لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «نتفليكس» تواجه غضب السعوديين بسبب رفع الأسعار.. هل تسقط أمام المنافسين ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    11 تطبيقاً على هاتفك.. تتجسس عليك    بروزوفيتش مهدد بالغياب أمام الاتحاد    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    "ليالي المحافظات" تنطلق في شتاء جازان 2025 بألوان التراث والفلكلور    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    القِبلة    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    المدى السعودي بلا مدى    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إسرائيل تستهدف قياديًا في «حزب الله»    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    أسبوع واحد نقل الحرب في أوكرانيا إلى التصعيد    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بارنباوم ... وتحريم موسيقى فاغنر
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2001

تفجرت في اسرائيل أخيراً أزمة تستحق الكثير من الانتباه. كان مسببها الموسيقار وعازف البيانو اللامع دانيال بارنباوم - عليّ ان أقول بداية أنه صديق شخصي عزيز - عندما قدم في اسرائيل في السابع من الشهر الماضي عرضاً شمل مقتطفات من أوبرا لريتشارد فاغنر. وأطلق الحدث سيلاً هائلاً من التعليقات والهجمات وتعابير الصدمة والذهول. ذلك أن فاغنر 1813 - 1883 لم يكن موسيقياً عظيماً فحسب بل أيضاً لاسامياً متطرفاً مثيراً للاشمئزاز، واشتهر بعد زمن طويل على موته بكونه الموسيقي المفضل لدى هتلر، وارتبط اسمه بالنظام النازي وما ارتكبه من أهوال وجرائم ابادة بحق اليهود وغيرهم من الأقوام "المنحطة". من هنا الحظر غير الرسمي في اسرائيل على تقديم عروض عامة لموسيقى فاغنر، ولو ان الاذاعة تبثها احياناً، ويمكن شراء تسجيلاتها من المتاجر. موسيقى هذا الفنان الألماني، بثرائها وتعقيدها الفني البالغ وتأثيرها الكبير على عالم الموسيقى - تعتبر من جانب كثيرين من يهود اسرائيل رمزاً لفظائع اللاسامية الألمانية.
لا بد أن نضيف ان كثيرين من الأوروبيين من غير اليهود - خصوصاً في الدول التي عانت من الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية - يميلون الى رفض موسيقى فاغنر. ولا شك انه شخص يصعب على القبول، ناهيك عن الاعجاب، لما في بعض موسيقاه من "الأبهة" والنفحة "الألمانية" مهما عنت هذه الصفة التي يساء استعمالها في حالات كثيرة، واقتصاره على فن الأوبرا وروح التجبر والتركيز العميق على ماضي ألمانيا وتقاليدها وأساطيرها وانجازاتها، وأيضاً لكونه ذلك الكاتب الذي لا يعرف الكلل لسيل من المقالات الطويلة الطنانة حيث يطرح آراءه المشبوهة في معظمها عن سمو ألمانيا وبطولة الألمان مقارنة بالأقوام "المنحطة". رغم كل هذا فهو بلا شك عبقري عظيم في الموسيقى والمسرح، بل انه أطلق ثورة شاملة في مفهومنا للأوبرا واجرى تحويراً شاملاً في النظام الموسيقي، وساهم في التراث بعشر أوبرات تعتبر من بين قمم الموسيقى الغربية. التحدي الذي يقدمه للكل، وليس لليهود الاسرائيليين وحدهم، هو كيفية الاعجاب به وعزف موسيقاه مع اقصاء كتاباته البشعة التي استغلها النازيون. وكان بارنباوم لاحظ مراراً ان اعمال فاغنر الأوبرالية تخلو تماماً من أي أثر مباشر للاسامية - أو يمكن القول ببساطة أن اليهود الذين كانوا موضع حقده في منشوراته لا وجود لهم في اعماله الموسيقية. واذ يتهم بعض النقاد الموسيقيين فاغنر بوجود اللاسامية في اعماله الأوبرالية من خلال بعض الشخصيات التي يعاملها بسخرية واحتقار، فإنها تبقى اتهامات باللاسامية وليست نماذج عنها - رغم الشبه الكبير بين شخصية بيكميسر الثانوية في اوبرا "دي مايسترسنغر فون نورمبرغ" وهي الأوبرا الهزلية الوحيدة له والصورة الكاريكاتورية الشائعة وقتها عن اليهود. لكن بيكميسر في الأوبرا بالتأكيد ألماني مسيحي وليس يهودياً. والواضح ان فاغنر كان يفرّق في ذهنه بين اليهود في عالم الواقع وفي موسيقاه، لأنه كان يكثر اللغو عنهم في كتاباته لكن لا يذكرهم في موسيقاه. مهما كانت الحال فقد كان هناك توافق عام في اسرائيل على عدم عرض موسيقى فاغنر - وهو ما استمر الى السابع من تموز يوليو 2001 عندما عزف بارنباوم تلك المقتطفات. بارنباوم حالياً رئيس فرقة شيكاغو السمفونية، وأيضاً رئيس أوبرا ولاية برلين التي كان يقودها اثناء رحلتها الى اسرائيل حيث قدمت ثلاث عروض في القدس. وكان المقرر أصلاً في حفلة السابع من الشهر عزف الفصل الأول من أوبرا فاغنر "دي فالكوري"، لكن مدير "مهرجان اسرائيل"، الجهة الداعية للفرقة الألمانية ولبارنباوم، طلب تغيير البرنامج. وقدم بارنباوم عرضاً بديلاً لمقطوعات من شومان وسترافنسكي، ثم استدار الى الحضور بعد ذلك واقترح الختام بمقطوعة قصيرة من أوبرا "ترستان وايزولد" لفاغنر، طارحاً الاقتراح على النقاش ثم التصويت. النتيجة كانت اعلانه أنه سيقدم المقطوعة، وأن في امكان الذين يزعجهم ذلك مغادرة القاعة. عموماً استقبل الجمهور الذي بلغ 2800 اسرائيلياً المقطوعة بحماسة، ولا أشك أن العزف كان رائعاً.
مع ذلك لم يتوقف الهجوم على بارنباوم. ونقلت الصحف في 25 تموز عن لجنة التعليم والثقافة في الكنيست انها "حضّت الهيئات الثقافية الاسرائيلية على مقاطعة الموسيقار... لأنه قدم في الحدث الثقافي الأهم في اسرائيل قطعة من موسيقي هتلر المفضل، الى ان يعتذر". كما تعرض لهجوم مسموم من وزير الثقافة الاسرائيلي وغيره من الشخصيات، رغم أن بارنباوم، الذي ولد في الأرجنتين وقضى طفولته هناك، اعتبر نفسه دوماً اسرائيلياً. اذ نشأ هناك وتلقى تعليمه في المدارس العبرية وحمل دوماً جواز السفر الاسرائيلي مع الجواز الأرجنتيني. اضافة الى ذلك اعتبر رصيداً ثقافياً مهماً لاسرائيل ولعب خلال سنين طويلة دوراً مركزياً في حياتها الموسيقية، رغم انه غادر البلد أوائل شبابه وعاش في أوروبا وأميركا غالباً وليس في اسرائيل. ظروفه المهنية كانت سبب خروجه، اذ توفرت له فرص التقدم في الخارج أكثر مما في اسرائيل. ولا شك أن عزف البيانو وقيادة الفرق الموسيقية الكبرى في برلين وباريس ولندن وفيينا وسالزبورغ وبايروت ونيويورك وشيكاغو وبوينس ايرس وغيرها كان أفضل له من البقاء في مكان واحد. هذه الحياة الكوزموبوليتية الخارجة على المألوف كانت، كما سنرى، من بين دواعي تفجر الغضب ضده منذ تقديمه فاغنر.
اضافة الى ذلك فإن شخصية بارنباوم ليست ببسيطة، وهذا أيضاً من أسباب الضجة التي احدثتها خطوته: واذا سلّمنا بأن كل المجتمعات تتكون من غالبية من المواطنين العاديين تتبع النمط الحياتي المعتاد، فإن فيها دوماً أقلية صغيرة تفرقها مواهبها وميولها المستقلة عن الغالبية، وتبدو بذلك كأنها تمثّل تحدياً أو اهانة لها. المشكلة تبرز عندما تحاول الغالبية، من منظورها، اختزال الشخصيات المعقدة اللا روتينية هذه أو تبسيطها وتقنينها. انه لا بد أن يتفجر، اذ ليس من السهل على أفراد الغالبية التسامح مع شخص واضح الاختلاف عنهم ويتفوق عليهم موهبة وأصالة، ومن هنا غضب الغالبية ومواقفها اللاعقلانية. من الأمثلة الأبرز حكم الاعدام الذي أصدرته أثينا بحق سقراط، لأنه كان العبقري الذي علّم الشبيبة استقلالية الفكر وضرورة الشك والتساؤل، وأيضاً حكم الحرمان من يهود أمستردام بحق الفيلسوف سبينوزا لأن أفكاره تجاوزت المسموح، ومعاقبة الكنيسة لغاليلو، وصلب الحلاج في بغداد عقاباً على تجلياته - وهكذا عبر القرون. بارنباوم شخص موهوب خارج تماماً عن المألوف، وقد تجاوز عدداً اكثر مما يجب من الحدود المسموحة وانتهك الكثير من المحرمات التي تشكل لحمة المجتمع الاسرائيلي. ومن المفيد النظر في هذا ببعض التفصيل.
لا شك أن بارنباوم، لجهة قدراته الموسيقية، شخصية تكاد تكون مذهلة بفرادتها. فهو يتمتع بكل المواهب اللازمة لمن يريد أن يكون عازفاً منفرداً عظيماً وموسيقاراً عظيماً: أي كمال الذاكرة والقدرة التقنية اللامعة والشخصية الجذابة للجمهور، وفوق كل ذلك الشغف الهائل بعمله. وليس في عالم الموسيقى ما يستعصي عليه أو يفوق متناوله، بل انه يسيطر بشكل تام، وبيسر كما يبدو، على كل عناصر الفن، بموهبة يعترف به كل الموسيقيين. لكن القضية تحمل تعقيداً اضافياً. فقد كانت نشأته الأولى في الأرجنتين الناطقة بالاسبانية، ثم في اسرائيل العبرية، ولذا فهو ليس فقط أرجنتينياً أو اسرائيلياً. اضافة الى ذلك فإنه عملياً لم يسكن اسرائيل منذ نهاية مرحلة المراهقة، مفضلاً الحياة الكوزموبوليتية الأكثر اثارة من الناحية الثقافية في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يشغل، كما قلت، أرفع منصبين في عالم الموسيقى، على رأس أفضل فرقة سمفونية أميركية شيكاغو وأيضاً كمدير لما يمكن اعتبارها اعظم فرقة أوبرا في العالم برلين - من دون ان يتخلى خلال ذلك عن عروضه كعازف بيانو منفرد. ومن الطبيعي تماماً أن حياة التنقل هذه والحصول على هذا النوع من التشريف لم ينتج عن الالتزام بالقواعد التي يضعها الناس العاديون بل العكس بالضبط، أي الاستخفاف الكامل والدائم بالاعراف والقيود. وهذا ما ينطبق على كل شخص استثنائي مضطر بحكم ذلك الى العيش خارج الاعراف البرجوازية العادية، اذ لا مجال الى التوصل الى انجاز مهم في العلوم أو الفنون من خلال التزام الحدود الموضوعة لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية.
لكن للقضية بعداً اضافياً: فنظراً الى تنقله الدائم وقدراته اللغوية يتكلم سبع لغات بطلاقة فكل مكان وطنه، لكنه في الوقت نفسه بلا وطن. من نتائج ذلك ان زياراته الى اسرائيل لا تتعدى بضعة أيام سنوياً، رغم أنه يواصل العلاقة عن طريق الهاتف وقراءة الصحف. كما أن سكناه في الخارج لم تقتصر على بريطانيا وأميركا، بل شملت ألمانيا، حيث يقضي معظم وقته الآن. ولا بد ان الكثيرين من اليهود، الذين لا تزال ألمانيا بالنسبة اليهم البلد الأفظع في اللاسامية، يستبشعون وجوده هناك، خصوصاً انه يختار التركيز على الموسيقى النمسوية - الألمانية الكلاسيكية، حيث تحتل موسيقى فاغنر موقعاً مركزياً. انه بالطبع خيار صحيح، بل متوقع من الناحية الفنية، من موسيقي كلاسيكي، فهو يشمل الاعمال العظيمة من موتسارت وهايدن وبتهوفن وبرامز وشومان وبروكنر ومالر وفاغنر وريتشارد شتراوس. ورغم أن بارنباوم لم يتخل عن التقاليد الموسيقية الفرنسية والروسية والاسبانية، وبرهن أيضاً على تفوقه فيها، إلا أن اهتمامه انصب أساساً على التقليد النمسوي - الألماني، الموسيقى التي مثّلت في أحيان عديدة مشكلة كبرى للفلاسفة والفنانين اليهود، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. وكان عازف البيانو العظيم ارتورو روبنشتاين، صديق بارونباوم وأحد معلميه، يرفض الذهاب الى ألمانيا والعزف هناك، قائلاً ان من الصعب عليه كيهودي زيارة البلد الذي قتل ذلك العدد الهائل من قومه. هكذا اذن، وقبل تفجر قضية فاغنر، كان هناك بين اليهود الاسرائيليين المعجبين ببارنباوم تحفظ متزايد تجاهه بسبب اقامته في برلين، عاصمة ألمانيا الرايخ الثالث، التي لا يزال الكثيرون من اليهود يعتبرون انها تحمل في داخلها سمات تلك المرحلة البشعة.
من السهل على الآخرين القول بالتسامح، ولنتذكر دوماً أن الفن شيء والسياسة شيء آخر. لكن هذا في الواقع موقف احمق، تسخر منه غالبية الفنانيين والموسيقيين الذين نكن لهم ارفع الاعجاب. ذلك أن عظماء الموسيقيين كافة كانوا بشكل أو بآخر مسيّسين، بأفكار ومواقف سياسية قوية - منها آراء مكروهة من منظورنا الحالي، مثلما في حال بتهوفن في مراحله الأولى عندما كان يجل نابليون كفاتح عظيم، أو ديبوسي الذي كان قومياً فرنسياً يمينياً. ومن الأمثلة الأخرى هايدن الذي كان مستخدَماً متزلفاً لدى راعيه الارستقراطي الأمير استرازي، وحتى عبقري الموسيقى الأكبر يوهان سيباستيان باخ، عرف عنه تعيّشه على موائد كبار الأساقفة والدوقات وتملقه لهم. لكن هذه الأمور لا تهمنا اليوم لأنها تعود الى عصر بعيد نسبياً. واذ ليس من هذه المواقف والآراء ما يجرح مشاعرنا مثلما تفعل منشورات توماس كارلايل العنصرية في ستينات القرن التاسع عشر، فهناك عاملان آخران يحتاجان الى التناول: الأول أن الموسيقى كصنف فني تختلف عن اللغة، لأن النوطة لا تعني شيئاً ثابتاً مثل "قطة" أو "حصان". وثانياً، ان الموسيقى في غالب الأحيان تتجاوز حدود الأمة واللغة، اي انك لا تحتاج الى معرفة الألمانية لكي تتأثر بموسيقى موتسارت، أو الفرنسية لتقرأ نوطات بيرليوز، بل عليك ان تعرف الموسيقى نفسها، وهي تقنية بالغة التخصص تحتاج الى الكثير من المثابرة والدقة لاستيعابها، بشكل منفصل عن مواضيع مثل التاريخ أو الأدب - رغم أنني ارى أن الفهم والاداء الحقيقيين لعمل موسيقي معين يتطلب استيعاب السياق والتقليد الذي صدر عنه العمل. أي ان الموسيقى، من بعض الأوجه، تشابه علم الجبر. لكن ليس تماماً، كما تبين قضية فاغنر.
لو كان فاغنر موسيقياً منزوياً مغموراً ألّف أعماله بعيداً عن الأضواء، أو على الأقل من دون كل ذلك الضجيج، لكان سهّل ذلك تقبله. لكنه كان جعجاعاً بشكل يصعب على التصديق، وملأ أوروبا بالبيانات والتصريحات والمشاريع والموسيقى، بشكل يفوق كل الموسيقيين الآخرين وبهدف اجتياح المستمع واخضاعه. وكان هناك دوماً في قلب كل أعماله شخصيته المذهلة في تركيزها على الذات الذي يصل الى حد النرجسية، واعتبارها تجسيداً لجوهر الروح الألمانية ومصيرها وامتيازها. واذ لا يمكنني بالطبع بحث اعمال فاغنر نفسها في هذه المقالة فإن من المهم التركيز على انه كان يتقصد اثارة الجدل ويلح في جذب الانتباه وعمل كل في وسعه في سبيل القضية الألمانية ومن اجل شخصيته التي فهمها بشكل ثوري متطرف. فقد كان لموسيقاه ان تكون موسيقى جديدة وفناً جديداً بل فلسفة جمالية جديدة، وكان لها ان تجسد تقاليد بتهوفن وغوته، لكن، كما نتوقع منه، أن تقوم بذلك من خلال توليفة جديدة تتجاوزهما معاً. وليس في تاريخ الفن شخصية جذبت مقداراً أكبر من الاهتمام والكتابة والتعليق. هذه المواقف والآراء جعلته مؤهلاً تماماً للاستعمال من جانب النازيين من دون أن ننسى انه اعتبر بطلاً عبقرياً من جانب الموسيقيين الآخرين الذين أدركوا ان مساهمته غيّرت تماماً مجرى الموسيقى الغربية. وأنشأ فاغنر خلال حياته داراً للأوبرا في بلدة بايروت الصغيرة تختص بتقديم اعماله، واعتبرها بمثابة مزار مقدس. ولا تزال بايروت الى اليوم مقراً لمهرجان سنوي يقتصر على أعماله. وكانت دار الأوبرا هذه وعائلة فاغنر عزيزتين على قلب هتلر، كما ان ما يزيد القضية تعقيداً أن فولفغانغ فاغنر، المؤيد السابق للنازيين وحفيد ريتشارد فاغنر، لا يزال يسيطر على المهرجان الصيفي الذي يشارك فيه باربناوم بانتظام منذ عقدين تقريباً.
لكن الأمر يتجاوز هذا. ان باربناوم بوضوح فنان اعتاد تخطي المصاعب وتجاوز الخطوط الحمر والدخول في المناطق المحرمة. واذا كان هذا لا يعني انه شخص ملتزم سياسياً فهو لم يخف استنكاره للاحتلال الاسرائيلي، الى حد أنه في أوائل 1999 كان أول موسيقي اسرائيلي يقدم خدماته مجاناً للقيام بعرض في جامعة بير زيت في الضفة الغربية. كما انه خلال السنين الثلاث الأخيرة قدم في فايمار أولاً ثم في شيكاغو هذه السنة عروضاً جمع فيها موسيقيين شباباً من العرب والاسرائيليين، في مشروع جريء يحاول الترفع عن السياسة والصراع وصولاً الى الفن المنفصل تماماً عن السياسة، المتمثل بالاداء المشترك للموسيقى. انه بالتأكيد مفتون ب"الآخر"، ويرفض شكل قاطع الموقف اللاعقلاني القائل ان الجهل أفضل من المعرفة. وأنا اتفق معه على ان الجهل ليس استراتيجة كافية لشعب ما، ولهذا على كل فرد، بطريقته الخاصة، أن يسعى الى فهم ومعرفة ذلك "الآخر" المحرم. انه ليس موقف الكثيرين، لكنني مع عدد متزايد من الناس اعتقد انه الموقف الوحيد المتماسك فكرياً. وليس في ذلك ما ينتقص من التمسك بالحق ومناصرة المظلومين، ولا يعني التخلي عن الهوية أو اشاحة النظر عن الأوضاع السياسية على الأرض. بل انه يعني ان طريق المواطنة يتمثل في العقل والفهم والتحليل الفكري، وليس بتنظيم وتشجيع العواطف العامة، مثل تلك التي يبدو انها تدفع الأصوليين. هذه معتقدات أؤمن بها من زمن طويل، وربما كانت من بين أسباب استمرار صداقتي مع باربناوم رغم اختلافات في الرأي بيننا.
ان التنكر الكامل والادانة اللاعقلانية المطلقة لظواهر معقدة مثل فاغنر أمر لاعقلاني مرفوض، مثلما كان من الغباء وتضييع الوقت لنا كعرب اتباع سياسة تستعمل تعابير مثل "الكيان الصهيوني" وترفض بشكل مطلق فهم وتحليل اسرائيل والاسرائيليين، مصرّة على انكار وجودهم لأنهم سببوا النكبة الفلسطينية. التاريخ دائم الحركة، واذا كان لنا ان نطلب من الاسرائيليين عدم استعمال المحرقة لتبرير الانتهاكات البشعة لحقوق الانسان الفلسطيني فعلينا في الوقت نفسه أن ننأى عن مواقف غبية مثل انكار المحرقة، وان كل الاسرائيليين، رجالاً ونساء وأطفالاً، محكوم عليهم الى الأبد بمواجهة الخصومة والعداء. ليس في التاريخ شيء يبقى جامداً رغم مرور الزمن، وليس فيه ما يعصى على التغير، أو يعلو عن متناول العقل والفهم والتحليل والتأثير. للسياسيين والديماغوجيين المحترفين أن يتفوهوا بكل ما يريدون من حماقات ويفعلون ما يشاؤون. لكن يجب ان يكون هناك دوماً للمثقفين والفنانين والمواطنين الأحرار مجال للخلاف، للرأي البديل، وسبل وامكانات لتحدي طغيان الغالبية، وأيضاً وهو الأهم، السير قدماً على درب الاستنارة والحرية الانسانية.
لا يمكن صرف هذه الفكرة بسهولة على انها مستوردة من "الغرب" ولذا فهي لا تصلح للتقاليد والمجتمعات العربية أو الاسلامية أو اليهودية، لأنها تمثل قيمة شمولية توجد في كل التقاليد التي اعرف. ان في كل مجتمع صراعاً بين العدالة والظلم، والمعرفة والجهل، والحرية والاضطهاد. والمسألة ليست الانحياز ببساطة الى هذا الجانب أو ذاك حسبما يفرض عليك، بل ان تختار لنفسك بعناية وتبني الأحكام التي توفي لكل جوانب القضية حقها من العدالة والروية. ان هدف التعليم ليس مراكمة الوقائع أو استظهار الأجوبة "الصحيحة"، بل ان نتعلم بأنفسنا كيف نفكر نقدياً ونفهم بأنفسنا معنى الأشياء.
الحل الأسهل بالنسبة للموقف الاسرائيلي من باربناوم هو صرفه على انه انتهازي أو مغامر يفتقر الى الاحساس. كما ان من قبيل التبسيط القول أن فاغنر كان شخصاً شنيعاً بأفكار رجعية عموماً، ولذا لا بد من رفض موسيقاه، مهما كانت رائعة، لأنها ملوثة بالسم نفسه الذي يسري في كتاباته. لكن كيف يمكن البرهنة على ذلك؟ كم سيبقى من الكتاب والموسيقيين والشعراء والرسامين اذا حكمنا على فنهم من خلال سلوكهم الأخلاقي؟ ومن سيقرر المقدار الذي يمكن احتماله من البشاعة والتحلل في الأعمال الفنية من هذا الفنان أو ذاك؟ الأفضل كما اعتقد ان تكون للعقل القدرة على تحليل ظواهر معقدة مثل قضية فاغنر في اسرائيل أو، كمثال آخر، قصة كونراد "قلب الظلمة" بالنسبة الى قارىء افريقي كما حللها الروائي النيجيري اللامع تشينوا أتشيبي في مقالة شهيرة مفرقاً فيها بوضوح بين الشر من جهة والفن من الجهة الثانية. ان للعقل الناضج القدرة على الامساك في وقت واحد بحقيقتين متناقضتين، هما في هذه الحال ان فاغنر موسيقي عظيم، وانه في الوقت نفسه انسان منحط. والمؤسف انه لا يمكننا اخذ واحدة من الحقيقتين من دون الثانية. هل يعني هذا اذن ان علينا عدم الاستماع الى فاغنر؟ بالتأكيد لا، رغم أن من البديهي لشخص لا تزال تؤلمه العلاقة بين فاغنر والمحرقة ان لا يفرض على نفسه سماع تلك الموسيقى. أي ان كل ما أقوله هو ضرورة اتخاذ موقف منفتح تجاه الفن. لا يعني هذا ان علينا عدم الحكم اخلاقياً على الفنانين للااخلاقيتهم أو ممارساتهم الشريرة، بل عدم امكان الحكم على عمل الفنان على هذا الأساس فقط وحظره تبعاً لذلك.
نقطة اخيرة، مع مقارنة بالوضع العربي: في النقاش الحاد في الكنيست قبل سنة على اتاحة شعر محمود درويش لتلاميذ اسرائيل اعتبر كثيرون منا أن الشراسة التي أبداها معارضو المقترح دليل على انغلاق الفكر الصهيوني المحافظ. واكد كثيرون، في معرض استنكار موقف المعارضين، استحالة اخفاء التاريخ والواقع الى الأبد، وان لا مكان لرقابة من هذا النوع في برامج التعليم. موسيقى فاغنر تقدم مشكلة مماثلة، رغم ان لا مجال لانكار ان موسيقى وأفكار فاغنر تشكل صدمة لأولئك الذين يشعرون بأنه كان، في شكل من الأشكال، مؤهلاً تماماً للاستغلال من جانب النازيين. لكن حظر اعمال موسيقي رئيسي مثل فاغنر لا بد ان يفشل في مرحلة ما. ولو لم يقدم باربناوم تلك القطعة في اسرائيل في السابع من الشهر الماضي لقدمها غيره في موعد لا يتأخر كثيراً عن ذلك. اذ لا بد للحقائق المعقدة ان تفلت عن محاولة طمسها. السؤال اذن هو كيف نفهم ظاهرة فاغنر - وليس اذا ما كنا نعترف بوجودها، أي ذلك الرد الواضح القصور والنقص على تلك الظاهرة.
في العالم العربي نجد ان الحملة على "التطبيع" مع اسرائيل، على كونها تواجه تحدياً اكثر الحاحاً وحقيقية لأن اسرائيل تمارس يومياً انماطاً من العقوبات الجماعية والقتل بحق شعب بكامله تحتل أرضه منذ 34 سنة تحمل بعض أوجه الشبه مع التحريم الاسرائيلي لموسيقى فاغنر والشعر الفلسطيني. ومشكلتنا ان للحكومات العربية علاقات سياسية واقتصادية مع اسرائيل، فيما تحاول مجموعات من الأفراد فرض حظر شامل على الاتصال بالاسرائيليين. لكن حظر التطبيع موقف يفتقر الى التماسك، لأن مبرر وجوده، أي اضطهاد اسرائيل للفلسطينيين، لم يتراجع بسبب الحملة. وإلا فكم مسكن فلسطيني سلم من التدمير بفضل اجراءات حظر التطبيع؟ وكم جامعة فلسطينية تمكنت من توفير التعليم للطلبة بفضل هذا الحظر؟ وهذا هو سبب تفضيلي قيام مثقفي مصر البارزين بزيارة اسرائيل تضامناً مع رفاقهم الفلسطينيين، وربما التعليم هناك أو القاء المحاضرات أو المساعدة في مستشفى، على البقاء حيث هم ومنع غيرهم من القيام بذلك. ان الرفض الكامل للتطبيع لا يشكل سلاحاً فاعلاً للذين لا قوة لهم، وقيمته الرمزية ضئيلة، ولا يعبر الآّ عن الاستكانة والسلبية. بالمقابل فإن الاسلحة الناجحة للضعفاء - مثلما في الهند والجنوب الأميركي وفيتنام وماليزيا وغيرها - اتسمت دوماً بالايجابية وروح التصدي. النقطة هي اقلاق الطرف المعتدي وفضحه اخلاقياً وسياسياً. وليس للتفجيرات الانتحارية، أو رفض التطبيع، مثل هذا التأثير. وقد استعمل الأخير أثناء الكفاح التحرري في جنوب افريقيا للمقاطعة ضد الزوار الاكاديمين جنبا الى جنب مع الكثير من الوسائل الاخرى المتنوعة.
لهذا السبب اعتقد ان علينا محاولة اختراق الوعي الاسرائيلي بكل الوسائل المتاحة. ان في كلامنا او تراسلنا مع مجموعات اسرائيلية كسراً للتحريم الذي يوجهونه الينا. وكان وراء حدة النقاش حول السماح بقراءة الأدب الفلسطيني خوفهم من المكبوت في ذاكرتهم الجماعية. لقد حاولت الصهيونية دوماً اقصاء غير اليهود، وبالمقابل فإن مقاطعتنا الانتقائية حتى لاسم "اسرائيل" تساعد هذه الخطة بدل ان تعرقلها. وهذا أيضاً، في ذلك السياق الآخر، السبب في ان لتقديم بارنباوم لموسيقى فاغنر، رغم انها مؤلمة للكثيرين من الذين لا يزالون يعانون من صدمة حملة الابادة التي شنها النازيون على اليهود، تأثيراً ايجابياً يتلخص بالسماح لمرحلة الحداد الطويلة هذه بالعبور وصولاً الى مرحلة اخرى - المرحلة التي يحيا فيها المرء حياته، لأن على الحياة ان تمضي قدماً وليس ان تنجمد في الماضي. ربما لم اتمكن من استيفاء كل المعاني المتعلقة بهذه القضية. لكن لا بد ان المغزى الرئيسي هو عدم امكان ترك الحياة الحقيقية تحت سيطرة التحريمات والنواهي المعادية للفهم النقدي والتجربة التحررية، لأن الأولوية يجب ان تكون دوماً لهذين الأخيرين. ولا يمكن اتخاذ الجهل أوالتهرب هادياً لنا تجاه الحاضر.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.