حال الارتباك والذهول التي يعيشها العرب هذه الأيام لم نشهد لها مثيلاً من قبل على رغم فداحة حجم الأخطر والكوارث والنكبات التي واجهوها منذ أكثر من قرن من الزمن. فعلى رغم كل ما يعلن ويقال ويدعى عن مواقف متخذة لمواجهة التحديات الزاحفة على المنطقة بسرعة مذهلة، فإن أقرب وصف للموقف العربي، أو المواقف العربية، هو حال اللاموقف: جعجعة بلا طحين، وصمت رهيب، وثرثرة في وسائل الإعلام، ولعب في الوقت الضائع، ومعه لعب على الكلام، وعجز مطلق إن لجهة القدرة على عقد قمة طارئة، أو على أي مستوى، أو لجهة اتخاذ قرار موحد بعيداً من الشعارات والغرائز والعواطف والمجاملات والعبارات الديبلوماسية المنمقة. ولا نريد ان نشارك في عملية جلد الذات واعتماد السلبية، بل نحاول أن نستحضر أفضل توصيف للحال العامة والشلل المرعب الذي يضرب أوصال الأمة من القمة الى القاعدة ورفض الانضمام الى جوقة التيئيس في الدعوة الى إعلان وفاة العرب تارة أو دفن آمالهم وطموحاتهم تارة أخرى. أما السؤال عن الجماهير العربية ودورها وخلو الشوارع من تظاهراتها وصخبها، فلا أرى فائدة منه، أو منها في هذه الظروف بسبب سلسلة خيبات الأمل التي تعرضت لها... وتلك التي تعرضنا لها منها بعد أن تم تحويل الجماهير الى أداة مدجنة "للتطبيل والتزمير" والهتاف لذابحيها وتوجيه طاقاتها لما يضر بمصالحها ويشوه ماضيها وحاضرها ويهدد مستقبلها. ومن يتمعن اليوم في المشهد العربي عشية الحرب المرتقبة على العراق، والحرب المتواصلة بوحشية وشراسة على الشعب الفلسطيني، بوقاحة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، يجد أن الخوف هو الموقف الوحيد المسيطر على الساحة، وأن العرب يبدون اليوم أمام العالم وكأن على رؤوسهم الطير، فمنهم الخائف على بلده، والخائف على مصالحه، والخائف على نظامه، والخائف على مصير الأمة، والخائف على فلسطين، والخائف من المستقبل، والخائف من أن يكون هو "التالي"، والخائف من أخيه، والخائف على نفسه، والخائف من نفسه!! وعلى رغم كل ما يشاع ويقال ويعلن ويتم تسريبه من خطط وسيناريوات خطيرة ومرعبة معدَّة للعراق وللمنطقة، فإنه لا يمكن السكوت عن سيطرة سيكولوجية الخوف أو سيادة "ثقافة الرعب" لأنها تمثل بداية الانهيار وعدم القدرة على التركيز والمواجهة والاستعداد لامتصاص الصدمات وصدّها وتحمل ضرباتها، وقديماً قيل ان أخطر من الخوف هو الخوف من الخوف. صحيح أن الحرب قد تكون حتمية ويستحيل وقفها عندما يتخذ قرارها النهائي ويحظى ب"مباركة" الشرعية الدولية وموافقة مجلس الأمن، إلا أن ما تتطلبه الحكمة يتركز على بذل أقصى ما يمكن من جهود لاستخدام كل الأوراق الممكنة لنزع ذرائعها وإضعاف حججها، ثم الاستعداد لدرء شرورها وتقليص حجم أخطارها ووضع الخطط اللازمة للتعامل مع السيناريوات المعدّة، والملفات المتفجرة التي ستفتح على مصراعيها بمسارات متلازمة معها أو كنتائج حتمية لانعكاساتها وتفاعلاتها وآثارها. فما تم تسريبه من سيناريوات خطير جداً ولا يعني العراق وحده، ولكن الأخطر منها هو الخوف من "المخفي" والمخفي أعظم، ومعه الخوف من نتائج تهور المخططين وسوء تقدير بعضهم، وسوء نيات البعض الآخر، ما يؤدي الى نشوب فوضى عارمة وتدخل قوى اقليمية ودولية في صراع قد يدوم طويلاً وتدوم معه الأزمات والنكبات. وما تسرب أخيراً، وهو مقصود كتمهيد وكبالون اختبار، يناقض التوقعات السابقة بألاّ تدوم الحرب طويلاً، بحيث تتوقف بعد أسبوعين أو شهر على أبعد تقدير بعد غارات جوية وصاروخية على بغداد والمواقع الرئيسة لفترة مماثلة قد تبدأ بعد شهر رمضان، أي بعد السابع من كانون الأول ديسمبر المقبل. هذا السيناريو الأخير يتحدث عن أمور خطيرة تفوق الخيال مثل إخضاع العراق لاحتلال يستمر لفترة غير محددة، ومن خلال حكومة يرأسها جنرال أميركي، حتى يتم تشكل حكومة عراقية جديدة وإقامة نظام ديموقراطي لدولة فيديرالية. ولكن، هل هذا هو حقاً ما تفكر فيه الإدارة الأميركية؟ ومن هو العبقري الذي أقنعها بهذه الخطة؟ أوليس في هذه الإدارة قارئ لتاريخ المنطقة، والعراق بالذات ليحذر من العواقب وصعوبة حكمه وطبيعة شعبه؟ ومن يستطيع ان يضمن القدرة على التحكم في الأوضاع وعدم الغرق في مستنقعات العراق ورماله المتحركة؟ أو أن يضمن عدم لجوء الأكراد الى الانفصال على رغم نفيهم المطلق في حال سنوح الفرصة المواتية؟ أو أن يضمن الرد على هذه الخطوة بتدخل تركي في الشمال يقابله تدخل ايراني في الجنوب... على رغم ما تردد عن الحصول على ضمانات من البلدين بعدم التدخل؟ يتحدث الأميركيون عن أفغانستان كمثال وسابقة؟ ولكن، من يستطيع ان يدعي ان "التجربة" كانت ناجحة وأن الأمن مستتب في أفغانستان الآن وأن الحرب دمرت القاعدة وأنهت طالبان وأقفت موجة العداء لأميركا؟ ومن يستطيع أن يزعم ان أفغانستان باتت موحدة بعد الحرب، مع أننا نعرف جيداً انها تعيش حال انقسام فعلي بين إثنيات وقبائل وطوائف وميليشيات وعصابات تتقاتل وتمهد لحروب لا نهاية لها حتى تفنى البلاد ويموت العباد!! ثم من يضمن أمن العراق إذا عمت الفوضى وسادت أجواء القتل والنهب نتيجة لانعدام الأمن وعدم وجود سلطة مركزية رادعة وجيش يفرض الهيبة لمنع التعرض للممتلكات العامة والخاصة وحماية أرواح المواطنين بعد سنوات من القهر والفقر والجوع والآثار الناجمة عن الحروب والحصار. هذه السيناريوات المفزعة ومعها الملفات المتفجرة لا بد من أن تمتد الى خارج العراق، والى دول الجوار بالذات من حيث تأثيراتها الاقتصادية نتيجة انقطاع التجارة وتوقف سيل النفط أو من حيث مخاطرها الأمنية في حال تدفق طوفان مئات الألوف من اللاجئين. ولم يعد السؤال المسيطر على الأجواء هو: ماذا بعد النظام العراقي... أو ماذا ومَنْ بعد صدام؟ بل هو: ماذا بعد العراق... ومن سيأتي بعده وهل صحيح ان هناك خرائط جديدة للمنطقة ومؤامرات تقسيمية، واستراتيجية مفروضة تستوجب السيطرة المباشرة على الثروات النفطية ومقادير الأمور. ملفات متفجرة كثيرة والمطلوب واحد، إلا ان الملف الأهم والمصيري بعد العراق هو ملف فلسطين ومعه الملفات الرئيسة المتفرعة عنه ومنها القدس والدولة المستقلة والمستوطنات واللاجئون والسلام مع سورية ولبنان، والمياه التي استعجلت اسرائيل بفتح ملفها قبل أوانه من خلال تهديد لبنان وإرهابه لمنعه من جر جزء من مياهه الشرعية في الوزاني لاستخدامها في تزويد القرى والسكان في الجنوب مياه الشرب التي حرموا منها في الماضي. والأمل كبير بأن ينتصر لبنان في معركته هذه حتى يضمن حقوقه المشروعة ويسحب من اسرائيل ورقة التهديد المستمر ويمهد لتقوية موقفه التفاوضي يوم تهدأ العاصفة وتحين ساعة استحقاقات السلام ومفاوضاته الصعبة. أما بالنسبة الى قضية فلسطين، أو الشرق الأوسط ككل، فهناك فريق متفائل يتوقع ألاّ تدوم الحرب طويلاً بحيث يسقط النظام العراقي وتضطر الولاياتالمتحدة الى تقديم ترضية للعرب بالدعوة الى مؤتمر سلام أو بإطلاق مبادرة سلام عملية أسوة بما جرى بعد حرب تحرير الكويت عام 1996 عندما أعلن الرئيس جورج بوش الأب مبادرته السلمية التي عُقد مؤتمر مدريد للسلام على أساسها، مع توقع انفراجات وخطوات عملية في المنطقة. أما الفريق المتشائم فيحذر من تداعيات الحرب الجديدة ومخططات شارون التي لم يبق منها إلا فصولها النهائية بعد تصفية كل مفاعيل اتفاقات أوسلو وضرب السلطة الوطنية الفلسطينية وتدمير البنية التحتية للدولة الفلسطينية المستقلة. ويذهب المتشائمون بعيداً في توقعاتهم مقللين من جدية الدعوات الأميركية لإسرائيل بضبط النفس وعدم استغلال الحرب على العراق، مرددين مخاوف من سيناريو يعدّه شارون، وبحثه مع الرئيس بوش وكبار مساعديه خلال زيارته الأخيرة لواشنطن ويقضي بتوجيه ضربة قاضية للسلطة الفلسطينية خلال الحرب واعادة احتلال المناطق الخاضعة لها وارتكاب مذابح لتنفيذ مخطط "الترانسفير" وتهجير ألوف الفلسطينيين الى لبنان والأردن تمهيداً لتوطين اللاجئين في جنوبالعراق بحسب المعلومات التي كانت تتردد باستمرار في الآونة الأخيرة. ويتخوف المتشائمون أيضاً من أن يقبض شارون ثمن سكوته الموقت بعد انتهاء الحرب أو أن تكون أية دعوة الى مؤتمر سلام مجرد عملية "ضحك على الذقون العربية" وأن تتكرر مسرحية مدريد ليشتري الاسرائيليون الوقت مرة أخرى. بعد كل هذه السيناريوات والملفات المتفجرة لم يبق أمامنا سوى انتظار المجهول. أما من بيده الأمر من العرب، فإنه مطالب بالمسارعة الى تحصين الذات وحماية الرعايا وتبديد المخاوف ومحاولة التنسيق مع إشقائه لدرء ما يمكن من الأخطار. أما النظام العراقي فهو مطالب مرة أخرى بنزع الذرائع والعمل بسرعة لإنقاذ البلاد والعباد وتجنيب العرب والفلسطينيين بالذات نكبة أخرى حتى ولو اضطر الى تقديم تنازلات مؤلمة... وتغليب المصلحة العامة على مصالحه الضيقة... وعليه أن يعترف بمسؤوليته الجزئية، إن لم نقل الكاملة عن المآسي التي حلت بالعراق والعرب... فهو الذي أدخل الدب الى كرم العراق والعرب... وعليه واجب العمل على إخراجه... أو إحراجه. ويا أمان الخائفين! * كاتب وصحافي عربي.