كثيرة هي الأسباب التي تكمن خلف الانتشار الواسع للكتابة الروائية في عالمنا العربي، وفي العالم عموماً. ولكن أحد أبرز هذه الأسباب أن الرواية كانت الفن الوحيد الذي استطاع أن يستوعب أنواع الكتابة الأخرى في ثناياه، وليس أنواع الكتابة الأدبية فقط. كتاب الناقد محمد شاهين الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق أخيراً، والذي حمل عنوان "آفاق الرواية" وعنواناً فرعياً آخر هو "البيئة والمؤثرات"، مثال نموذجي عن المهمة العسيرة للناقد الذي يحرص على أن يقدم في كتابه شيئاً غير الانطباعات العابرة والأفكار المكرورة،. فهو يضم عدداً من الدراسات العميقة لروايات عربية مختارة متسلحاًً بعدّة الناقد الحديث. ينطلق محمد شاهين في قراءته الخاصة للرواية العربية من فهم واضح ومحدد للفن الروائي العربي قائم على أن الرواية العربية "فن حديث لا يتجاوز عمره نصف قرن على الأكثر. وهي مثل المسرحية لا تشكل جزءاً من التراث الأدبي عند العرب" ص 6، معلناً بذلك اختلافه مع عدد من الدارسين الذين يرون أن العرب عرفوا أشكالاً روائية عدة خلال تاريخهم الطويل، ولكن هذه الأشكال بقيت في شكلها البدائي من دون أن تتحول إلى منجز روائي مكتمل. وذلك خلاف ما حصل في أوروبا حيث تحولت أشكال حكائية عدة إلى فن قائم بذاته هو الرواية التي بدأت "تفرض حضورها كجنس أدبي متميز السمات في القرن الثامن عشر" ص6. وعلى رغم ذلك فإن شاهين يقدم لنا دراسة عن "ألف ليلة وليلة" يطبق فيها آليات النقد الأدبي الحديثة الخاصة بالرواية تحديداً، لكنه يعرف تماماً أن "ألف ليلة وليلة" ليست عملاً روائياً، بل هي مجموعة من الحكايات، حتى لو تضمنت هذه الحكايات تقنيات روائية. في هذه الدراسة التي حملت عنوان "ألف ليلة وليلة: إشكالية المتلقي الخصم" يتناول شاهين فكرة "التلقي" التي أصبحت في العملية الروائية أو السردية أو التقنية في شكل عام كما يقول بيت القصيد أو نقطة الانطلاق أو خاتمة المطاف، وذلك انطلاقاً من سؤال: "كيف استطاعت شهرزاد أن تسيطر على الموقف وتبدع نصاً له شكل حديث؟" ص40. وتمثل الإجابة عن هذا السؤال جوهر الدراسة العميقة والممتعة، ويمكن اختصار الإجابة في أنها، أي شهرزاد، بادرت في الليلة الأولى من لقائهما إلى الدخول مع شهريار في لعبة الزمن. فهي حين دخلت على شهريار الذي كان ينهي ليله بضحية كل يوم، استطاعت أن توقف الزمن الخاص به وتدخله في زمن آخر مختلف هو زمن الحكاية. وبإدخاله في الزمن الجديد استطاعت شهرزاد أن تخلق من شهريار متلقياً مشاركاً في نص الحكايات. المشكلة التي كان شهريار يواجهها قبل دخوله زمن الحكايات الجديد هي أن "خياله كان يبدو معطلاً إلا من ذكرى الخيانة الزوجية" ص42، ولكن شهرزاد بدخولها لعبة الزمن أخرجته من زمنه الخاص الذي تهيمن عليه فكرة الخيانة وأدخلته في زمن آخر، وذلك عبر تلك الجملة السحرية "كان يا ما كان"، التي لا ترتبط بزمن محدد بل بزمن مطلق يحتوى الأزمنة كلها، ويرى شاهين أن شهرزاد من خلال هذه الجملة كان في إمكانها أن تستمر في رواية حكاياتها إلى الأبد، وأن إضافة ليلة بعد الليالي الألف هي الدليل الأكيد على ذلك. يلبس المؤلف الذي لعب دور الدارس والباحث في الدراسة السابقة رداء الناقد الحداثي، منتقلاً إلى الرواية العربية بالفهم الذي سبق وحدده، فيختار عدداً منها تحول عبر السنين إلى بعض كلاسيكيات الرواية العربية، ويعيد درسها في ضوء جديد، ويعيد كشف جوانب إبداعية خفية فيها، ويتتبع أحداثها ويفهم شخصياتها تحت ذلك الضوء. الجديد في قراءة شاهين هو أنه أعاد قراءة هذه الروايات العربية في ضوء بعض النماذج من كلاسيكيات الرواية العالمية، ليس لوجه شبه قد يكمن بين الروايتين من حيث الحدث وتطوره أو الموضوع ومعالجته أو الشخصيات وتحولاتها، بل لكشف قيمة أدبية وإبداعية ربما لم تكن اكتشفت في دراسات سابقة. فهذا هو عمل الناقد المبدع الذي يتناول العمل، مثلما هو عمل المؤلف الذي أبدع العمل موضوع البحث. أما العمل الأدبي العالمي الذي تدرس الرواية العربية في ضوئه فهو المرآة العاكسة، وهي مرآة هائلة قادرة على إبراز نقاط القوة والضعف في العمل موضوع الدرس. وهكذا، فمرآة رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم هي "آمال عظام" لتشارلز ديكنز، ومرآة "يوميات سراب عفان" لجبرا إبراهيم جبرا هي "الأحمر والأسود" لستندال، ومرآة "مدن الملح" لعبدالرحمن منيف هي "نوسترومو" لجوزيف كونراد، ومرآة "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني هي كما يعرف الجميع، وكما أعلن غسان كنفاني نفسه هي "الصخب والعنف" لويليام فوكنر. أما رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" للفلسطيني إميل حبيبي التي تناولها شاهين ضمن دراسة له عن أدب حبيبي عموماً، فلم يجد لها مرآة تعكس جوانبها الإبداعية المختلفة. فهي رواية فريدة تجمع أساليب سردية عدة وعلى رأسها الحكاية. استخدم حبيبي هذه الأشكال الكتابية كلها للتعبير عن واقع فريد وعجائبي في الوقت نفسه. فإميل حبيبي ينطلق من واقع لا منطق له ولا مثيل. "فالمرء يمكن أن يكون له بيته ووطنه وأرضه، وإما أن يكون غريباً على الديار والأوطان مهاجراً مسافراً زائراً ضيفاً إلى آخر ذلك. أما أن يكون الاثنين معاً فهذا أمر لا يقبله عقل" ص 108. وهنا تحديداً يكمن تميز حبيبي وفرادته. ولكن شاهين لم يستخدم مرآته في صورة آلية، بل في شكل ديناميكي حفظ للعمل الأدبي العربي جوانبه الإبداعية المتميزة، كما أظهر جوانب أخرى لا تعكسها المرآة مهما كبرت. وفي أحيان أخرى استخدم مرايا صغيرة من الروايات والآداب العالمية ليلقي الضوء على جزئيات عجزت المرآة الكبيرة عن إظهارها. فرواية في عظمة "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح هي أكبر من أن تعكس جوانب عظمتها مرآة واحدة، أو رواية واحدة، فهي في حاجة إلى أكثر من مرآة، وهذا ما فعله شاهين. فقد قرأها في ضوء أكثر من رواية أبرزها بلا شك رواية جوزيف كونراد الشهيرة "قلب الظلام". فالوشائج بين الروايتين أكبر من ألا تلاحظ. لكن المؤلف لا يتوقف عند هذه الوشائج التي قد يكتشفها القارئ العادي، بل يذهب بعيداً لكشف جوانب أعمق مثل الجانب "الفاوستي" في شخصية مصطفى سعيد بما في شخصيته من ذكاء ومثالية وحب للمغامرة والمعرفة. وهنا يطلق شاهين حكماً يمكن أن نختلف حوله. فهو يستعير من عالم النفس الألماني كارل غوستاف يونغ قولاً يرى فيه أن فاوست لا يمكن إلا أن يكون من إبداع كاتب ألماني، ليخرج بفكرة أن "مصطفى سعيد لا يمكن أن يكون من إبداع كاتب غير عربي". وفي رأيي أن في مصطفى سعيد من السمات الإفريقية بقدر ما فيه من السمات العربية، وأن الطيب صالح نفسه ينتمي إلى تراث الرواية العربية بقدر ما ينتمي إلى تراث الرواية الإفريقية الحديثة، وأن فيه من إبداع نغوغي وأتشيبي بقدر ما فيه من إبداع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. ويقرأ شاهين "عودة الروح" في ضوء "آمال عظام"، ولكنه يتوقف عند مشهد في رواية الحكيم يشبه إلى حد كبير مشهداً في رواية إي إم فورستر "رحلة إلى الهند"، ويقع على أوجه شبه تستحق المقارنة بين رواية الحكيم ورواية "صورة الفنان شابا" لجيمس جويس. ويقرأ رواية عبدالرحمن منيف "مدن الملح" في ضوء رواية "نوسترومو" لجوزيف كونراد منطلقاً من أن الروايتين تتناولان "تأثير المادة الخام الثمينة المستخرجة من الأرض في مستخرجها"، ص 126، ومن أنه - شاهين - لا يعرف "روائياً غربياً تمكن مقارنة عبدالرحمن منيف به أكثر من كونراد" ص 126. ولكنه يركز على الفارق بين الكاتبين الذي جعل من كونراد مؤلفاً ذا قدرة تنبؤية فذة مكنته من أن يتنبأ في روايته المذكورة والقرن العشرون في بدايته كتبت نوسترومو في 1903، بأن "أميركا ستكون صاحبة ذلك النظام العالمي الذي يعطيها السيادة على المعمورة" ص 126. وفي المقابل فإن منيف على رغم أنه "كاتب قدير متمكن من فن الرواية" ص 157 فإنه قدم "شخصيات هزيلة في أصلها ليس لها من جذور، تعيش في مدن أساسها أصلاً قابل للذوبان، فهي غير نامية" وأنه كان قادراً على أن "يصنع صورة من الواقع تتعدى حدودها الرمز المحدود لمدن الملح". ومن أمتع الدراسات التي احتواها الكتاب تلك التي تناول فيها المؤلف رواية غسان كنفاني الشهيرة "ما تبقى لكم". ففي ضوء جديد يلقيه المؤلف على الرواية نكتشف وشائج أخرى غير تلك التي تربط بين روايتي كنفاني وفوكنر الشهيرتين. فإذا كان فوكنر استقى عنوان روايته "الصخب والعنف" من مونالوغ "ماكبث" الشهير في آخر أيامه بعدما انفض من حوله الأعوان وبعد وفاة زوجته، وبعدما لم يبق له شيء سوى النهاية، فإن رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" التي كتبها متأثراً بفوكنر، تجد صدى لها في مقطع من قصيدة لإزرا باوند قالها بعد أن أسره الحلفاء في العام 1945 واحتجزوه في أجواء غير إنسانية، يقول فيها: ما تحبونه حقاً هو ما تبقى لكم. البقية تذهب زبداً/ لا أحد يسلبكم ما تحبونه حقاً/ ما تحبونه حقاً هو إرثكم الحقيقي". انطلاقاً من هذه العلاقة التي يوجدها/ يكتشفها يلقي شاهين ضوءاً جديداً على رواية غسان كنفاني، ويدرسها من زاوية جديدة تماماً. وأهم ما يكشفه شاهين هنا هو أنه إذا كان هناك تشابه من حيث الشكل بين "الصخب والعنف" و"ما تبقى لكم"، فإن هناك فارقاً جوهرياً بينهما، ذلك هو الفارق بين التشاؤم الذي يصل حد العبث في "الصخب والعنف"، وهو تشاؤم ناتج ليس من عبث فوكنر فقط، بل من المشهد القاسي الذي يقول فيه ماكبث مونولوغه الشهير الذي يشير إلى مجانية كل الدم الذي أراقه، وإلى عبث ما آلت إليه حاله، وبين حال التفاؤل في "ما تبقى لكم"، إذ تبقى في النهاية أشياء عدة لشخصيات كنفاني، مهما كانت قيمتها ضئيلة.