قبل عقود من ظهور الابطال الوجوديين في روايات القرن العشرين التي تحمل تواقيع أساطين هذا النوع من الكتابة الروائية من جان - بول سارتر الى البرتو مورافيا مروراً بألبير كامو، كان الكاتب "الدون جوان" الفرنسي الشهير ألفريد دي موسيه، قد فاجأ قراء زمنه، في حوالي العام 1833، بشخصية بدت في ذلك الحين رائدة وفريدة من نوعها: شخصية يمكن اعتبارها الرحم الشرعي الذي ولد منه المتمردون الرومانسيون ذوو المصائر المأسوية من امثال بطل "الغريب" و"الغثيان"، و"السأم". هذه الشخصية هي "رولا" بطل القصيدة التي تحمل العنوان نفسه، والتي تلقاها القراء بلهفة حين ظهورها مؤمنين على الفور مزيداً من الشهرة والمكانة لكاتبها دي موسيه الذي كان في ذلك الحين بالكاد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره. صحيح ان دي موسيه كان قد أصاب بعض الشهرة في عدد من أعماله التي كانت صدرت قبل ذلك، لكن "رولا" القصيدة وطدت تلك الشهرة، خصوصاً أن "رولا" الشخصية، وبطل القصيدة، أتى في الوقت عينه مزيجاً من شخصيات اخرى ملأت صفحات اعمال أخرى للكاتب نفسه، مثل شخصية فرانتز وحسن في "مشهد على مقعد" واوكتاف في "اعترافات فتى العصر". رولا هذا كما تقدمه القصيدة منذ سطورها الاولى، شاب في التاسعة عشرة من عمره، وجد نفسه سيداً على ثروة طائلة بعض الشيء.. فلم يجد أمامه إلا أن يبذر تلك الثروة خلال عدد ضئيل جداً من السنوات، عبر حياة لهو وفوضى تذكر بحياة ابطال "الدولتشي فيتا" في الفيلم الايطالي فلليني الشهير الذي حمل الاسم نفسه. غير أن هذه السعادة التي يمكن لمثل هذه الحياة أن تمنحها لصاحبها، ليست في الحقيقة سوى سعادة وهمية واهية، من هنا حين يكون رولا قد أنفق آخر قرش من ثروته، على ملذات عابرة، ووسط مناخ من الفوضى العارمة، لا يعود أمامه إلا أن يقتل نفسه، تماما كما كان سبق له أن وعد. فهو قال لمن حوله ذات مرة إنه ما ان ينتهي من إنفاق هذا المال التافه حتى يكف عن ان يجد أي مبرر حقيقي للبقاء. وفيما كان المحيطون به يعتقدون أنه مازح في ما يقول لا محالة، يقدم هو على قتل نفسه كفعل خلاص أخير. والفريد دي موسيه، على عكس ما يمكن لنا أن نتوقع، لا يوجه اية إدانة لبطله بسبب ما يفعل. بل أنه يبرر هذا كله، ويصفه لنا بأنه "ممتشق القامة، مخلص، رائع، سريع البديهة"، وهو - مثله في هذا مثل شخصية حسن في نص دي موسيه "نامونا" - يحمل في اعمق اعماقه، وعلى رغم حياة اللهو والفوضى التي يعيشها "حلم النقاء المطلق"، ذلك الحلم الذي يجعل منه "ساذجاً سذاجة الطفولة". والواقع أن القارئ إذ يتعمق، في نهاية الأمر، داخل شخصية رولا هذا، سيجد نفسه في مواجهة شخصية الكاتب، ذلك ان رولا، وإن شابه شخصيات مستقاة من نصوص دي موسيه، ليس في حقيقة أمره سوى الأنا الآخر للكاتب. ونحن اذا تبحرنا في كيف صارت عليه حياة ألفريد دي موسيه بعد انجازه كتابة "رولا" وكيف قامت علاقته الكأداء بجورج صاند، الكاتبة الشهيرة والمرأة الساحرة، سنجد أن انزلاقه في تلك العلاقة مع صاند، تشبه تماماً فعل الهبوط الى الجحيم الذي يمارسه بطل "رولا". ومن هنا يرى كثر من دارسي هذا العمل، ومن كاتبي سيرة دي موسيه في شكل عام، ان "الجوهري في هذه القصيدة انما يكمن في ضروب اللغة المسهبة التي يقرّ فيها الشاعر بما في نفسه، وقد بدا عليه انه - في الحقيقة - انما يتحدث عن رولا لا عنه هو ذاته". ودي موسيه حين يفعل هذا يفعله بحس حقيقي وصدق خاليين من اية نزعة خيلائية من تلك التي كان اشتهر بها في كتاباته الاخرى. وهذا ما جعل بعض الباحثين يقول: "إن هذا كله ليس سوى التعبير الحي عن ازدواجية لا بد من ملاحظتها. اذ في مواجهة رولا الخارجي، الضائع في لهوه وفسقه، كما يقدمه لنا النص، لدنيا الآخر: دي موسيه نفسه وقد استكان الى جوانيته ووقف بيننا يحتج، ويرفع حمى ضروب حنينه الى النقاء الضائع" لكن هذا الجواني المعترف عبر لغة صافية جزلة لا يفوته أن يلقي بمسؤولية اهوائه واخطائه بعيداً عنه... على المجتمع وعلى الزمن نفسهما. وفي هذه النقطة الاخيرة يكمن على الأرجح، سر ذلك النجاح الكبير الذي حققته قصيدة "رولا" ما أن أطلت على القراء منشورة للمرة الاولى في أحد أعداد مجلة "مجلة العالمين". فالواقع ان القراء، ما ان ادركوا هذا البعد فيها، أي ما أن اكتشفوا أمامهم كاتباً شاباً وجودياً، يلقي اللوم على المجتع وعلى العصر، بدل القائه على نفسه وعلى المفاهيم الكبرى، حتى أدركوا انهم عثروا على ضالتهم المنشودة، فأعطوا "رولا" نجاحاً ما بعده من نجاح، على رغم أن في إمكاننا اليوم ان نصنفها بين اعمال الفريد دي موسيه الثانوية: لا بين اعماله الكبرى. عندما كتب الفريد دي موسيه "رولا"، كان في الثالثة والعشرين فهو، المولود، في باريس في العام 1810، كان قد دخل وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره بين افراد الحلقة المحيطة بزعيم الادب والرومانسية في ذلك العصر فيكتور هوغو. وفي العام 1830 نراه ينشر "حكايات اسبانيا وايطاليا" وهي عبارة عن مجموعة حكايات رومانسية لا يخلو بعضها من سذاجة، وفي العام 1830 حاول الدنو من المسرح للمرة الاولى في مسرحية "الليلة الفينيسية" ففشل، لذلك واصل كتابة المسرحيات من دون ان يسعى الى نقلهاالى الخشبة، وبين العام 1833 والعام 1835، حدث انقلاب في حياته من جراء علاقته بالكاتبة جورج صاند، تلك العلاقة التي يروي لنا تفاصيلها في كتابه الاشهر "اعترافات فتى العصر" ثم - بطريقة أقل واقعية في "قصة القبرة البيضاء" 1842. وفي العام 1852 نراه يصبح عضواً في الاكاديمية الفرنسية ليموت بعد ذلك بخمس سنوات صريع الادمان على الكحول. خلف دي موسيه العديد من الكتب في مجالات الشعر والمسرح والادب بشكل عام. ومن أشهر اعماله "نزوات ماريان" و"فانتازيو" و"لا يلعبن أحد مع الحب" و"لورنزا شيو" التي اعتبرت منذ ظهورها في العام 1834 قمة الادب المسرحي الرومانسي الفرنسي. ابراهيم العريس