على مسند للصحف في أحد المطارات كان العنوان البارز في صحيفة يومية يقول "غرق 6 مهاجرين عرب في إيطاليا وإنقاذ 40".. أما التفاصيل فكانت أشد مرارة، وهي تقود من حيث المحصلة إلى طرح السؤال القديم الجديد "ما الذي يدفع هؤلاء إلى المغامرة بكل شيء في محاولة الوصول إلى الطرف الآخر، حيث يرون الحلم.. أو النجاة". يجدد الخبر التأكيد على إعادة موضوع "الهجرة غير الشرعية" إلى الواجهة من جديد، على الرغم من أنه لم يغب عنها إلا توارياً لفترات قصيرة. والهجرة، في العموم تمثل حالة انتقال من مكان إلى آخر ربما بخيار المنتقل، وربما نتيجة لحالة قسرية تجبره على الانتقال، وهي حالة بدأت قديماً جداً في التاريخ، لكنها مع تطور مفهوم الدول والتنظيمات والحدود الفاصلة بين دولة وأخرى باتت تتخذ صفة الشرعية أو غير الشرعية تبعاً لما إذا كانت تتم وفقاً للضوابط والقوانين، أو بطرق تخالف هذه القوانين وتتخطى مقتضياتها. وتنتعش الهجرة غير الشرعية عادة في أوقات الأزمات العاصفة ببعض المناطق أو الدول، كما حدث مثلاً في أزمة البلقان، وكما حصل في الأزمة العراقية، وما يحدث اليوم في سورية وفي مصر، حيث تتحول بلدان الأزمات إلى مرجل يفر منه كثيرون بأرواحهم وأبنائهم طلباً للنجاة، وبحثاً عن موطن آمن يجنبهم أن يكونوا قمحاً لحجارة الرحى الطاحنة للأرواح والممتلكات. تتباين القصة بين "الهروب من واقع مؤلم.. والحلم بمستقبل أفضل".. وعلى الرغم من أن الأمر يبدو تماماً مثلما وصفه أحدهم بأنه أشبه ب"فراشات تحوم حول النار.. لا يمنع احتراق بعضها، الأخريات عن مواصلة التحليق والطيران". وبالعودة إلى خبر "غرق 6 مهاجرين عرب"، تشير التفاصيل إلى التالي "لقي ستة مهاجرون مصرعهم في مأساة غرق أخرى في إيطاليا، وهم يحاولون الوصول إلى شاطئ كاتانيا (صقلية) من زورق كان يحمل نحو 100 مهاجر آخر قادمين خصوصاً من سورية ومصر. وقال الناطق باسم مديرية شرطة هذه المدينة الكبيرة في جزيرة صقلية الكومندان روبرتو داريجو "تبلغنا فجراً بأن زورقاً جنح قبالة منتجع سياحي" في بلايا دي كاتانيا. وأوضح أن المركب، وهو عبارة عن قارب صيد طوله 18 متراً، كان عالقاً في الرمال على مسافة 15 متراً من الشاطئ وأن "معظم المهاجرين قفزوا إلى البحر" ما أن رأوا الساحل. وأضاف "تم العثور على جثتي مهاجرين على الشاطئ، بينما "انتشل رجال الإنقاذ أربعة جثث أخرى" من حول القارب. وغرق المهاجرون الستة لأنهم لا يجيدون السباحة بعد أن انجرفوا إلى قناة عميقة قرب الشاطئ، على ما أفادت الشرطة التي تدخلت أيضا. ونقل طفل في سن الثالثة يعاني جفافاً شديداً وامرأة حامل إلى المستشفى من باب الاحتياط. وقال الكومندان داريجو، إن وصول المهاجرين على شاطئ كاتانيا أمر "غريب تماما، إنهم عادة ينزلون في الجنوب بمنطقة سيراكوزا وربما في أقصى جنوب صقلية في بورتوبالو دي كابوباسيرو أو في لامبيدوزا". من جهة أخرى تم إنقاذ نحو أربعين مهاجرا آخر كلهم سوريون، نصفهم قاصرون وصلوا إلى سيراكوزا، وأحدهم معوق بينما يعاني آخر من عدة كسور.. وقد تم إنقاذ 100 مهاجر سوري قبلها بيومين في كالأبريا بعد أن أبحروا منذ أسبوعين من سورية وبدلوا مركبهم مراراً قبل أن يُتركوا في زورق صغير تائه لا يتجاوز طوله 11 متراً". الخطوات الأولى حينما فكرت بمسألة تتبع "الهجرة غير الشرعية" اخترت منهجية تقول "ارم نفسك في البحر ودع الأمواج تتولى المهمة".. كان علي أن أختار البوابة الأكثر تمريراً للمهاجرين إلى أوروبا، وكانت إسطنبول تلك المدينة التركية المنقسمة بين آسيا وأوروبا هي الهدف، فمنها وفيها تنشط عمليات الهجرة غير الشرعية، حيث يعبرها الراغبون ليصلوا منها إلى العواصم الأوروبية أو إلى الحدود المتاخمة مع اليونان وبلغاربا أو حتى إيطاليا، ولتعدد وسائل العبور منها، سواء كان ذلك برحلات الطيران، أو السفر براً، أو عبر السفن والمراكب. حينما حطت طائرتي في مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول كانت لدي بضعة أرقام لهواتف لمن يعملون في مهنة تهريب البشر، لكني كنت على يقين أن الوصول إليهم لن يكون سهلاً أو متاحاً، خصوصاً أن أهم مبادئ العمل في هذه المهنة التغيير الدائم لأرقام الهواتف، والتخلص الدائم من شرائح وبطاقات الهواتف المحمولة تجنباً للوقوع في قبضة الشرطة التي تلاحق هؤلاء المهربين تماماً كما تفعل مع المهاجرين غير الشرعيين أنفسهم. يعمل المهربون عادة ضمن مافيات كبيرة لديها اتصالاتها وتمدداتها في أكثر من دولة، فتمرير المهاجر إلى البلد المستهدف قد يستلزم تمريره عبر دول عدة، وهذا يتطلب تنسيقاً واتصالات وتعاوناً بين الجميع. لكن هذا لا ينفي أيضاً وجود مهربين آخرين يعملون بشكل محدود، ويعتمدون على قدراتهم واتصالاتهم أحياناً مع بعض رجال الأمن على طرفي كلا البلدين اللذين يتم الانتقال من أحدهما إلى الآخر. تدخل عاجل على بعد بضع خطوات من مغادرة نقطة جوازات الوصول الدولي إلى مطار أتاتورك، وفي طريقي للحصول على شريحة اتصالات تركية، تقدم مني شخص لبناني (ميزته من لهجته) وقدم لي عرضاً للحصول على شريحة اتصالات لا تستلزم مني تسجيلها على جواز سفري. كانت تلك فرصة لنتبادل الحديث العام حول الأوضاع في بلدينا، لم أكن قد كشفت عن أنني أجري مثل هذا التحقيق، واكتفيت بالإشارة إلى أنني أرغب بالهجرة إلى أوروبا، وسألته عما إن كان يعرف طريقاً لذلك. لم يكن لدى هذا اللبناني معلومات، لكنه اقترح علي الذهاب إلى منطقة "أكسراي"، مشيراً إلى أن مثل هذه العمليات تنشط فيها، واقترح أن يوصلني إليها، لكني رفضت، وفضلت متابعة اكتشاف الطريق دون مساعدة. الحظ وأشياء أخرى وصلت أكسراي مستخدماً الميترو، وما أن غادرت بوابة المحطة، حتى بدأت عروض الخدمات تنهال علي. كانت المنطقة خليطاً من الحي الشعبي الذي يكثر فيه العرب والأكراد والأفارقة، والمسحوقون من كل حدب وصوب، وكان مكتظاً إلى حد شديد وخانق بالباعة الذين يفترشون الأرصفة، والأصوات التي تعلو هنا وهناك منادية على هذه البضاعة أو تلك، والتي كانت تتراوح من الخضار للساعات وعلب السجائر والألبسة الرخيصة والعطور المقلدة والمأكولات الشعبية. كان التلفت يمنة ويسرة كأي غريب قادم بمثابة دعوة لمن يعرضون خدماتهم، ابتداء من حمل حقيبة السفر، مروراً بعروض البرامج السياحية، والشقق المفروشة، وانتهاء حتى بعرض التهريب إلى أوروبا. وعلى بعد خطوات فقط من بوابة المحطة، كان أبو يوسف وهو كردي سوري يجري اتصالاً هاتفياً، وكنت محظوظاً أن وصلت إلى مسامعي بعض كلماته التي أكدت لي أن الرجل يتواصل عبر هاتفه مع شخص راغب بالهجرة، فعرفت أن الحظ يقف في صفي أكثر مما تصورت. انتظرت غير بعيد عن أبي يوسف بانتظار انتهاء مكالمته، ثم تقدمت منه كمن يريد محادثته بالعربية، فسألته عن المنطقة والفنادق الجيدة فيها، وعرض علي تسكيني في شقة مؤكداً أنها أوفر من الفنادق، فوجدت الأمر مدخلاً لأعلن له رغبتي في الهجرة، وأنني أبحث عن الطريقة. سألني عما إذا كان وجودي في تركيا بطريقة نظامية، فأعطيته جوازي ليتأكد بنفسه وليرى أنني وصلت اليوم ليطمئن أكثر، ولندخل مباشرة في التفاصيل. يقول أبو يوسف "جئت إلى تركيا منذ 14 سنة، وعملت سائقاً لمركب بحري، وقد اكتسبت كثيراً من الخبرة عبر تنقلي في شواطئ تركيا واليونان وإيطاليا.. أمتهن التهريب منذ نحو 9 سنوات، وقد هرّبت كثيرين يعيشون الآن في أوروبا، لكننا نواجه حالياً كثيراً من المصاعب، وكثير من الطرق تقفل أمامنا، ونحاول بشتى الطرق فتح طرق أخرى". وتبدو المسألة أشبه بلعبة القط والفأر، فكلما وجد المهربون طريقاً للراغبين بالهجرة، تنبهت لهم قوات الأمن التي تكثف نشاطاتها وتنسق فيما بينها للحد من هذه الظاهرة التي باتت تثقل كاهل الدول المستهدفة بالهجرة، خصوصاً أن هذه الدول تبدو مضطرة لتقديم الإعانات والسكن والتأمين الصحي، إلى غير ذلك من الأمور التي تؤرقها بشكل جدي، خصوصاً بعد اكتفائها من استقطاب الهجرات التي كانت في وقت مضى ضرورة ملائمة لها لتلبية متطلبات سوق العمل لديها، وبعد تركيزها حالياً على استقطاب الكفاءات دون غيرها، وعلى الأخص الكفاءات الحرفية. ويضيف أبو يوسف "لدينا الآن أكثر من طريق، ولديك الخيار في اختيار الأنسب.. شخصياً أفضل البحر، وهو أقل كلفة حيث تقدر كلفته ب8000 يورو فقط للشخص الواحد، ونصف هذه القيمة + ألف يورو للطفل أقل من 10 سنوات". وحينما أبديت مخاوفي من تكرار حوادث الغرق والاعتراض التي تجدها هذه المراكب، حيث يصادف بعضها الموت وهي تحمل أكثر من طاقتها، كما أنها في كثير من الأحيان مجرد مراكب متهاكلة أحيلت للتقاعد فاشتراها المهربون بأبخس الأثمان ليضعوا عليها المهاجرين ويدفعونهم في عرض البحر، ناهيك عن أن بعضها تعترضه قوات خفر السواحل التي تجوب قريباً من المياه الإقليمية لدول مثل اليونان وإيطاليا. وعن هذه الطريق يقول "لن أضعك كما يفعل آخرون في مراكب متهالكة، بل في مركب نظامي يتسع إلى نحو 3 آلاف، فيه مطاعم وغرف للنوم، وتستغرق الرحلة إلى إيطالياً 5 أيام تصل بعدها وتنزل في الميناء، وهناك ترتاح يومين إلى ثلاثة ومن ثم تستقل القطار فيعبر بك إلى البلد الذي تريد". ويكمل "سنبحث لك عن جواز سفر أجنبي، نراعي أن يكون الشبه بين صاحبه وبينك بنحو ال70%، ولو كنت تجيد اللغة الإنجليزية فسيكون الأمر أسهل كثيراً عليك للتعامل مع رجال الجوازات في إيطاليا". أبديت لأبي يوسف أن الطريقة لم ترق لي لانطوائها على مخاطر، كما أن النزول في إيطاليا أولاً قد يضطرني لطلب اللجوء فيها، لأنها من الدول المطبقة لاتفاقية دبلن التي تقضي بأن يعاد المهاجر غير الشرعي للبلد الذي مر فيه أولاً. اقترح أبو يوسف طريقة ثانية، قائلاً "هناك طريقتان أخريان، قد تبدوان أقل خطورة، وذلك باستخدام الطيران، حيث سنعمل على تأمين جواز لشبيه لك، ونحجز تذكرة سفر للبلد الذي تريد السفر إليه، لكن الأمر سيبقى رهناً بالحظ، إذ قد يشتبه بك، وحينها ستمنع من السفر، وقد توقف لساعتين أو يومين، ويخلى سبيلك". وتابع "هذه الطريقة مريحة، إذ إنها تنطوي على إقلاع وهبوط، لكن قد نضطر لتكرار المحاولة مراراً، فربما تغادر من المرة الأولى، وربما قد نكرر المحاولة مرات ومرات". وعن التكلفة، قال "8500 يورو للشخص الواحد، شاملة تكفل المهرب بقيمة التذكرة.. وطبعاً كلا الحالتين تستلزم أن يكون هناك طرف ثالث، يودع لديه المبلغ، وبمجرد إقلاع الطائرة، أو وصول المركب البحري، يقوم هذا الطرف الثالث الذي يجب أن يكون موثوقاً على الأخص من المهاجر، بتسليم المهرب المبلغ المتفق عليه". وينهي أبو يوسف "الطريقة الأخيرة، هي الحصول على تأشيرة تشنغن رسمية، لكن دون أن تكون مضطراً للبصمة، لأن مجرد وضع البصمة في أي سفارة من سفارات دول هذا الاتحاد سيحرمك من طلب اللجوء في غير هذا البلد، عملاً باتفاقية دبلن". ويكمل "هذه الطريقة ستكلفك 8500 يورو، منها 700 دولار ستدفع سلفاً، إضافة إلى استخراج إقامة نظامية في تركيا تكلفتها رسمياً 200 ليرة تركية (نحو 400 ريال سعودي)، لكنها ستكون من ضمن ال700 دولار لتسريع الحصول عليها في غضون 5 أيام على الأكثر" اتفاقية دبلن الاتفاقية هي مجموعة لوائح تتعلق بالهجرة واللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي، وإن كانت بعض الدول من خارج هذا الاتحاد قد انضمت إليها، ووقعت عليها. وقد اعتمدت هذه الاتفاقية عام 2003، وحدد عام 2012 موعداً نهائياً لتنفيذها، ومع ذلك فإن ثمة تعديلات تطرأ عليها بين الحين والآخر تبعاً لمستجدات هذا الأمر، ومطالبات منظمات حقوق الإنسان بمراعاة ظروف اللاجئين. وكان الهدف الأساسي لهذه الاتفاقية تثبيط طالبي اللجوء عن تقديم طلبات متعددة في دول مختلفة. وأنشأ الاتحاد الأوروبي تسلسلاً هرمياً للمعايير التي تحدد الدول الأعضاء التي ينبغي أن تكون مسؤولة عن معالجة طلبات اللجوء، ورغم أن وحدة الأسرة والاعتبارات الإنسانية هي من بين المعايير التي ينبغي أن تأخذها الدول في عين الاعتبار، فإن مبدأ "بلد الدخول الأول" هو الأكثر استخداماً من الناحية العملية، ما أدى إلى نقل الآلاف من طالبي اللجوء من دول مثل ألمانياوالسويد إلى دول سيئة السمعة على مستوى اللجوء اليونان وإيطاليا وبولندا. أما الدول الموقعة على اتفاقية دبلن 2003 أو ما يسمى (منطقة دبلن الثانية) فهي النمسا، بلجيكا، قبرص، الجمهورية التشيكية، إستونيا، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، اليونان، هنجاريا، أيسلندا، أيرلندا، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، لوكسمبرج، مالطة، هولندا، النرويج، بولندا، البرتغال، إسبانيا، المملكة المتحدة (بريطانيا)، سلوفاكيا، سلوفينيا، السويد، الدانمارك، أيسلندا، النرويج.