قد يكون صحيحا ما قاله شارون عن وجود ضغوط اميركية على حكومته لوقف حملتها العسكرية على الفلسطينيين، بهدف تمكين الادارة الاميركية من توجيه ضربات عسكرية للعراق، بحجة انه اعاد بناء جزء من البنية التحتية لانتاج اسلحة دمار شامل منذ اقصاء المفتشين الدوليين إثر عملية "ثعلب الصحراء". وإذ كانت وزيرة الخارجية السابقة مادلين اولبرايت مارست ضغوطا مماثلة على حكومة نتانياهو في نهاية 1997 للسبب نفسه، فليس في امكان واشنطن اقناع حلفائها العرب بالفصل بين العراق وفلسطين وبدعم سياساتها تجاه بغداد، بمعزل عن منع واشنطن حليفتها الاستراتيجية المدللة من ارتكاب فظائع تمثل اكثر من مجرد تمرد على الشرعية الدولية. وكان مارتن انديك المساعد السابق لوزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط قالها صراحة في حديث ل"الحياة" في العام 1999، عندما اعتبر ان احراز تقدم على صعيد التسوية السلمية سيقابله بالضرورة تقدم على صعيد إطاحة النظام العراقي. اي ان واشنطن تعي تماما أن دول المنطقة تربط بين العراق وفلسطين لجهة التعامل مع السياسة الاميركية. ولهذا، فإن ما يقوله شارون في رفضه الضغوط الاميركية، وهو ما لم يقله نتانياهو في حينه، هو ان اسرائيل تصر على التمرد على السياسة واشنطن، حتى ولو كان ذلك يساهم في تقويض السياسة الاميركية الاقليمية تجاه منطقة الخليج. ولعل وزير الخارجية الاميركي الحالي رئيس هيئة الاركان إبان حرب الخليج الثانية كولن باول، يعرف اكثر من غيره طبيعة العلاقة بين الازمتين في الشرق الاوسط واهمية الضغط على شارون وحكومته، في حال رغبت واشنطن بان توقف التدهور في علاقات بلاده مع الدول العربية. وليس إعلان ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز رفضه زيارة واشنطن ولقاء الرئيس الاميركي جورج بوش في ضوء استمرار الحملة الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، سوى مؤشر الى ما آلت اليه علاقات واشنطن بالدول العربية وما يمكن ان تؤول اليه في حال تفاقم الاوضاع في الاراضي الفلسطينية. ويمكن اعتبار قرار الاردن كسر العزلة العربية عن العراق بإرساله رئيس الوزراء علي ابو الراغب ليكون اول رئيس وزراء عربي يزور بغداد منذ الغزو العراقي للكويت، وبعدها ارسال عمان اول طائرة مدنية الى مطار صدام الدولي، مؤشرا آخر، الى جانب رفض دول المنطقة مجتمعة دعم مشروع العقوبات "الذكية"، ما يعتبر انتكاسة سياسية كبيرة لواشنطن. ولا يقتصر تراجع النفوذ الاميركي في المنطقة على ذلك. إذ ان واشنطن فشلت في اقناع الدول الاعضاء في اوبك بزيادة الانتاج لخفض اسعار النفط، كما تجاهلت سورية التحذير الاميركي من السماح للعراق بتصدير النفط عبر انبوبه الواصل الى اراضيها، فضلا عن قرار مصر ودول اخرى توقيع اتفاقات تجارة حرة مع العراق رغم التحفظات الاميركية الشديدة. وإن كانت واشنطن تخسر، ولو تدريجيا، حلفائها العرب، فإنها تبدو وكأنها خسرت ايضا اسرائيل كحليف استراتيجي إلا من جهة استمرار اسرائيل بالحصول على مكاسب احادية الجانب من واشنطن على شكل مساعدات عسكرية واقتصادية. إذ ان صانع القرار الاميركي لا يستطيع اقناع الكونغرس بوقف المساعدات عن اسرائيل او حتى التهديد بذلك، فيما يرفض الكونغرس في المقابل الضغط على اسرائيل في سبيل الحفاظ على المصالح الاميركية الاوسع في المنطقة. في المحصلة النهائية، ليس في امكان احد ان يقف مع طرف يرفض الوقوف مع نفسه. اي ان العرب لا يستطيعون اقناع واشنطن بالحفاظ على مصالحها في المنطقة ما لم تسع هي الى ذلك. وفي هذه الاثناء، يتصرف العراق وكأنه يتأهب لأن يخلف اميركا كدولة عظمى في المنطقة. ولعله مما يثير السخرية ان التطورات الاخيرة تشجع على الاقتناع بإحتمال حدوث ذلك. إذ بمجرد صدور تهديد، مجرد تهديد، بضرب المصالح الاميركية في المنطقة، تسارع واشنطن الى وقف تمارينها العسكرية المشتركة وتحذير رعاياها من زيارة الشرق الاوسط، وسحب قواتها الى مكان آمن!