ضاقت بسعيد السبل. ركوب المخاطر وولوج البحر اجدى للخلاص من حال "الضياع"، والقارب الصغير نجح مرات عدة في الوصول الى شواطئ قبرص و"لا امواج عاتية ولا هم يحزنون". المهم "انني جربت حظي ولم تفلح المحاولة... والإنسان يموت مرة واحدة". يبدو ان حمى اكتشاف الوجه الآخر للمتوسط بما يمثل من ترف وحرية و"عيش كريم" بدأ يغري السوريين في السير على خطى المغرب العربي انطلاقاً من الساحل السوري بعد ان كان الطريق السابق يمر عبر لبنان. اخبار وكالات الأنباء عن الجثث التي تتقاذفها الأمواج في عرض البحر لم تشكل عائقاً امام اصرارهم على المضي في رحلة المغامرة بحياتهم، كأنهم لا يرغبون في استخلاص العبر والمواعظ من تجارب الأشقاء. يؤثر السوريون الهجرة الى جزيرة قبرص التي تبعد حوالى 90 ميلاً من الساحل السوري، تليها اليونان عبر الأراضي التركية وبكلفة اقل. إلا ان ارتفاع مستوى الدخل في الأولى ووجود فرص عمل شاغرة في قطاعي الزراعة والبناء اضافة الى ما يثيره احتمال انضمامها الى الاتحاد الأوروبي عام 2004 في اذهان المهاجرين، رشحها لتكون الوجهة المفضلة في قائمة الدول التي يمكن الوصول إليها بطرق غير مشروعة. هذا على رغم ان السلطات القبرصية شددت اجراءات المراقبة لمنع تسلل المهاجرين إليها وشنت حملات اعتقال واسعة بهدف تقليص اعداد المهاجرين غير الشرعيين، وفي شكل خاص اولئك القادمين من الشرق الأوسط، متضامنة مع الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب بعد احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر وضمن فاتورة التقارب بين البلدين. وقاد ذلك الى وجود فرص عمل جديدة في حاجة الى ايدي عاملة رخيصة لشغلها، وبالتالي، مزيد من محاولات التسلل الى اراضيها. يصعب العثور على السماسرة الذين يقودون رحلة المخاطرة، والجادون فقط في امكانهم الوصول الى مبتغاهم. "اللبنانيون رواد في هذا المجال وأكثر دراية وخبرة مقارنة بالسوريين الحديثي العهد، لكنهم يصرون على قبض الأجر مسبقاً في بداية الرحلة، وهذا ما دفع السوريين الى استخدام قوارب الصيد الصغيرة التي تفتقد الى اجهزة المراقبة والاتصال والإنقاذ بهدف التقليل من التكاليف التي يودعونها لدى وسيط امين حتى تتكلل المحاولة بالنجاح" كما يقول أحمد الذي يقص مجريات الرحلة في مرارة وأسى. ويضيف: "انطلق القارب بنا بعد منتصف الليل من شاطئ اللاذقية في غفلة من اعين خفر السواحل، افقدنا دوار البحر ومهابته السكينة والأمان خلال يوم كامل قضيناه ونحن نتجنب السفن التي نصادفها في طريقنا، وكنا دفعنا مبلغ 65 ألف ليرة سورية الدولار نحو خمسين ليرة الى وسيط بين قائد الرحلة الذي اختبر قبرص سابقاً وبين صاحب القارب القليل الخبرة والذي لم يتعرف الى مدينة ليماسول على الشاطئ القبرصي لدى وصولنا اليها ليلاً وهي سهلة التسلل مقارنة بلارنكا، لذلك اضطررنا الى الخروج من المياه الاقليمية القبرصية واعادة الكرة في الليلة التالية لكن خفر السواحل القبرصي كان لنا بالمرصاد. احتجزوا القارب وحققوا معنا لمدة ساعتين ثم رافقونا ست ساعات في رحلة العودة تكفيراً عن الاهانة التي لحقت بأحدنا نتيجة ضربه على رأسه، من دون ان يسلمونا الى السلطات القبرصية المختصة التي كان من الممكن تودعنا السجن لمدة اسبوع ثم تسلمنا بدورها الى دائرة الهجرة والجوازات السورية كما جرت العادة، وبذلك تجنبنا التوقيف والسجن في سورية ايضاً حيث وصلنا اليها بعد مغيب الشمس بأمان...!". لافتاً الانتباه الى ان رحلتهم السابقة تأجلت لمدة شهر لأن خفر السواحل القبرصي ألقى القبض على 12 لبنانياً حاولوا دخول أراضيه بطريقة غير مشروعة داخل باخرة نقل "ما أثار انتباه القبارصة الى تجدد هذه الظاهرة، فانتظرنا لحين هدوء العاصفة". يشترك المهاجرون غير الشرعيين الى قبرص بحصولهم على قسيمة تخولهم دخول الأراضي اللبنانية وبذلك يختفون عن الانظار على انهم مقيمون في لبنان طوال مدة وجودهم في قبرص أو في دولة أوروبية في حال أتيحت لهم فرصة اللجوء اليها عبر محطة قبرص. ولعل احتمال تعرضهم لمساءلة من السلطات القبرصية ومن ثم السورية اذا فشلت محاولة التسلل قادهم الى اتخاذ هذا الاجراء الوقائي الا ان تكرار المحاولات الفاشلة أظهر اطراف اللعبة التي لم تعد تنطلي على المعنيين في كلا البلدين. ولم تثن معاناة الطريق والاخطار التي قد يتعرّض لها المهاجرون من عزمهم. فها هو عبدالرحمن يعيد محاولة التسلل بعد ان ألقي القبض عليه مع رفاقه السبعة عندما تعطل محرك القارب واضطروا الى طلب المساعدة من خفر السواحل القبرصي. "في المحاولة الثانية اصطدم القارب بصخرة كبيرة وكان ان يودي بحياتنا لولا اننا نجيد السباحة، وقبضت علينا الشرطة القبرصية وسلمتنا الى السلطات السورية عبر الوسيط التركي، وحكم علينا لمدة شهر، قضيناه في السجن بعد فترة تحقيق طويلة من الجهات الامنية ذات العلاقة"، منوهاً الى ان قائد الرحلة اجرى لهم الترتيبات على الساحل السوري قبل يومين من انطلاقها لاختبار مقدراتهم على التحمل وركوب البحر والسباحة. لا يخفي الشباب السوري نيته في الهجرة الى أي دولة أوروبية وبأي طريقة اذا ما سنحت له الفرصة "بعد ان ملّ الوقوف امام السفارات الاجنبية في سبيل الحصول على تأشيرة دخول، ولو بغرض السياحة، الى تلك الدول"، بحسب قول سمير الذي زار قبرص بتأشيرة دخول سياحية وعمل لمدة سنتين في الزراعة بعد ان لحقت زوجته به حتى قبض عليه بعد احداث سبتمبر ورحّل معها الى سورية، مشيراً الى انه يحاول الآن دخول قبرص.