هذه المرة لن يفلت احد من العواقب والهزات والانعكاسات، ولن يتمكن احد من الهروب من المصير المحتوم لكل العرب، وليس للعراق وحده إذا وقعت الواقعة وتحول التهديد الأميركي بضرب العراق الى واقع ودخل حيز التنفيذ خلال الأشهر القليلة المقبلة. وهذه المرة لن يستطيع اي احد، وفي اي مكان على الأرض العربية، ان يدعي انه فوجئ بما حدث أو أن هذه الضربة شكلت له مفاجأة مذهلة لم يكن يتوقعها أو لم يكن في الإمكان تجنبها أو عدم توافر الوقت اللازم والإمكانات المتاحة لمنع وقوعها، أو لقياس حساباتها وتقدير مخاطرها وأضرارها. فكل شيء معد مسبقاً ومعلن وواضح، بالتفاصيل المملة التي تذاع وتعلن في وسائل الإعلام، وكل شيء محدد وموثق على لسان المسؤولين والمحللين بلا لف ولا دوران وكأننا نشهد فصول مسرحية على مسرح مكشوف لا أسرار فيها ولا ألغاز ولا كلام مبطن ولا مفاجآت. ناقوس الخطر يقرع بقوة ويرسل إنذارات وأصداء تصم الآذان يسمعها القاصي والداني ويستعد البعض لمواجهتها... ويتخذ البعض الآخر جانب الحيطة والحذر فيما يحاول اصحاب النفوذ والقوة استغلال الموقف لتحقيق مكاسب او تأمين مصالح والمساومة للحصول على قطعة من "قالب الحلوى". وحدهم العرب ضائعون وتائهون ومرتبكون وخائفون من المصير... ووحدهم، حسب ما هو ظاهر ومعروف ومجرب، لم تتفق كلمتهم على موقف موحد او على استراتيجية مواجهة ما سيجرى، او على الحد الأدنى من الاستعداد لتحمل الضربات والأزمات المرتقبة بعدها وإبعاد الشرور الزاحفة الى ديارهم ومنطقتهم. ولن يغفر التاريخ ولا الأجيال لمن يتقاعس ويخبئ رأسه كالنعام، ولن يصدق من سيدعي انه فوجئ بالأمر كما كان يفعل عند تبرير التقصير في مواجهة، او حتى توقع النكبات والأزمات التي حلت بالعرب منذ اكثر من قرن والزلازل التي هزت كيانهم. فمنذ اشهر عدة بل منذ وقوع زلزال التفجيرات في نيويورك وواشنطن 11/9/2001 والأحاديث تتكرر عن الضربة المتوقعة وعمن سيأتي عليه الدور بعد افغانستان... ثم بعد العراق!؟ ولكن المؤسف اننا نغفر الخطايا والأخطاء التي ترتكب بأيدي من بيده الحل والربط والقرار وننسى او نتجاهل اسباب القصر والتقصير ومواطن العلل والارتكابات التي كرست النكبات وسهلت حصولها، أو ربما أسهمت في تعميق اضرارها وخسائرها بعد ان تخلينا عن الفعل ووسائل الإعداد له وتحصين مقوماته وأدمنا ركوب موجات ردود الفعل العشوائية والعاطفية التي تتلاشى خلال ايام، وفي بعض الأحيان خلال ساعات. وتحول العرب من الدور المفروض والمفترض وهو دور الفاعل الى دور المفعول به... على الدوام وفي شتى المناسبات والأزمات والمحن. وبانتظار طلائع الحرب الجديدة يمكن تلخيص الموقف الراهن من خلال المتوقع والمعلن والتصريحات وبعض ما كشف من نيات وأهداف ضمن السيناريوات التالية: 1- العمل على تغيير خارطة المنطقة بعد ضرب العراق وربما تقسيمه على ان تشمل دولاً اخرى في المستقبل اقريب بعد فشل خطة تقسيم لبنان وإقامة دويلات طائفية وعرقية تكون لإسرائيل فيها اليد العليا والقوة الأكبر التي تسيطر وتسود. - إعادة اقتسام مناطق النفوذ في اطار ما سمي بيالطا جديدة لتحصل اميركا على حصة الأسد وتنال الدول الكبرى الأخرى نصيبها المكتوب وحصصها من الثروات والصفقات. - إطلاق يد اسرائيل خلال "المعمعة" لتنفيذ ما تبقى من خطة شارون أو "جهنمه" بتصفية القضية الفلسطينية وإلغاء السلطة الوطنية وضرب البنى التحتية والأسس الاقتصادية للدولة الفلسطينية المستقلة وتحويلها الى دولة مسخ تحت السلطة الإسرائيلية وإملاءاتها وشروطها من دون ان نهمل احتمالات استغلال شارون وحكومته الليكودية المتطرفة والمطعمة بالمتخاذلين العماليين لهذه الحرب لضرب عصافير عدة بحجر واحدة من بينها التهويد الكامل للقدس وتهويد المسجد الأقصى المبارك وتنفيذ سياسة التهجير و"الترانسفير" داخل فلسطينالمحتلة عام 1948 وفي الضفة الغربية وقطاع غزة. مقابل هذه الصورة البانورامية التي تلخص ما يخطط وما يرسم من مؤامرة رهيبة لا نجد في الطرف العربي تعاملاً جدياً مع المخاطر المرتقبة، ولا استراتيجية موحدة لمواجهتها إن على صعيد الأمة العربية ككل أو على صعيد كل دولة على حدة باستثناء بعض اللقاءات والاجتماعات والاتصالات والمحاولات الخجولة لترميم البنيان العربي وتحصين المواقف. وبكل أسف فإن ردود الفعل والتحركات لم تتعد حدود إبداء النيات المخلصة والمشاعر والحماسة العاطفية باستثناء بعض القوى الفاعلة التي بدأت تدرك حجم المخاطر في ظل متغيرات لم يحسن العرب فهم ابعادها، فيما يصر البعض على التعامل معها بأسلوب وممارسات الخمسينات والستينات نفسه، وأذكر منها على سبيل المثال: - انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وظهور نظام عالمي جديد تهيمن عليه قوة عظمى وحيدة هي الولاياتالمتحدة. - تعاظم النفوذ الصهيوني ليس في الولاياتالمتحدة فحسب بل في معظم مفاصل العالم، وفي الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي وامتداد هذا النفوذ بعد كامب ديفيد وأوسلو الى الصين والهند ودول العالم الثالث. - تفكك العالم العربي بعد عقد اتفاقات منفردة مع اسرائيل، ثم بروز الشرخ الذي قصم ظهره نتيجة للغزو العراقي للكويت عام 1990. - الآثار التي خلفها الزلزال الناجم عن تفجيرات نيويورك وواشنطن ما ادى الى إطلاق يد الولاياتالمتحدة ومعها اسرائيل، لإرهاب العالم والعرب بالذات، في اطار ما سمي زوراً "الحرب على الإرهاب". - زوال الفورة الاقتصادية العربية واستنزاف الطاقات والثروات العربية نتيجة لهذه الحروب والأزمات وبالتالي سلب العراق اهم اوراق القوة والقدرة على الصمود والمساومة. - تخلخل معظم الأنظمة العربية تحت وطأة الضربات والأزمات والفساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتعرض ملايين الشباب، وأمتنا امة شابة، لأزمة بطالة خانقة تحمل في طياتها بذور فتن واضطرابات ونقمة. وعلى رغم كل هذه المتغيرات والأوضاع الصعبة فإن الأجواء السائدة لا توحي بالتفاؤل لأسباب عدة اهمها بروز حالات التطرف كرد فعل عاطفي لا يسمن ولا يغني، وتطوع الكثيرين منا لتقديم الحجج والذرائع لمن يحمل ضغائن وعداء للعرب لكي ينفذوا مخططاتهم ويتحولوا من جلادين الى ضحايا ومن مجرمين ومتهمين الى قضاة للمحاسبة والمحاكمة وتنفيذ الأحكام المسبقة وتعميم التهم على كل من هو عربي ومسلم. ومع أنه لا يختلف اثنان على خطأ هذه التوجهات فإن الجرأة تنقصنا لندل على مواطن العلل والخلل والدعوة لنبذها وتحكيم العقل والحكمة والعمل على رأب الصدع وتوحيد الصفوف وتجنب اي عمل يسيء لقضايانا ولصورة العرب والإسلام، خصوصاً ان البعض ما زال يعتقد انه يستطيع تحقيق الأهداف ومواجهة الأخطار بمناورة او مظاهرة أو عرض قوة، وعرض عضلات أو بالتهديد والوعيد وبتفجير هنا أو ضرب هناك. هذا من دون ان نهمل التهديد الحقيقي وهو الذي يتعرض له العرب منذ اكثر من قرن والخطط الخبيثة المدبرة لتحطيم قدراتهم ونهب ثرواتهم. ومع احترامي لأصحاب نظرية نفي المؤامرة فإن ما شهدناه منذ مطلع القرن الماضي حتى يومنا هذا ما هو إلا فصول متتالية من مؤامرة كبرى نفذ اجزاء منها اصحاب المصالح والمطامع وتابعت إسرائيل تنفيذ اجزاء اخرى فيما تولى "بعض" العرب عمليات التوليف والتحضير والتمهيد والتسهيل عن علم وسابق تصميم وتصور أو عن جهل عبر تقديم الحجج والذرائع، أو من خلال الأزمات والحروب التي تسبب بها او من طريق زرع بذور الفتن وتعميق الخلافات العربية - العربية. ولا حاجة هنا للتذكير بما جرى واستعراض سجل الأخطاء والخطايا والأحداث منذ سايكس - بيكو، التي اعتبرنا حدودها مقدسة، وصولاً الى نكبة 1948 وما تبعها من احداث ونكبات توجت في حرب الخامس من حزيران يونيو 1967. وبعد نصر 1973 جاء كيسنجر ومن يقف وراءه لينفذ سياسة الخطوة خطوة، وفق مبدأ تفتيت المنطقة الذي اختفى وراء قناع ومزاعم بأن مشكلة الشرق الأوسط لا يمكن ان تحل بالجملة بل بالتجزئة!! فانطلت الحيلة على العرب وبدأ مسلسل الانهيارات من الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 التي كانت تستهدف تجربة التقسيم وإقامة الدويلات الطائفية الى محاولة عزل مصر بصفتها اكبر قوة عربية ضاربة، الى جر العرب الى اتفاقات منفردة حيث جاءت الطامة الكبرى في اتفاقات اوسلو التي جرّت الفلسطينيين الى فخ يدفعون ثمنه هذه الأيام على يد السفاح شارون الذي ألغى الاتفاقات وأخذ الشعب الفلسطيني وسلطته رهينة لدى إسرائيل. وبين مطرقة المطامع الأجنبية وسندان العدو الإسرائيلي تطوع البعض لافتعال الحروب الجانبية التي قصمت ظهر العرب والمسلمين. من الحرب العراقية - الإيرانية التي كان الهدف منها ضرب اسفين بين السنة والشعية لمنع اي تضامن إسلامي، ثم جاءت كارثة الغزو العراقي للكويت بتشجيع ضمني من الولاياتالمتحدة التي سبق ان صبت الزيت على نار الحرب العراقية - الإيرانية بالدعم تارة وبالمد بالسلاح عبر إسرائيل تارة اخرى، وأخيراً جاء زلزال التفجيرات في 11 ايلول 2001 ليقضي على ما تبقى من "المناعة" العربية والإسلامية ويطلق يد شارون في ارتكاب المذابح لتصفية القضية الفلسطينية وتهديد الدول العربية لا سيما سورية ولبنان. فهل نحن بحاجة الى وثائق وإثباتات جديدة لنردد بأن كل ما جرى من احداث كان مجرد مصادفات وأن من يحاول الربط بينها ساذج وبسيط ولا يفهم في السياسة؟ وهل كتب علينا ان نغفر ونسامح المشاركين والمتآمرين والمتواطئين والأدوات والعملاء والمتفرجين والقاعدين ونحول "المرتكبين" الى ابطال ورموز نفديها بالروح والدم! لنترك الحساب للتاريخ وللأجيال الصاعدة ونلتفت الى قرع ناقوس الخطر والدعوة الى المسارعة لتحقيق الحد الأدنى من الصمود والتضامن حتى لا يقع "الفاس في الراس" مرة اخرى ونندم ساعة لا ينفع الندم. فالخطر قائم والمصير العربي مهدد اليوم اكثر من اي يوم مضى، والمخفي اعظم إذا لم يتنبه العرب ويعملوا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان!! * كاتب وصحافي عربي.