لقد استُلهمت فكرة تحرير رسالة من الراهب جان من حكاية كان سليمان قد سمعها في اوساط عرب اسبانيا. بحّار، يدعى سندباد، وعاش في زمن الخليفة هارون الرشيد، قادته أسفاره، ذات يوم، الى إحدى الجزر الواقعة عند خط الاعتدال، ما يعني ان الليل فيها، كما النهار، يدوم اثنتي عشرة ساعة. روى سندباد انه صادف، على الجزيرة، عدداً غفيراً من الهنود، فلا بد إذاً ان الجزيرة كانت قريبة من الهند. اقتاده الهنود للمثول امام امير سرنديب. وكان ذاك الأمير لا يتنقّل إلا محمولاً على عرش وُضع على ظهر فيل، علوّه، ثماني أذرع، وعلى الجانبين يواكبه صفان من الحاشية والوزراء. يتقدمه بشير حاملاً رمحه الذهب، ويتبعه آخر حاملاً كتلة من الذهب جُعلت قمّتها زمردة. وعندما يترجل عن عرشه المحمول ليتابع طريقه على صهوة جواد، كان يتبعه ألف فارس مكسوين بالحرير والديباج. ويتقمده بشير آخر منادياً ان الوافد ملك لم يحظ سليمان بمثل تاجه. استقبل الأمير سليمان واستفسر منه مطولاً عن المملكة التي قدم منها. وفي آخر الأمر طلب منه ان يحمل معه لهارون الرشيد رسالة مدونة على رق من جلد الخروف بحبر مجلوب عبر البحر، ونصها التالي: "إني ابعث إليك بتحية السلام، أنا أمير سرنديب، الذي يتقدم موكبه ألف من الأفيال، وفي قصره جُعلت الشحارير من الجواهر. إننا نعتبرك أخاً ونرجو ان نتلقى منك جواباً. كما نرجو ان تتقبل منا هذه الهدية المتواضعة". وكانت الهدية المتواضعة عبارة عن كأسٍ من الياقوت الأحمر، وجوفها مرصّع باللآلئ. تلك الكأس والرسالة قد زادتا اسم هارون الرشيد العظيم هيبة ووقعاً في عالم المشرقيين. "من المؤكد ان بحّارك هذا كان في مملكة الراهب جان، قال باودولينو، سوى ان العرب يطلقون عليه اسماً مغايراً. لكنه كذب حين قال إن الراهب قد بعث برسائل وهدايا للخليفة، لأن جان مسيحي، لا بل هو نسطوري، وإذا كان ينبغي له ان يبعث برسالة لكان بعث بها الإمبراطور فردريك. - إذاً هيا، "لنكتب هذه الرسالة"، قال الشاعر. خلال سعيهم وراء اي خبر من شأنه ان يسهم في بناء مملكة الراهب، التقى اصحابنا كيوت. وكان كيوت هذا متحدراً من منطقة شامباني، وقد عاد لتوه من رحلة الى بريتاني، وما زالت تلهب مخيلته قصص الفرسان التائهين والمجوس والجنيات والرقى المؤذية، التي يرويها اهل تلك البقاع في لياليهم الحالكة حول النار. وما كاد باودولينو ان ينبس بكلمة حول عجائب قصر الراهب الجان، حتى صاح قائلاً: "لقد سمعت في بريتاني عن قصر مثل هذا، او ما شابهه! فهناك يحفظ "الغرادال"! - وما أدراك انت بالغرادال؟ سأله بورون وقد بدت عليه بغتة سمات الارتياب، كأن كيوت تدخّل فيما لا يعنيه. - ما أدراك أنت بها؟ اجابه كيوت بقدر مماثل من الريبة. -الحاصل، قال باودولينو، انني اراكما ضنينين بالغرادال هذه. فما هي بالضبط؟ ففي حدود علمي ان الغرادال هي ضرب من القصْعَة. - القصعة، القصعة، ردد بورون قائلاً ومبتسماً بشيء من الحرج: "الأحرى أنها كأس". ثم اضاف كأنه عزم اخيراً على البوح بسرّه: "انني اعجبُ حقاً إذ يتضح لي أنكم لا تعلمون شيئاً عنها. إنها أثمن ذخائر المسيحية قاطبة، الكأس التي فيها كرّس المسيح النبيذ خلال العشاء الأخير، والتي بها ايضاً تلقّف يوسف الرامة الدمَ الذي سال من جنب المصلوب. البعض يزعم ان اسم هذه الكأس هو "الغرال المقدس"، والبعض يزعم ان الاسم هو "سنغريال"، اي الدم الملكي، لأن من يمتلكها ينتمي الى سلالة الفرسان المختارين من جبلّة داود وسيدنا المسيح. - أهو "غرادال" أم "غرال"؟ سأل الشاعر وقد لفته من الحديث ذكر هذا الشيء الذي من شأنه ان يضفي على ماكله بعض السلطان. - لا أحد يدري يقيناً، قال كيوت. فهناك ايضاً من يسمونها "غرازال"، كما يسميها سواهم "غرالتز". ليس ثابتاً انها كأس. ومن رآها لا يذكر شكلها، لكنه يعلم انها شيء حُبي بقدرات خارقة. - ومن رآها؟ سأل الشاعر. - بالتأكيد الفرسان الذين حرسوها في بروسيلياند. ولكن هم ايضاً لم يعثر احد على اثر منهم، وأنا، شخصياً لم ألتق سوى اناس حدثوني عنها. - ربما كان من الأجدر ان يُحكى عنها القليل وأن يُسعى الى مزيد من المعلومات عنها، قال بورون. لقد ذهب هذا الفتى لتوه الى بريتاني وما ان سمع شيئاً عنها حتى راح يرمقني بنظرة غريبة كأنني أسعى لأن أسلبه ما لا يمتلكه. والجميع في هذا سواء. ما ان يؤتى على ذكر الغرادال حتى يظن المرء انه وحده من سيجدها. اما انا فقد مكثت في بريتاني وجزر عبر البحار خمس سنوات، من دون ان أنبس بكلمة، فقد سعيت للعثورِ... - وهل وجدتها؟ سأل كيوت. - ليست المشكلة في العثور على الغرادال، بل الفرسان الذين كانوا يعرفون اين هي. لقد جبتُ البقاع، وسألت، وأبداً لم أعثر عليهم. فالأرجح أنني لم أكن من بين المختارين. وهنا إنني منكب الآب على البحث بين الرقوق لعلّي اعثر على أثر غفلت عنه اثناء تجوالي في تلك الغابات... - ولكن ما جدوى الحديث عن الغرادال، قال باودولينو، سواء كانت في بريتاني او في تلك الجزر فلا منفعة لنا بها لأنّ لا شأن لها بالراهب جان. لا، قال كيوت، لأن المكان الذي يوجد فيه القصر والشيء الذي يحميه لم يتضح في يوم من الأيام، ومن القصص الكثيرة التي سمعها، هناك قصة تزعم بأن احد اولئك الفرسان، ويدعى فايرفيز، كان قد عثر عليها ثم اعطاها لابنه وهو راهب سيصبح ملك الهند. - ترّهات، قال بورون، أتراني بحثتُ لسنوات طويلة في المكان الغلط؟ من حكى لك قصة فايرفيز هذا؟ - كل قصة قد تكون صحيحة، قال الشاعر، ومن يدري ربما تعثر على غرادالك هذا لو اتبعت قصة كيوت. غير ان ما يعنينا الآن ليس ان نجده بل التثبث من انه يستحق العناء الذي يقتضيه ايجاد صلة ما بينه وبين الراهب جان. يا عزيزي بورون، نحن لا نبحث عن شيء، بل عن شخص يستطيع ان يتحدث عن هذا الشيء. ثم مخاطباً باودولينو أردف قائلاً: "فكّر قليلاً! الراهب جان يمتلك الغرادال، ومن هنا تنبع رفعة مكانته، وبإمكانه ان ينقل هذه الرفعة الى فردريك بمنحه الغرادال كهبة! - وقد تكون هي نفسها كأس الياقوت الأحمر التي بعث بها امير سرنديب الى هارون الرشيد، قال سليمان مقترحاً وقد صدر صوته، لفرط حماسته، كالهسيسي من جانب فمه الخالي من الأسنان. المسلمون يجلّون يسوع بصفته نبياً عظيماً، فلِم لا يكونون هم الذين عثروا على الكأس، ومن ثم اعطاه هارون بدوره الى الراهب... - أحسنتَ، قال الشاعر. وتكون الكأس بمثابة نبوءة باسترداد ما استولى عليه المسلمون زوراً وغصباً. إنها لعمري افضل من اورشليم! قرّ رأيهم على السعي في هذا الاتجاه. تمكّن عبدول، تحت جنح الظلام، ان يختلسَ من ديوان دير سان فيكتور رقّاً فاخراً لم يمسح من قبل. ولم يبق سوى الختم لكي يبدو انه رسالة من ملك. وراح باودولينو، في تلك الغرفة التي تتسع في الأصل لاثنين وباتت تؤوي ستة اشخاص جلسوا جميعاً الى طاولة خفيضة، يملي نصّ الرسالة مغمض العينين كأنه يملي بما يمليه عليه الوحي. وكان عبدول يدوّن لأن خطه الذي تمرّس عليه في ممالك عبر البحار المسيحية، يُذكّر بخط مشرقي يخطّ حروفاً لاتينية. وقبل الشروع في التدوين كان اقترح على رفاقه ان يتجرعوا ما تبقى في القارورة من عسل اخضر لكي يؤتوا الإلهام في اللحظة الملائمة، لكنّ باودولينو اعترض على اقتراحه هذا بدعوى حاجتهم الليلة الى الامتناع عن كل ما يعكّر صفو الذهن. لكن سرعان ما استوقفهم ميلهم الى الاعتقاد بأن الراهب جان كان ليكتب بلغته الآدمية، او، على الأقل، باليونانية، هذا قبل ان يخلصوا الى ان ملكاً كالراهب جان لا بد ان له معاونين يجيدون كل لغة، وأنه بدافع الاحترام لا بد ان يكتب لفردريك باللاتينية. هذا فضلاً عن ان الرسالة ينبغي ان تدهش وتقنع البابا والأمراء المسيحيين الآخرين، لذا ينبغي ان تكتب بلغة يفهمونها. وعلى هذا شرعوا في الكتابة .... "مهلاً، قال عبدول، قد تكون تلك هي اللحظة الملائمة التي يبعث فيها الراهب جان بالغرادال الى فردريك! - اجل، قال باودولينو، غير ان هذين المعتوهين، بورون وكيوت، لم يتفقا بعد على رأي في هذا الشأن! - لقد سمعا كثيراً من الروايات، وشهدا الكثير من الأحداث، فربما كانا لا يذكران شيئاً عنها. ولهذا السبب كنت اقترحت العسل: يجب ان يتناولا ما يعينهما على إطلاق افكارهما". ربما كان على باودولينو الذي يملي وعبدول الذي يدون ان يكتفيا بالنبيذ، ولكن من الضير في استثارة مخيلة الشهود او مصادر الوحي بقليل من العسل الأخضر. هكذا لم تمض هنيهات معدودة إلا وصار بورون وكيوت إذ خبلته احاسيسه المستجدة والشاعر الذي سبق له ان ذاق طعم العسل، جالسين على الأرض، وقد نقشت على وجوههم ابتسامة ذهول، مستغرقين في احاديث هاذية على غرار ما كان يهذي به اسرى علاء الدين. "آه بلى، كان كيوت يقول، هناك صالة فسيحة الأرجاء، ومشاعل تنيرها بإضاءة لا يمكن لأي مخيلة ان تأتي بمثيلها. يظهر خادم وبيده حربة هي من البياض حيث تبرق بانعكاس نيران الموقد عليها. من سن الحربة تنبثق قطرة دم تسيل على يد الخادم... ثم يصل خادمان آخران حاملين شمعدانين من الذهب المنقوش وفي كل منهما تلمع عشر شموع على الأقل. الخدم وسيمون... وإذا بصبية تطل حاملة الغرادال، فيغمر الصالة نور باهر... ويشحب ضياء الشموع كما يشحب القمر وتشحب النجوم عندما تشرق الشمس. الغرادال مصنوعة من الذهب الخالص، وبها، مرصعة، أثمن الأحجار الكريمة، وأبهى ما يمكن ان يوجد منها ارضاً وبحراً... الآن تدخل صبية اخرى حاملة صحيفة من فضة... - وما شكل هذه الغرادال اللعينة؟ صاح الشاعر قائلاً. - لا أدري، إنني لا أبصر إلا نوراً... - أنت لا تبصر إلا نوراً، قال بورون عندئذ، اما انا فأرى اشياء اخرى... مشاعل تنير الصالة، بلى، ولكن يسمع الآن دوي رعد، زلزلة مرعبة، كأنما القصر يتداعى. تحل ظلمة غامرة... لا، أشعة شمس تنير الآن القصر سبعة اضعاف. اواه. ها هي الغرادال المغطاة بنسيج من القطيفة ابيض تدخل، وعند دخولها تغشى البلاط كل عطور توابل الأرض. وفيما الغرادال تدور حول المائدة يرى الفرسان اطباقهم وقد امتلأت بكل ما يشتهونه من طيبات الأرض... * تصدر رواية "باودولينو" للكاتب الإيطالي امبرتو ايكو قريباً في ترجمة بسام حجّار عن المركز الثقافي العربي بيروت - الدار البيضاء.