسبة الى العراق مقاربة أشمل. فإذا قُيض لنظام "النيو انتداب" هذا ان يرى النور، ربما بات للمنطقة العربية "شرف" الاسبقية في اجتراح ذلك الاستثناء قياساً الى الحياة الدولية في طورها الراهن، والذي قد يتحول الى سابقة. ولعل ذلك الاحتمال هو ما يفسر اصرار القوى الوسطى على الاسهام في اتخاذ القرار، علها تستغل تلك السابقة، ان دعت الحاجة مستقبلاً، كامبراطوريات صغرى واقليمية، الى جانب الامبراطورية الكونية الاميركية. يمكننا، بطبيعة الحال وذلك ما لن نقصّر في فعله ما دامت حناجرنا هي الملكة الوحيدة التي نبرع في استخدامها، ان ننبري في ندب حظ الامة وفي التنديد بقوى الاستكبار التي لا تقيم لارادة الشعوب ولاستقلالها وزنا، والى فضح كل المؤامرات التي تحاك ضدنا في الخفاء وفي العلن، وقد نكون في كل ذلك محقين. الا ان ذلك لن يغير مثقال ذرة من امر اساسي: ان السابقة العراقية تنذر بتحول اساسي في النصاب الدولي كما عهدناه منذ نهاية الحرب العالمية وما تخللها من استقلال لما عرف في ابانه ببلدان العالم الثالث، مفاده ان استقلال الدول والكيانات، بذلك المعنى السيادي الاساسي والاولي، وبقطع النظر عن مجالات الاقتصاد وما اليها، لم يعد بالامر المعطى الواقع فوق كل مساءلة واعادة نظر، بل انه بات قابلا لأن يُلغى، ليس نتيجة عدوان او عمل احتلالي يقترفه بلد من البلدان يستضعف سواه، فذلك مما لم يختف من على وجه الارض يوما، ولكن بقرار تتخذه وتصادق عليه اعلى مراتب الشرعية الدولية في زماننا هذا، او ما يقوم مقامها ويفعل فعلها. لقد اضحى الاستقلال امراً يتوجب على الدول، خصوصاً تلك الضعيفة وغير الناجزة الاكتمال ككيانات قائمة الذات كما في بعض منطقتنا، ان تبرهن على احقيتها به، في سلوكها في الداخل وفي الخارج. اذ يبدو بأن النصاب الدولي لم يعد قائما على مبدأ المساواة بين السيادات، من الناحية الشكلية وبقطع النظر عن عناصر القوة، بل يبدو انه بصدد النزوع نحوالتمييز بين استقلالات تعتبر ناجزة، واخرى قيد الاختبار. قد يكون ذلك عين الجور لكنه، وفي انتظار ان يصار الى تصويب الامور والى ارساء معايير دولية جديدة، واقع الحال.