حينما كتب ويليام - وهو في الثلاثين من عمره - «أكثر قصة مروعة يمكن تخيلها» من أجل الحصول على بعض المال لتوفير نفقاته المتواضعة، رفضت طباعتها كل دور النشر الكثيرة التي طرق بابها؛ لأن «لا أحد سيقرأ مثل هذه الرواية البائسة»، غير أن ألفريد هاركورت صاحب دار هاركورت للنشر كان «المغفل الوحيد في نيويورك الذي قام بنشرها» لتكون بعد عقدين من الزمن الرواية الأعظم للكاتب الأميركي الشهير ويليام فوكنر، والسبب في حصوله على جائزة نوبل في الأدب، وما تزال هذه الرواية الخالدة «الصخب والعنف» تحقق أعلى المبيعات وتُدرّس في الجامعات الأميركية والعالمية باعتبارها واحدة من أهم الروايات الصادرة في القرن العشرين، بل من أهم الأعمال الأدبية على مر العصور. يُعتبر الروائي والشاعر الأميركي ويليام فوكنر «أعظم الروائيين الأميركيين على الإطلاق» كما وصفه الناقد مارتن سيمور سميث، وأحد المساهمين البارزين في تطور الرواية العالمية، وصاحب مدرسة فريدة في كتابة الرواية تأثر بها الكثير من الروائيين الكبار على مستوى العالم كالروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1982 والذي اعترف بتأثير فوكنر القوي عليه «إذا كانت رواياتي جيدة فذلك لسبب واحد هو أنني حاولت أن أتجاوز فوكنر في كتابة ما هو مستحيل لتقديم عوالم وانفعالات لا يمكن لغير فوكنر أن يرسمها، ولكنني لم أستطع تجاوزه أبداً إلا أنني اقتربت منه»، كما تأثرت به الروائية الأميركية توني موريسون الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب للعام 1993، وكذلك الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل في الأدب للعام 2010 الذي قال إن فوكنر «اخترع نظاماً عالمياً للرواية». ولد ويليام فوكنر في نيو ألباني في ولاية ميسيسيبي في العام 1897 لأسرة أميركية فقيرة وعاش طفولة بائسة وامتهن العديد من الأعمال الشاقة ولم ينتظم في دراسته. منذ طفولته المبكرة أظهر فوكنر عشقاً وميلاً للقراءة والمطالعة وكتابة الشعر والقصص، وكان ديوان «الظبي المرمري» الذي صدر العام 1924 هو عمله الأدبي الأول، وبعد عامين أنجز روايته الأولى «رواتب الجنود»، ثم تتابعت رواياته وقصصه القصيرة، حيث كتب خلال ثلاثة عقود ونصف العقد 19 رواية وثمانين قصة قصيرة وديوانين شعريين وعدداً كبيراً من المقالات، وتُمثل روايته الشهيرة «الصخب والعنف» جوهر مشروعه الفكري الذي ناضل من أجله كثيراً. ويُعد فوكنر كاتباً عبقرياً من الطراز الفريد، وقد تم تتويج الاعتراف بقيمته كروائي ملهم في العام 1949 حينما مُنح جائزة نوبل في الأدب نظير «مساهمته القوية والفريدة في تطور الرواية الأميركية الحديثة»، وقد تبرع فوكنر بمبلغ الجائزة لإنشاء صندوق لتشجيع كتّاب الرواية والذي تحول فيما بعد إلى جائزة فوكنر للرواية، وقد ألقى فوكنر كلمة من ثلاث دقائق بعد تسلمه الجائزة عُدّت نصاً أدبياً ثميناً يُضاف إلى أعماله الأدبية الخالدة وقد جاء فيها: «إن مأساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم الكون، وقد طال أمده حتى ألفناه فأمسينا قادرين على تحمله، لم تعد هناك مشكلات تتعلق بالروح، وليس لدى الفرد منا سوى سؤال واحد: متى أتدمر؟». نال فوكنر الكثير من الجوائز والألقاب منها جائزة نوبل في الأدب للعام 1949، وجائزتا بوليتزر العام 1955 عن رواية «حكاية خرافية» والعام 1963 عن رواية «اللصوص»، وحصل على وسام الشرف الفرنسي برتبة فارس في العام 1951، وصدر طابع بريد أميركي عليه صورته في العام 1987 وهو الذي سبق له أن عمل لفترة قصيرة جداً كمسؤول لمكتب بريد جامعة ميسيسيبي في العام 1923، واحتلت روايته الشهيرة «الصخب والعنف» في العام 1998 المرتبة السادسة في قائمة Modern Library لأفضل 100 رواية في القرن العشرين. تُوفي ويليام فوكنر في العام 1962 عن 64 عاماً إثر نوبة قلبية لم تمهله لتسلم جائزة بوليتزر الثانية إلا أنه حصل على جائزته العظيمة التي لا تُقدر بثمن ولا تُحد بزمن من القراء والروائيين والنقاد وهي اتفاقهم التام على أنه أعظم روائي في التاريخ. لقد استطاع فوكنر أن يصنع من رحلته الشاقة التي مرت بمحطات الفقر والبؤس والتشرد والإهمال «حكاية حقيقية»، ولم تكن مقاطعة Yoknapatawpha التي كانت مكاناً ثابتاً لأغلب رواياته سوى خيال واقعي يستمد تفاصيله من تاريخ الجنوب الأميركي النابض بدفء المشاعر وروح النكتة وعشق الحياة رغم مرارة العبودية وألم العنصرية والظروف المأساوية، فتحولت قصة ذلك الشاب النحيل الذي كان يكره الالتزام ولم ينتظم في دراسته ومُنع من دخول الجيش بسبب وضعه الصحي وقصر قامته وامتهن العديد من الأعمال الوضيعة والشاقة، إلى رواية «صاخبة» كتبها روائي استثنائي لن يتكرر أبداً. يقول ويليام فوكنر: «لن تستطيع السباحة لآفاق جديدة، حتى تصبح شجاعاً كفاية ليختفي الشاطئ من أمام ناظريك». Your browser does not support the video tag.