الكتابة بحسب كلمات أيمري كيرتيش ذاته، هي "تأجيل مستمر للانتحار". لذلك نراه كرس حياته الأدبية للكتابة عن موضوع واحد: أوشفيتز. يتجنب ايمري كيرتيش إصدار أية أحكام أخلاقية، ولأوشفيتز الذي يتحدث عنه مكان خاص به، ليس له علاقة بما كتبه الآخرون عنه، فهو لا يطرح مواعظ، ولا يتهم، ولا يبكي كضحية، إنما يصف التجارب المعاشة هناك، معطياً كل الميزات الإنسانية مكانها المناسب، المقصود كل تلك الميزات التي تسيطر أيضاً على الحياة "العادية"" سلطة العادات، الإعجاب، إدمان السيطرة، السذاجة، الغباء، بل وحتى الخير. "الالتباس الحقيقي وغير القابل للوصف بالفعل هو ليس الشر، على العكس: أنه الخير. لهذا السبب بالذات لم يهمني منذ وقت طويل، القادة، رؤساء الوزراء وبقية أصحاب المقامات العالية، إنما لأنني تهمني فقط حياة القديسين، لأنني أجد هذا الجانب مهماً غير قابل للتعبير، عصياً على الفهم، ولا أجد أي توضيح منطقي له" ومن هذا المنطلق بالذات أثبت أوشفيتز، حتى لو بدا ما أقوله قريباً من الكوميديا السوداء، أنه مشروع يستحق التجربة"، كما كتب في روايته "قاديش لطفل غير مولود" صدرت مترجمة للألمانية في العام 1992 بعد سنتين من صدورها بالهنغارية. الكاتب الهنغاري، الذي يقيم في هذه الأيام في برلين ضيفاً على أكاديمية العلوم ظهرت روايته "بلا مصير" أولاً في بودابست في العام 1975، وظلت مهملة هناك، قبل أن تصبح بعد ترجمتها الى السويدية في 1985 والى الدنماركية في 1990 والى الألمانية في 1996 إحدى الروايات العالمية المهمة في القرن العشرين. ومن الناحية الأدبية السياسية أيضاً لم يكن قرار الأكاديمية السويدية خطأ، فإذا تكون أهملت في تاريخها المئوي أدباً وطنياً أوروبياً، فهو ليس غير الأدب الهنغاري. ايمري كيرتيش هو أول هنغاري يتسلم الجائزة. لكن إذا كان منح الجائزة فقط للسبب الأخلاقي أو الفلسفي لأعمال كيرتيش، فربما ومن دون أن تعي الأكاديمية السويدية ذلك، فإنها تستند إلى دعامة هشة، تقود إلى هاوية لا يُسبر غورها، ولسبب بسيط جداً: أن ايمري كيرتيش ذاته شخص متحفظ، بعيد من الأحكام الأخلاقية، رجل هادئ في شكل لا يوصف. لقاء مع كيرتيش أتذكر أنني التقيت به في بودابست في 1996، وفي ذلك اللقاء سألته، كيف أنه، هو اليهودي الذي عاش معسكرات الموت النازية، ترجم أوبرات ريتشارد فاغنر، وكأنه لا يعرف آراء فاغنر "المعادية للسامية"، كما ترجم أعمال نيتشه، على رغم اعتماد النازيين على فكرة "الإنسان المتفوق" التي أطلقها. كلا، قال ذلك ضاحكاً، ليس بسخرية أو بحزن، إنما بجد مرح، ترك الانطباع، بأنه لا يثمن فقط ومنذ زمن طويل موسيقى ريتشارد فاغنر، إنما أيضاً، بأنه لم يتهرب مطلقاً، من الملحن وقناعاته السياسية، كان في صراع دائم، وكانت الموسيقى تنتصر دائماً. رواية "بلا مصير"، كتبها في 1973، وتروي حياة مراهق يهودي وما عاشه في معسكرات الموت النازية. الرعب إن كان يُمكن أن يُطلق عليه ذلك الذي عاشه الشاب، نعيشه كقراء على دفعات، لأن الراوي لا يُلقي به إلينا دفعة واحدة. وكأنه يقول لنا، تأملوا معي، عندنا الوقت الكافي. لذلك لا يقتصد كيرتيش في وصفه لكل ما عاشه الشاب، والذي في معظمه يأتي بالتأكيد من سيرته الشخصية ذاتها. هكذا يصف كل ما رأته عيناه: عمليات الشحن بالمقطورات الضيقة، التعذيب، الإهانة، الجوع، البرد، العراء، العطش، أفران الغاز، الموت" انه يصف فقط، وبحيادية، وكأن الإحساس يعرج خلف الحقيقة، خلف ما يحدث له حقيقة، لأننا نقرأ كل شيء، من دون تعليق، نسير مع الراوي ولا نعرف ما سيحدث لاحقاً، لأنه ذاته لا يعرف ما سيواجهه. في بعض الأحيان يصف جمال النساء، وكأنه ذاهب في نزهة، بالطريقة ذاتها يصف شروق الشمس وغروبها، وهو في عربات الشحن. وكأن كيرتيش يصف السذاجة بتعمد، من دون أن يوحي لنا بذلك. فبطله المراهق هو هكذا، من هذا المعدن، الذي تقترب سذاجته من القدسية. انه قريب من الأمير ميشغين، "أبله" دوستويفسكي، مع الفارق، أن أبله دوستويفسكي توقظه الصدمات، أما بطل كيرتيش، فيذهب إلى حتفه، من دون أن يستيقظ. وهو هكذا منذ بداية الرواية، لا يأبه لما حصل لأهله، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فرحاً بالقبلة الأولى التي حصل عليها من صديقته" كما أنه كان ممتناً وفرحاً لحصوله على وظيفة وهو في هذا العمر، أمر نادر الحدوث ليهودي مثله، ومن طريق الوظيفة سيحصل على هوية وراتب شهري. لم يشغله الوضع العام، ولم يقلقه ما سيحدث لأهله، بل أنه لا يشغل فكره بما سيحصل له. لذلك لم يتفاجأ عندما أوقفت الشرطة النازية الحافلة التي تقله في طريقه لتسلم وظيفته، وليفرزونه مع كل اليهود الذين كانوا في الحافلة. وفي اليوم التالي عندما يشحنونهم في عربات ضيقة، من دون غذاء وماء، يعتقد أنها أمور طبيعية، لأن البلاد في حال حرب. حتى منظر الجنود عند بوابة معسكر الاعتقال لا يثير عنده الريبة، انهم هناك من أجل ترتيب النظام، وما زال يعتقد أنه ذاهب إلى معسكر للعمل، ولا يدري أنه ذاهب إلى معسكر الموت والإبادة. تلك هي السذاجة التي يعتني بوصفها كيرتيش ببرودة أعصاب. وتلك هي عظمة الرواية. انها خالية من أي حكم أخلاقي. ليس من الغريب إذاً أن تُهمل رواية من هذا الطراز في بلدها الأصلي، هنغاريا، ولا يُعترف بكاتبها. ففي العام 1975، حيث كانت لا تزال تسود نظرية "الواقعية الاشتراكية" السيئة الصيت، التي تميز بين البطل الإيجابي والبطل السلبي، وواقعية جورج لوكاتش "التاريخية"، لم تتناسب الرواية مع التعاليم الماركسية اللينينية للأدب ومهماته الرسمية "في الكفاح الثوري ضد الفاشية والإمبريالية". الرواية جاءت على عكس الأدب الرسمي المولع بالمواعظ الأخلاقية. كان من الصعب تصنيف الكاتب في إحدى الخانات "النقدية" المألوفة. بلا ذنب كان على الرواية أن تنتظر عشرين عاماً، حتى ترجمتها الى اللغة الألمانية في العام 1996، لكي تصبح إحدى الروايات المهمة التي كُتبت في القرن العشرين، والتي جعلت كاتبها يدخل صالون الأدباء العالميين. وشهرتها بخاصة في ألمانيا جاءت من الحقيقة البسيطة الآتية: ان الرواية تتحدث عما هو غير مسموع، عن أفكار، لم يجرؤ أحد على الحديث عنها في ألمانيا. أيمري كيرتيش لا يفصل بين الخير والشر، انه يبطل العمل وفق مقياس الاختلاف بين الأخلاق والجريمة، انه يأبى لنفسه التساؤل عن الذنب، أو ما هو مماثل: انه لا يعرف شيئاً غير الذنب. وهو يردد دائماً جملة تبدو غريبة للكثيرين: من الممكن أن يكون المرء سعيداً في معسكر الاعتقال، والأمر يتعلق فقط بالفكرة السطحية البسيطة، التي تقول انه ليس هناك شيء، لا يمكن أن يكون، وكل شيء ممكن، لأن كل ما هو ممكن يعني بالتالي الإمكان الذي يملكه كل فرد. الأمر الأكيد الوحيد الباقي: ليس هناك إنقاذ. وهو في جملته تلك، يتحدث عن المصير الذي واجهه، والذي ربما فقط بهذه الطريقة "الساذجة" استطاع البقاء على قيد الحياة. ايمري كيرتيش جاء إلى الكتابة في زمن متأخر، ولم يصبح مشهوراً عالمياً إلا بعد دخوله الستين. فبعد كتابته رواية "بلا مصير"، ألّف كتابين يمكن اعتبارهما ضمن "ثلاثية اللامصير": في 1988 صدرت روايته "فشل" صدرت بالألمانية في العام 1999، الكتاب الذي يصف فيه الأقدار التي تقترب من الجبرية التي قادته الى كتابة روايته الأولى. ثلاث سنوات بعد ذلك صدرت "قاديش لطفل غير مولود"، التي تصف لقاء حزيناً بين كاتب وفيلسوف، وذكريات الصبي الذي يشعر في معسكر الموت بأنه في بيته بالمقارنة مع روايته الأولى جاءت رواياته هذه ضعيفة من الناحية التقنية. وله كتب تحتوي على المقالات، "الراية الإنكليزية" الترجمة الألمانية، 1991، "كتاب الغاليري" الألمانية، 1993، "أنا- الآخر" الألمانية، 1998، الذي يتحدث فيه عن مشكلة الهوية والحرية، وبخاصة ما يتعلق به شخصياً، وهو لا يخفي الشعور الذي يستحوذ عليه دائماً: الشعور بالتمزق، باليأس. رواية "المحكمة" لكافكا تبدأ بالجملة الآتية: "كان يجب أن يكون أحدهم وشى بجوزيف ك، لأنه ومن دون أن يكون ارتكب شيئاً شريراً، أُعتقل ذات صباح". وهذه الجملة: "من دون أن يكون ارتكب شيئاً شريراً"، تنطبق على شخصيات كيرتيش، الذين يشتركون دائماً في الكثير من التفاصيل مع سيرة الكاتب، إن انتهوا وهم شباب في معسكر اعتقال كما في رواية "بلا مصير"، أو إن رُفضت روايتهم كما في "فشل"، أو بأن يؤسسوا فقدانهم للطفولة بسبب صدمة عاشوها وهم أطفال كما في "قاديش لطفل لم يولد" قاديش هي الصلاة اليهودية على روح الميت.