قطعة من التفاحة الأصلية ما زالت عالقة في وسط حلقي. * برجان أطول من برج بابل انهارا تماماً مثل تماثيل بوذا الحجر في باميان. * في الوادي، أمام النزل، كانت تربض جياد في حقل، رؤوسها مرفوعة، لم تكن مستيقظة ولا نائمة، مثل حيوانات متوحشة انقضى جوعها، مثل حيوانات متوحشة هجرها توحشها، مثل ذكريات حيوانات متوحشة كبيرة محاطة بأسلاك حديد شائكة. أحد الجياد راح يحمحم عندما اقتربت، نهض مترنحاً على العشب مقبلاً نحوي بحركة خرقاء، غير متوازنة ولكن على رشاقة باهرة، كما لو أنّه ينهض من نوم ألف عام. كتب أبيقور: كلّ امرئ يخرج من الحياة كما لو أنّه ولد للحين. * الغيمات السود في السماء كانت كأنّها تتمزّق، القبة الزرقاء لاحت فجأة في حالٍ من الانقشاع يصعب عليّ أن أصفها. كانت الزرقة ندية ولامعة في عمق السماء السوداء. * قلت لنفسي: "سأمضي لأرى. سأمضي لأرى ما أجهله، شفتاي سترتجفان، سأتألم. لمَ لا؟". * حيث الجسد ينتصب أو ينفغر. ولودون نحن. عشنا قبل أن نولد. وكان أن خفق قلبنا قبل أن نتنفّس. آذاننا سمعت قبل أن تكتشف شفاهنا هبوب الهواء. لقد سبحنا في الماء القاتم قبل أن تنفتح جفوننا، قبل أن تنبهر عيوننا ثم تعمى، ثم ترى، قبل أن يجفّ حلقنا ثم يختنق لحظة، ثم يشرع في التهام الهواء، ثم في محاكاة كلمات بدا أداؤها مطمئناً. * كلّما شاخ العالم، ينأى العالم في الزمن. كلّما نأى الماضي في الزمن، بدا فقده فادحاً. كلما بدا الفقد فادحاً كان الزاهد، الذي يحفظ في قلبه ذكراه الغامضة، بلا عزاء. كلما تفاقم الفقد، يصبح الحنين أشدّ وقعاً. كلّما اتسع الحنين يصبح القلق أثقل. كلما ثقل القلق في القلب يكظم الحلق. كلّما كظم الحلق ترتقي مرونة الصوت وهو الفجر الأول والشمس الأولى. * لو كان شيء ما أتى من عدم، كنا لنرى كائناتٍ راعبةً تنبثق باستمرار من البحر أو من السماء، نسوةً يصحن، محاربين خرساً، دباباتٍ، تنانين، عصافير وأفاعي. إننا نراها. إننا رأينا فجأة طائرات تنبثق من السماء تتجّه نحو أبراج، نحو رموز، نحو كنوز. * التجربة الأكثر أَذيةً التي عرفها البشر ليست الشرّ. ولا المال. ولا اللذّة المذهلة والنشوات المختلفة التي تجلبها. ولا السلطة وكلّ الاضطرابات التي تسبّبها. ولا التسامي وكلّ المشاعر الوهمية التي يوقظها. إنّها الموت. * أمّا الوجه البشري، فالعبودية، المسيحية، الخنادق، الغازات، الفاشيات، الإبعادات الكثيفة، الحروب المعولمة، الديكتاتوريات الشيوعية، الامبريالية الديموقراطية دمّرت منه الشكل. لم تبقَ من بشرية باعثة للهذيان. هناك تيهٌ مدهش، وحيد الوجهة، أخرق، عاصف ورهيب. * الحجر طين متجمّد. المغارة هي من الطين المتجمّد. إنني لا أبحث عن الحجر ولا عن الجمودة. حصان أبيض ليس حصاناً. إنني أبحث عن الطين. وليُفهم هذا: صومعتي ليست متينة. لا يمكن بناء شيء على ما أكتب. اليد التي تكتب كمثل اليد التي جنّنتها العاصفة. ينبغي رمي الحمولة في البحر عندما ينساب المركب. * عرفنا الحياة قبل أن تبهر الشمس عيوننا وسمعنا فيها شيئاً لا يمكن أن يُرى أو يُقرأ. * في اليابان القديم كان المحفل يُسمّى "علبة الأشباح". * الكتب التي يصيبها انعكاس الشمس التي تجهلها هي أشدّ صمتاً أيضاً من الكتب الأدبية الصرف. إنّها كاسم امرأة تحبّها ولا يمكنك ان تبوح لأنّ أولادها سيعلمون من هو أبوهم الحقيقي، والذي يجهله هو نفسه. * لا يمكن المرء أن يكون في الحين عينه حارس سجن ورجلاً هارباً. * كنت أمشي في الشارع، خفيض الجبين، الرأس صاخب بأفكار كثيفة باطلة. فجأة أحسست أنّ أحداً يدفعني بعنف من ظهري. فوقعت الى الأمام بسرعة حتى أنني لم يكن لديّ وقت لأمدّ يديّ الى الأرض. وقعت للفور على الرأس. شعرت بوجود أحد شديد القرب منّي. رفعت وجهي. حدّقت فيه. شعرت أنّ أسناني تنزف. كان شاباً بالغ الجمال، شاحباً، يرتدي ما يشبه الجبّة، ويحمل في يده رمّانة صغيرة صفراء، كان يمدّها تحت عينيّ. أردت أن ألمس ذقني الذي يؤلمني ولكنّي تلقيت في الحال ضربة ركبة في فمي جعلتني أطلق صرخة صغيرة. كان ينتعل حذاء "باسكيت" مرتفع. لا تتحرك! قال لي بهدوء. لم أكن أتحرّك، كنت أبكي ألماً. قرّب يده، أخذ محفظتي من الجيب الداخلي. أخذ المال الذي فيها ورماها قرب وجهي. وذهب من غير أن يركض. رأيته: كان يذهب من غير أن يركض. حاولت أن أنهض على يديّ وركبتيّ. لكنني فجأة شعرت مرّة أخرى بيدين على ظهري. أصبت باحباط. كانت يدان تمسكان بي. التفتُّ: كانت امرأة عجوزاً تحاول أن تجعلني أقف. أنهضتني. وسألت في الوقت نفسه: - أتريد ان أبلغ شرطة النجدة؟ - لا. همست، مذعوراً للفور. - لماذا؟ سألت المرأة المسنّة. في حلمي كنت أبكي. قلت: - لا أريد أن أساق الى درانسي. ترجمة: عبده وازن