عدت لتوي من رحلة قصيرة الى برلين حيث شاركت في مهرجان استمر اسبوعاً وشمل حفلات موسيقية وجلسات للنقاش عن الموسيقى العظيمة المرتبطة بالقومية الألمانية - القومية التي قادت، كما نعلم، الى موجة الجنون الجماعي المسماة الفاشية الهتلرية. جوهر البرنامج الموسيقي كان عرض اوبرا ريخارد فاغنر "استاذة الغناء في نورنبرغ"Die Meistersinger von Nurnberg التي ألفها مباشرة بعد اوبرا "تريستان وازولده"، وأيضاً اثناء عمله على الرباعية الأوبرالية الكبرى "خاتم النيبلنغ". تنفرد أوبرا "نورنبرغ" بين كل أعمال فاغنر بأنها كوميديا ذات نهاية سعيدة. كما كان لها، على الأقل في واحد من مواضيعها، اهمية خاصة للنازيين وهتلر نفسه. العرض الأول للأوبرا كان في 1868، قبل ثلاث سنوات تقريباً من توحيد ألمانيا على يد بسمارك، لكن الغريب انها استبقت صعود موجة التعصب القومي الألماني، التي تفاقمت لاحقاً لتصل الى الهستيريا الشوفينية في "الرايخ الثالث" بقيادة هتلر. الموضوع المذكور يأتي قرب نهاية هذا العمل الكبير، حين يبدو مقطع من الأوبرا وكأنه يدعو الى حماية "الفن الألماني المقدس" من التأثيرات الأجنبية لكي يبقى "المانياً أصيلاً". هذا المقطع وحده تحول على يد النازيين الى عقيدة لا جدال فيها، واعتبروا ان كل ما لا يتفق مع المواصفات التقليدية ل"الفن الألماني" عمل سلبي يستحق الادانة والازالة - او هكذا رأى المتأخرون من تابعي فاغنر ومفسريه. تعود الأوبرا بالمشاهد الى القرن السادس عشر، الذي اعتقد فاغنر انه يحاكي عالمه في القرن الماضي. وتدور على مجموعة من المغنين، أو بالاحرى "اساتذة الغناء" الخبراء في قواعد الغناء الألماني وتقاليده. لكل من هؤلاء مهنته الخاصة، من الحرفي الى البورجوازي، لكنهم شكلوا اتحاداً للمغنين. بطل الأوبرا هانز ساخس، وهو اسكافي اضافة الى مهارته في الغناء. ويساند ساخس النبيل الشاب فالتر في نيل رغبته، وهي اتقان الغناء لكي يتزوج من ايفا، المرأة المعروضة كجائزة للمغني الأفضل. لفالتر مواهب كبيرة كشاعر وموسيقي، لكنه يضيق ذرعاً بقواعد الفن. منافسه كاتب عدل المدينة سكستوس بيكميسر، وهو بدوره من "أساطين الغناء" ويطمح الى الزواج من ايفا. نتيجة المنافسة هي الفشل الذريع لبيكميسر رغم اتقانه اصول الغناء، فيما يفوز فالتر بفضل مساعدة ساخس له، التي مكنته من الجمع بين القواعد والتقاليد من جهة والابداع من الثانية. هكذا يتمكن من الزواج من ايفا. اما ساخس فيقدم اغنية الى سكان البلدة مشيراً عليهم بأهمية تقبل الجديد لكن من دون نسيان "المعلمين الألمان التقليديين" وأيضاً بالطبع "الفن الألماني النقي". تنامى بمرور الزمن لدى القوميين الألمان، واعداء المانيا ايضاً، تفسير لشخصية ودور بيكميسر يعتبره نموذجاً يقدمه فاغنر لليهودي المكروه، على رغم ان الأوبرا تظهره المانياً لا يختلف في شيء عن الباقين. ذلك ان فشل بيكميسر المخزي في نهاية الأوبرا، والأغنية النشاز التي يقدمها ثم اخراجه من المسابقة، جعل الكثيرين يفترضون ان مقصد فاغنر، الشهير بلا ساميته، كان الاشارة الى تخليص المانيا من عضو مكروه في المجتمع، اي اليهودي. هذا ما اعتقده النازيون، واستعملوا عروض هذه الأوبرا اثناء الاحتفالات الرسمية للاشادة بنقاء الفن الألماني وفي الوقت نفسه اظهار طريقة التعامل المطلوبة مع اليهود. بعد الحرب العالمية الثانية اصبحت الأوبرا، التي لا ينكر احد عظمتها الفنية، مثاراً لنقاش حاد حول ما اذا كانت تحتفي بالثقافة الألمانية، لتكون بذلك وثيقة تسجل ذلك النوع المسعور من القومية الألمانية التي قادت الى النازية ومعسكرات الابادة مثل آوشفتز، ام انها عمل فني يحتوي أيضا على افكار شريرة وايحاءات مخيفة، لكنها تلعب دورها ضمن الكل ولا تحدد المعنى النهائي له. هذه كانت المسألة التي ناقشنا في برلين، وجاءت المناقشات بشأن "اوبرا الدولة الألمانية"، في قلب ما كان يعرف باسم "الرايخ الثالث". يبلغ من تعقيد فن فاغنر ان للمرء ان يرى في العمل بذور ذلك الوضع الذي ادى في الثلاثينات الى المسيرات النازية الكبرى في نورنبرغ، ولكن يرى ايضاً عملاً فنياً بالغ الغنى والانسانية يحاول اظهار العلاقة بين الثقافة وأمة تمر بمرحلة من التطور. ان في اعتبار فاغنر نبياً للفاشية اغفال لجانب مهم منه، وهو شعوره أيضاً بالخطر الذي تأتي به القومية عندما تنحو الى التطرف. من هنا فإن ما يقوله ساخس في نهاية العمل هو ان على الشعب البقاء مرتبطاً بجذوره لكن ايضاً ان يتطور عن طريق استيعاب التجارب الجديدة الثمينة الخارجة عن الوصفات التي يقدمها القوميون. أي ان تجربة الجديد او "الآخر" هي ما يمنع الثقافة من التكلس في مجموعة من المسلّمات والقوالب. ان الثقافة لا تستحق اسمها الا عند تحديثها واعادة تفسيرها وعيشها مجدداً. اما موت الثقافة فيأتي عندما تؤخذ بحرفيتها، أي تحول تقاليدها وتاريخها الى سلطة محافظة ضاغطة. هناك علاقة بين الكثير من هذا النقاش في المانيا والثقافة العربية المعاصرة، التي تمر بعملية مشابهة لتفحص الذات والعودة الى النهوض. لكن هناك عنصراً يضفي تعقيداً على علاقتنا بماضينا وتقاليدنا وفننا، وهو مواجهتنا مع الغرب واسرائيل، التي يبدو انها سلبتنا اوجهاً عديدة من التواصل والثقة بالنفس. هذان الحضوران الخارجيان لا يزالان يحوزان منا على مقدار متفوق من الاهتمام لأنهما يوجهان الينا تحدياً ثقافياً اضافة الى التحدي السياسي. النتيجة هي التناقض المذهل لدينا بين التصدي المعلن لاسرائيل والغرب والقلق الذاتي، بين التصريحات النارية المعبرة عن الموقف القومي الرسمي والتعاون المشين مع اعدائنا. استمر الموقف القومي المحافظ سنين طويلة في التأكيد ان اسرائيل عدونا الذي لا يلين، وان عدوانها يتوجه الى كل العرب، وان وجودها نفسه يشكل عبئاً علينا التحرر منه. لكن فجأة اصبح من الممكن ليس فقط القبول باسرائيل بل عقد اتفاقات سلام معها وفي الوقت نفسه طلب الوساطة الأميركية. واستمرت لغة عملية السلام هذه بعد عقد الاتفاقات، حتى بعدما اتضح استمرار مطامع اسرائيل في أرض الفلسطينيين واستمرار الاحتلال والاستيطان في الأراضي السورية واللبنانيةوالفلسطينية، فيما لم توقف أميركا خطوات اسرائيل بل دعمت اقصى حكوماتها تطرفاً، حكومة ليكود بقيادة بنيامين نتانياهو. ينطوي الموقف العربي المحافظ، خصوصاً تجاه فلسطين على تناقضات حادة. من الأمثلة الصارخة على ذلك الحملات القاسية اخيراً في لبنان على "مسرح بيروت" الذي نظم عدداً من الفعاليات لاحياء الذكرى الخمسينية للكارثة التي احاقت بفلسطين عند اقامة اسرائيل "الحياة" 17/4/98. المنظم الرئيس للفعاليات كان الياس خوري، الروائي الموهوب والصحافي والمثقف الذي حافظ على التزامه المبادىء الديموقراطية العلمانية للثورة الفلسطينية. وقد كان في امكانه، باعتباره مواطناً لبنانياً، ان ينسى فلسطين، خصوصاً بعد التناقضات والتسويات والتعقيدات الصعبة التي يعيشها اللبنانيونوالفلسطينيون منذ 1982. لكنه مع زملاء له في المسرح، من بينهم فواز طرابلسي، حافظوا على المثل التي كافحنا من اجلها ، فلسطينيين وغير فلسطينيين، وجوهرها الايمان بضرورة تحقيق العدالة والمساواة ورفض اشكال التمييز، وهي بالضبط ما تحرمه اسرائيل على الفلسطينيين. الفكرة القائدة هنا شمولية الطابع، أي انها مطروحة لكل انسان، بغض النظر عن الدين والعنصر واللغة، وان للكل الحقوق المدنية والسياسية والانسانية نفسها. اذا اخذنا في الاعتبار المعاناة الشديدة التي تفرضها اسرائيل على غير اليهود من مواطنيها لاعتبارات الدين واللغة، فإن الموقف الفكري الوحيد المسؤول هو التأكيد على خطأ ذلك التمييز ووجوب استبداله - ولكن ليس بالتمييز لمصلحة العرب بل بالغاء التمييز للكل. من هذا المنظور نجد ان الكفاح الفلسطيني استمد الكثير في موقفه الاخلاقي من مساندة اليهود المعارضين للصهيونية، خصوصاً يهوداً من بلاد عربية مثل المغرب وتونس، من الذين لاقوا الاضطهاد من جالياتهم بالضبط لأنهم عارضوا ميولها الصهيونية. هذا كان ايضاً وضع بعض اليهود الفلسطينيين، وايضاً، في الآونة الأخيرة، يهوداً من السفارديم من اليمن والعراق ومصر ذهبوا الى اسرائيل واصبحوا من أقوى منتقديها بعدما تعرضوا للاضطهاد لأنهم ليسوا من الأشكيناز اي اليهود الغربيين. وكان من بين الفعاليات الأكثر اثارة للاهتمام في برنامج "مسرح بيروت" في ذكرى النكبة الندوة التي كان من المفترض ان يعقدها عدد من هؤلاء اليهود العرب، وكلهم دون استثناء - خصوصا المغربي ابراهيم سرفاتي الذي سجن سنين طويلة - دفعوا ثمناً باهظاً لدعمهم العلني للافكار الراديكالية اللا صهيونية. لكن المخجل والمثير للغضب كان تلك الضجة التي اثارتها نية عقد تلك الندوة، والهجوم على "مسرح بيروت" بسبب توجيهه الدعوة اليها واتهامه بالسعي الى "التطبيع" مع العدو الاسرائيلي، ما ادى الى الغاء الندوة. ان التهمة البالغة الزيف والتضليل هذه تعيد الى الأذهان الشكل المرفوض من القومية الألمانية، الذي تناهى في التالي الى الفاشية الألمانية في ادانتها لليهود على اساس انهم ليسوا الماناً "حقيقيين" بل طارئين يدنس وجودهم ذلك الجوهر النقي، أي، حسب تعبير تلك الشخصية التي صورها فاغنر في "اساتذة الغناء"، كل ما هو "أصيل وألماني". ان فكرة الثقافة النقية والهوية النقية والأمة النقية تنطوي على غطرسة مطلقة وليس لها من قيمة. اذ ليس من ثقافة او امة او شعب بعيد عن قدر كبير من الاختلاط والتمازج. فماذا كانت المانيا ستصبح دون التأثيرات عليها من اليونان وايطاليا وفرنسا؟ او من دون وجود الاقوام السلافية؟ أو، كما نرى اليوم، دون وجود ذلك العدد الكبير من الأتراك والأكراد والعرب الذي يشكلون جزءاً مهماً من واقعها الحالي؟ انها بالتأكيد لن تساوي كثيراً، كما انها لا تساوي كثيراً اذا اعتقد المرء، مثل هتلر او غوبلز، ان حتى اليهود الألمان، الذين يتكلمون الألمانية ويعتبرون الحضارة الألمانية حضارتهم، ليسوا الماناً "حقيقيين"، وكأن كون المرء المانياً شيء يمكن استحداثه عن طريق التشريع او استحضاره في المختبرات. ان تاريخ الانسان وواقعه اكثر تعقيداً من ذلك، وينطويان على "شوائب" من الحمق استبعادها او تدميرها. ماذا يمكن ان يكون اعتراضنا على اسرائيل اذا قلنا اننا نريد فلسطين "نقية"، خالصة من اليهود، وخالصة من كل ما هو غير عربي ومسلم وفلسطيني؟ لن يمكننا ان نعترض لأننا عندها سنكون من مقلدي ما نهاجم. ويا له من غباء وضيق افق، ويالها من شوفينية وعنصرية عندما نحدد الشخص ليس من خلال ما يحمله من الأفكار والقيم بل من حيث العنصر أو الدين أو الثقافة. الأمر الذي اثار اكثر اهتمامي في النقاش في المانيا كان انه دار هناك أصلاً، فيما يبدو لي ان وضعنا لا يسمح بنقاش مشابه. اذ يبدو من وضعنا كأن الفئات المسيطرة تخاف الاعتراف بوجود نضال فلسطيني حقيقي من اجل الحرية والديموقراطية، أو أنها لا تريد ان تسمع في العالم العربي المطالبة التي يجب ان نكررها دوما: مطالبة اسرائيل باحترام الفلسطينيين وانصافهم، بعد كل ما الحقته بهم من الاستلاب والاضطهاد. الخطاب الواحد والحقوق الانسانية الشاملة للجميع، على رغم اعترافنا اللفظي بها، تبدو اموراً بالغة الخطر عندما نتكلم عنها في العالم العربي او في باريس ونيويورك. التحدي امامنا هو رفض ازدواجية القيم وازدواجية اللغة، لأن هذا يعني سقوطنا في الفخ نفسه الذي نقول ان اسرائيل سقطت فيه. على كفاحنا ان يقدم منظوراً بديلاً عن العلاقة بين الثقافة والسياسة. اذ لا يمكننا القول ان لا يحق الكلام عن العرب سوى للعرب انفسهم، وان ليس من له الحق في الكلام عن فلسطين سوى المسلمين العرب. بكلمة اخرى، علينا إما ان نكون جزءاً من الحل، او، مهما كان الاعتراف بذلك مخيفاً، جزءاً من المشكلة. ان الهجوم على الياس خوري و"مسرح بيروت" فضيحة تنضح بالرياء والشوفينية المحمومة الفالتة. انه هراء لا يمكننا تحمل ثمنه، وعلينا، ازاء فداحة الاضطهاد الاسرائيلي ل"غير اليهود"، اي الفلسطينيين، ان نتخذ موقفاً افضل من مجرد استنساخ عنصرية الغريم وكرهه للآخرين واقحامها في كفاحنا.