أعوام مضت ووالدة منذر تحبس أنفاسها حزناً كلما نظرت إلى صورة ابنها الذي قضى غرقاً مع ابن خاله وسيم وهما يحاولان اختراق حواجز الهجرة إلى أوروبا. «كان كل شيء بالنسبة الينا، يا ليته لا يزال على قيد الحياة وإن مسجوناً في مكان ما»، تقول والدة منذر بصوت متهدج وعينين تفيضان حزناً وقهراً على ابن كان معيل أسرته في مخيم نهر البارد. أما وسيم الذي يرقد إلى جانب منذر تحت المياه في مكان ما بين تركيا واليونان، فلا يعرف أن والدته توفيت حزناً هذا العام وهي تحلم بأن تحتضنه للمرة الأخيرة أو على الأقل تدفنه كما يليق بالميت. رحل الشابان في غفلة من الجميع أواخر 2003، بين هجرة قسرية للأجداد وهجرة طوعية اختارها الأحفاد فتقطعت بهم السبل بين ميت وسجين ومنفي. ولم تستطع العائلتان استعادة الجثمانين اللذين ابتلعهما البحر في مركب مقفل حمل شباناً آخرين في ريعان العمر يجمعهم حلم الوصول إلى أوروبا. في ذلك العام غادر منذر ووسيم بحثاً عن فرصة عمل أفضل وحياة مستقرة بعدما ضاقت بهما أزقة المخيم الواقع شمال لبنان عند منطقة حدودية مع سورية. كان الشابان شبه عاطلين من العمل، إلا من بعض الاعمال المتقطعة التي لم توفّر لهما دخلاً كافياً يسد رمق الاسرة، أو يسمح لهما بتكوين أسرة خاصة. سُدّ الأفق في وجهيهما، لا سيما أن الهجرة غير متاحة للاجئ الفلسطيني بالسهولة المرجوة. فلم يبق أمامهما إلا الهجرة غير الشرعية فسحة أمل وحيدة للهروب من الواقع المرير. لكن، كأي عملية تهريب، تبقى خيوط اللعبة فعلياً بيد السمسار والمهرب. منذر ووسيم سقطا بيد سمسار استهتر بروحيهما واختطفهما في تركيا طالباً من عائلتيهما المزيد من الأموال. بعد مفاوضات دامت اسبوعين قبل السمسار بمبلغ 3600 دولار مقابل الإفراج عن الشابين وإرسالهما إلى اليونان. وضع وسيم ومنذر في قارب صغير مع 67 مهاجراً آخرين، فغدر البحر بهم وغرقت الآمال. عيّنة من عشرات ولئن كانت عائلتا وسيم ومنذر تعانيان أزمة فقدانهما حتى اليوم، يشكل الشابان عينة من عشرات شبان مخيم نهر البارد (راجع الكادر) الذين يحاولون الهجرة سنوياً مغامرين بأرواحهم وأموالهم. صحيح أن البعض القليل منهم وصل إلى بلاد المهجر، لكن كثيرين فشلوا في بلوغ الضفة الأخرى وعادوا إلى مخيمهم بعدما خسروا آلاف الدولارات وتعرضوا للاعتقال والإهانة. الا أن هؤلاء كانوا أوفر حظاً من الذين يموتون غرقاً أو قنصاً بنيران حرس الحدود. وقد يصعب الحديث عن ظاهرة فعلية للهجرة السرية إلى بلدان اوروبا من لبنان عموماً أو من داخل المخيمات الفلسطينية خصوصاً، في ظل غياب الارقام الرسمية حتى لدى سفارات تلك البلدان (راجع الكادر)، ولكنها تبقى حالة متفاقمة يعاني منها سكان تلك المخيمات ولا يملكون إلى حلها سبيلاً. فالمسؤولية متقاسمة بين عائلات تجمع المال لمساعدة الأبناء على هذا النوع من الهجرة، عوضاً عن توظيف المبالغ في تجارات أو أعمال صغيرة، إلى الشبان أنفسهم الرافضين أي حلول وسطية، مروراً بالدولة اللبنانية التي لم تترك لأجيال كاملة بصيص نور في نهاية النفق. ولعل الأكثر صعوبة في تحديد حجم هذه الحالة، شبه استحالة الوصول إلى الشبان والسماسرة لحضّهم على نبش قصصهم وكشف أوراقهم، باستثناء عدد من الحالات الفردية التي ساهمت في هذا التحقيق ولكن بكثير من السرية والتستر. سلمان (اسم مستعار) هو أحد الذين حاولوا مراراً الهجرة إلى ألمانيا حتى بات خبيراً في تشعبات الهجرة غير الشرعية. يذهب إلى المقهى كل ليلة لملاقاة أصحابه علّه ينسى هماً يلازمه منذ ثلاث سنوات. إذ مضى من عمره 28 عاماً ولا يزال من دون عمل ثابت. أسئلة كثيرة تقض مضجعه: ماذا أفعل غداً؟ كيف أعمل؟ هل أمد يدي لأشحذ أم أسرق؟ كيف أتزوج وأنشئ أسرة وأنا لا أملك شيئاً؟ السمسار ربيع بدأ سلمان البحث عن العمل مبكراً بعدما أنهى المرحلة الثانوية ليجمع تكاليف السفر. وعلى رغم اجتهاده لم يستطع جمع المبلغ إلا بمساعدة والده وأخيه الموجود في ألمانيا. اتصل سلمان بالسمسار «ربيع» المعروف في المخيم، فأطلعه على تفاصيل السفر والتكلفة، وطلب منه مبلغ 3000 دولار مقابل إيصاله إلى اليونان كمحطة أولى «كما هي العادة». ففي مخيمي نهر البارد وبرج البراجنة تسهل معرفة السماسرة والوصول اليهم وإن كان السكان لا يحبذون الحديث علناً في الامر. فهؤلاء ينظر إليهم على أنهم «ينقذون» الشبان من البطالة و «يساعدونهم» على بناء مستقبل أفضل، مستعرضين قصص نجاح من هاجر من طريقهم وجعل أسرته تنعم بالرفاه. ويلعب هؤلاء السماسرة المنتشرون في المخيمات (وهم فلسطينيون ولبنانيون) حلقة وصل أولية في سلسلة طويلة ومعقدة. فهم يوصلون المهاجرين إلى مهربين وسماسرة آخرين في سورية وتركيا، ينقلونهم بدورهم إلى اليونان. ولا يعرف السماسرة إلا رقم هاتف خليوي غالباً ما يتبدل. ويعمل سماسرة الهجرة غير الشرعية غالباً مع مهربي بضائع وسلع استهلاكية من دخان ومشروبات روحية ومحروقات وصولاً إلى الماشية والمخدرات والسلاح... والبشر. مالك (اسم مستعار) مثلاً، يملك محلاً ل «التجارة العامة» له فروع موزعة داخل مخيم البارد وخارجه عند المنطقة الحدودية مع سورية. يعبر مالك الحدود بين فترة وأخرى ويصل أحياناً إلى تركيا ليشتري بضائع بالجملة. تعرف هناك الى مهربين وسماسرة بعدما حصل على رقم هاتف أحدهم من شاب حاول السفر سابقاً. وهكذا، سلك مالك طريقه في «مساعدة» الشبان على الخروج من مخيمهم إلى العالم الاوسع مقراً ب «مساعدة نحو سبعة شبان من المخيم للسفر الى اليونان وذلك على دفعتين». ويقول: «المرة الأولى كانت عبر تحصيل تأشيرات شرعية الى تركيا. حينذاك كان دخول تركيا يحتاج إلى تأشيرات. فكنت أوصلهم الى اسطنبول، ومن هناك الى اليونان عبر مهرب آخر. أما المرة الثانية فكانت مع مجموعة من أربعة شبان ساعدتهم أيضاً بالوصول إلى تركيا براً عبر سورية». ويشرح مالك الفارق بين المهرب والسمسار والوسيط. فالمهرب هو الشخص الذي يتولى عملية عبور المناطق الحدودية، ومهنته الأساسية تهريب البضائع، وهو عادة لا يتحمل أي مسؤولية عن خسائر او أضرار قد تلحق بالمهاجرين. والوسيط هو صلة الوصل بين المهرب والسمسار ويتولى نقل الشبان داخل البلد الواحد، ويأخذ بدل أتعابه من السمسار. أما السمسار، أكبر المستفيدين وأولهم، فهو المسؤول الأول الذي يتواصل معه الشبان، ويدلهم على الطريق والوسطاء والمهربين. عادة لا يغادر السماسرة مكان إقامتهم وهم موجودون إما في لبنان حيث يتعاملون مباشرة مع الشبان، أو في آخر نقطة تهريب (اسطنبول أو أزمير) وهؤلاء هم المهربون الكبار والأساسيون. وغالباً ما تربط بين السماسرة والسلطات الأمنية في كل بلد علاقات وطيدة، لا تعرّضهم للملاحقة. بل إنهم في كثير من المحطات ينسّقون مع رجال الأمن مقابل رشاوى وهدايا. سلمان، وبعد ذلك اللقاء بربيع (اسمه الحقيقي) عاد إلى والده طالباً استدانة مبلغ 1500 دولار لتسديد ما طلبه السمسار ولم يخطر بباله أنه سيدفع أضعاف ذلك المبلغ لينجو بحياته ويعود سالماً إلى المخيم في صيف 2007. يقول سلمان: «لم يوضح لنا السمسار ما قد نتعرض له من مخاطر في عبور الحدود مع إمكانية التعرض للقتل برصاص قناصة الحرس أو حتى الغرق، بل أوهمنا أن الطريقة سهلة وآمنة ولا تحتاج إلا الى القليل من الجرأة». سلمان ورفاقه لم يموتوا غرقاً، لكنهم «شاهدوا الموت بأعينهم في تركيا وعلى أعتاب اليونان» كما يقولون. ففي تركيا يكون المهاجر قد وصل إلى منتصف الطريق، لا هو قادر على الرجوع ولا يملك أن يتقدم وحده فيبدأ المهرب ابتزازه. ويروي سلمان أن سمسار اسطنبول واسمه يحيى كما هو متعارف عليه بين السماسرة، سلّم المجموعة إلى مهربين وضعوهم على متن قارب مهترئ مع 64 مهاجراً من جنسيات مختلفة، وذلك بعدما احتجزوهم في شقة لمدة 6 أيام «لحين ترتيب الطريق» على ما قيل لهم. انطلق المركب من مدينة أزمير ليلاً لكنه ما لبث أن تعطل لأن سعته 40 راكباً ومحركه قديم جداً. بقي الشبان يترنحون في المياه ويحاولون تشغيل المحرك بأنفسهم حتى جاءهم صيادون أتراك في الصباح وساعدوهم على العودة إلى شاطئ أزمير. عاد سلمان واتصل بيحي مستفسراً عن سبب إرسالهم في مركب قديم وما السبيل لمتابعة الرحلة، فأجابه بأن السمسار الاول، أي ربيع، لم يدفع له سوى 450 دولاراً من أصل 2000 وانه يريد 500 دولار إضافية عن كل مهاجر ليعيدهم آمنين إلى اليونان عبر أدرنة. هناك وضعهم رجال يحيى في سيارة وقاموا بتسليمهم إلى الشرطة التركية بعدما تقاضوا أموالهم وأدركوا أنهم استنزفوهم حتى ما عادوا يملكون ما يستحق الاحتفاظ بهم. أما قرار محاولة الهجرة السرية مرة ثانية وثالثة، وهو ما أقدم عليه سلمان، فيعود غالباً إلى أن الشاب يكون قد خسر كل شيء ولا يستطيع استرداد ما دفعه للسماسرة. وتسليم المهاجرين إلى الشرطة يتكرر كثيراً وهو ما حصل مع شبان من مخيم البارد سافروا لاحقاً، وفي أدرنة تحديداً. خالد (الاسم الحقيقي/24 عاماً) حاول الهجرة في 2006 معتمداً طريقة سلمان. قال: «وصلت إلى اسطنبول ودفعت لسمسار يُدعى «سرداب» بعدما ارتحت له لأنه تولى تهريبي من سورية من دون الاستعانة بسمسار من لبنان، فاتصلت بأهلي وطلبت منهم تحويل مبلغ 3500 دولار». بعد تحويل المبلغ وضعه المهربون في باص صغير باتجاه أدرنة. لكن بعد نحو ربع ساعة من الانطلاق توقف السائق في قرية، وأغلق الأبواب على الركاب إلى أن جاءت الشرطة واعتقلتهم، وبقي خالد في السجن نحو 4 أشهر قبل أن تعيده السلطات التركية إلى سورية وبعدها إلى مخيمه. ووقع شبان آخرون من مخيمي نهر البارد وبرج البراجنة في قبضة الشرطة بسبب خلافات على المال بين «مهربي الحدود» و «مهربي الداخل» (أي تركيا أو سورية). ويُسمّى هؤلاء «الوسطاء» لأنهم يوصلون المهاجرين إلى السماسرة الرئيسين. وما يحصل أن الوسطاء يتقدمون بالوشاية أو يحملون المهاجرين مباشرة إلى مخافر الشرطة مدعين أنهم قبضوا عليهم. بعد خروجه من السجن عاد سلمان الى المحاولة مرة ثالثة العام الماضي بعدما جمع تكاليف السفر من جديد واعتمد على سمسار آخر من نهر البارد، معروف بخبرته الطويلة واحترافه تهريب الشبان الفلسطينيين. لكنها لم تكن محاولة أكثر نجاحاً من سابقاتها. فأثناء عبوره النهر الكبير الذي يفصل سورية ولبنان شمالاً، قاطعاً المياه المنخفضة مشياً على قدميه، شعر أن ثمة خلافاً بين المهربين على الطرفين، وفهم من كلام السوريين أنهم طلبوا مبلغاً إضافياً، رفض الآخرون دفعه ما أدى إلى اختطافه فور وصوله إليهم وسلبه مبلغ 2000 دولار كان يحتفظ به وتسليمه للسلطات السورية. ويُعرّف السماسرة عن نفسهم بأسماء مستعارة، ويُعتبر «يحيى» الأشهر بين شبان هاجروا من لبنان، وهو يعيش في اسطنبول ويتعاون مع مهربين ينقلون المهاجرين من سورية إلى تركيا ليسلمهم بدوره إلى مهربين آخرين ينقلونهم إلى اليونان من طريق البحر أو نهر أدرنة. ويتقن يحيى اللغتين العربية والتركية ويُعتقد أنه سوري الأصل لكن أحداً لا يعرفه على وجه اليقين. وفي اسطنبول سمسار آخر يُدعى فوزي وهو تونسي الأصل ولديه مساعدون من مواطنيه بينهم شابة ثلاثينية تُدعى «هدى» مهمتها تهريب المهاجرين مع مرافقيها من سورية إلى اسطنبول عبر انطاكيا. فوزي (الاسم الحقيقي) ومساعدوه مهاجرون غير شرعيين من تونس فشلوا في الوصول إلى أوروبا فوجدوا في تهريب الآخرين مصدر دخل مرتفع بعدما أتقنوا «سرّ المهنة»، وعُرف منهم مثلاً التونسي نادر الطرابلسي (الاسم الحقيقي). وتشبه الحالات التونسية حالات فلسطينية من لبنان ومن غزة، ففي مدينة أزمير مثلاً سمسار فلسطيني من غزة يُعرف ب «أبو ناصر الفلسطيني» بلغت شهرته أزقة نهر البارد. ومن مخيمات لبنان امتهن ربيع عمل السمسرة خلال فترة وجوده في تركيا فأكمل طريقه إلى السويد وغيره بلغ ألمانيا أو الدنمارك. وينشط اليوم في المخيم سماسرة من نوع جديد. إنهم مغتربون «شرعيون» يأتون إلى لبنان لزيارة ذويهم، ويعرضون المساعدة في الهجرة على من يشعرون أن لديه رغبة في السفر. ويكون السفر بجواز سفر مزور أو مسروق من ألمانيا والدنمارك، أو عبر تأمين تأشيرة «شنغن» من دول مجاورة لألمانيا (خصوصاً بولندا وأوكرانيا) عبر سفاراتها في لبنان مقابل مبلغ يراوح بين 6 و8 آلاف دولار. ويستطيع المهاجر الدخول براً الى المانيا باعتبار أن الدولتين تنتميان إلى الاتحاد الأوروبي. السواحل اليونانية وتجذب هذه الطريقة الشبان على رغم تكلفتها العالية، لأنها أقل خطورة وإن كانت غير مضمونة أيضاً. ففي مطلع 2011 أعادت السلطات البولندية الشاب وسام (اسم مستعار) بعد وصوله إلى مطار وارسو وإثارته الشكوك حوله. فقد حاول الادعاء بأنه سائح من خلال مظهره وأموال كان يحملها لكن الحيلة لم تنطل على السلطات فقامت بترحيله علماً أنها ليست محاولته الأولى. ففي 2005، حاول وسام السفر براً عبر تركيا على طريقة سلمان فوصل إلى قبالة السواحل اليونانية حيث ألقى خفر السواحل القبض عليه ورمي عند أقرب نقطة تفتيش تركية ليُعتقل 47 يوماً ويُعاد الى سورية ومنها إلى لبنان. ويقول وسام «خسرت نحو 13000 دولار في محاولتي الثانية، دفعت 8 آلاف منها مقابل التأشيرة إلى بولندا، فيما دفعت 3000 دولار في رحلتي الأولى». سلمان وبعدما أفرجت السلطات السورية عنه وأعادته إلى لبنان معرضاً للضرب والإهانة طوال 20 يوماً، عاش شهوراً من الاحباط والتخبط. فقد خسر ماله وآماله في تأمين مستقبل أفضل. يقول سلمان: «لا استطيع ملاحقة السماسرة قانونياً، فالأول، ربيع هاجر إلى السويد بعدما جمع مالاً كافياً من تهريب الشبان، والآخرون ليس ما يثبت أنهم تلقوا مني أي مبلغ أو أعطوني ضمانات بالوصول الآمن... اعتمدنا طرقاً مخالفة للقانون». * التحقيق نُفِذ بدعم من شبكة أريج - اعلاميون من اجل صحافة استقصائيه عربية www.arij.net بأشراف الزميلة بيسان الشيخ - نحن في بلغاريا وليس في اليونان! - قانون الهجرة ... ورد السفارات