شبح الجنون أذهل برتراند راسل الاتحاد السوفياتي والصحافة العالمية عندما أرسل برقية الى وزير الخارجية السوفياتي في 1966 يطلب فيها وضع قسم من قوة دولته الجوية في تصرف الفييتكونغ. كان داعية السلام العالمي يدعو من دون أن يعرف الى قيام حرب عالمية ثانية، وسيرى بعد حين أن سكرتيره الماركسي رالف شونمان اقنعه بمواقف سياسية طارئة على تفكيره، منها تأييد فيدل كاسترو وتشي غيفارا في المهرجان الذي أقيم في كوبا في العام نفسه ودعا غيفارا فيه الى الحرب الشاملة ضد امبريالية الولاياتالمتحدة وخلف "فييتنامات عدة". اعترف راسل بعد ذلك ان سكرتيره الأميركي كتب الكثير مما نشر باسمه بين 1963 و1969 وكان مخالفاً لإيمانه ان الكراهية حمق والحب حكمة. في الجزء الثاني من سيرته عن الكاتب البريطاني يركز راي مونك في "برتراند راسل، 1921 - 1970: شبح الجنون" الصادر عن دار جوناثان كيب على النصف الثاني من القصة. كان في التاسعة والأربعين، لكن حياته بدت قابعة وراءه. كان نال جائزة نوبل للأدب عن كتابه "الزواج والأخلاق" واقتنع أن ألمع كتبه الفلسفية "المبادئ الرياضية" لم يحوِ الا المغالطات بعدما حطمه لودفيغ وتغنستاين بنقده. وكانت انتهت صداقاته مع د. ه. لورنس وجوزف كونراد ووتغنستاين وكذلك حبه الكبير لابنة طبقته الليدي أوتولين موريل. لكنه وجد دوراً آخر، فبعدما كان أكبر عالم منطق بعد أرسطو تحول الى أب وداعية اخلاقي لكنه ناقض نفسه وغيّر رأيه مراراً في ما يراه مونك مأساة اغريقية لرجل كان عليه أن يعيش 97 عاماً. في الخمسين من عمره، أصبح راسل والداً للمرة الأولى في حياته، لكن هوسه بالتربية "العلمية" الهادفة الى خلق جيل مسالم من دون مخاوف أدى الى عكس ما كان يرجوه. كان طفله جون أجمل ما في حياته لكنه شاء ان يقولبه وفق مبادئه فساهم في تعقيد حياته الذي أوصله الى الجنون المتوارث في اسرة راسل. خاف جون البحر وكان والده يرميه فيه ويضغط بيديه على جسده الصغير لكي يبقى فيه ويتغلب بالمواجهة على خوفه. راسل نفسه خاف الجنون وشاء أن يواجه خوفه بالمنطق والنزعة الانسانية، لكنه كان في الوقت نفسه شديد الغرور والزهو بقدرته العقلية وعميق الاحساس بالوحدة. وربما عبّر زواجه أربع مرات وعلاقاته الكثيرة ليس عن حاجته الى الجنس وحده، وهو كان مهووساً به، بل أيضاً عن الحب والمشاركة والذعر من مواجهة وحشة الذات. اعتنق ليبرالية القرن التاسع عشر المتطرفة التي عقّدت حياته الخاصة، وفي 1931 ذهب مع عشيقته وزوجته وعشيقها في عطلة حملت المرأتان خلالها. لم يطبّق مبادئه المسالمة مع أفراد اسرته وأثر طلاقه البشع من زوجته الأولى في ولديه منها. حضن جون في أول الأمر ولم يلاحظ مثليته إذ اعتبرها نتيجة التربية السيئة. لكنه اخرجه من حياته عندما ظهر جنونه وقام بدور الأب القانوني لطفلتيه، على انه ما لبث أن تبرأ من حفيدته المفضلة لوسي عندما بدأت تؤيد والدها ضده. كان راسل حياً عندما بدأت عوارض الجنون تظهر على لوسي أيضاً، لكنه أوقف مساعدته المالية والعاطفية لها. بعد موته بخمس سنوات انتحرت حرقاً عندما لقيت الرفض من الجميع، وكانت في السادسة والعشرين. سجن راسل في الحرب العالمية الأولى عندما كتب ضد التجنيد والحرب، وفي الثلاثينات رأى ان تخلي بريطانيا عن قوتها العسكرية وامبراطوريتها سيجرد هتلر من أي سبب للهجوم عليها. حتى لو احتل هتلر بريطانيا، قال، فلا بأس بذلك لأن الألمان متحضرون ولن يلبثوا ان يتخلوا عن النازية. كان جده رئيساً للحكومة، وورث ثروة مع لقب "لورد" لكنه رفض اللقب وأعطى قسماً كبيراً من ثروته للشاعر ت. س اليوت ومعهد لندن للاقتصاد. عانى الحاجة المادية فكتب بغزارة وسرعة في كل المواضيع وبمستويات متفاوتة وألقى محاضرات في اميركا ليتمكن من تمويل جمعيتي السلام اللتين أنشأهما، "لجنة المئة" و"مؤسسة راسل للسلام". لكنه لم يجد السلام سواء في العالم الذي شاء تغييره أو في دائرته الخاصة. الى ابنه وحفيدتيه، كانت زوجة ابنه مضطربة العقل أيضاً وكذلك الزوجة الأولى لاليوت. ولئن زعمت الأولى انه شاركها السرير كانت علاقته السريعة بالثانية معروفة حتى لزوجها، ولم تمنعها الصداقة ولا أعراض الجنون. وحش نابوكوف فشلت السينما مرات عدة في نقل فلاديمير نابوكوف، أولها مع "لوليتا" وآخرها مع "دفاع لوجين" للمخرجة الهولندية مارلين خوريس. رأى الكاتب روايته "الأكثر دفئاً" من كل ما كتبه بالروسية، وتناول فيها لاعب شطرنج يسعى الى بطولة العالم في بلدة ايطالية صغيرة في نهاية العشرينات. يتشوش ذهن لوجين عند ظهور معلمه القديم الذي جعله طفلاً معجزة ثم تركه، ومع اقتراب المبارة يشتبه في أن المعلم يرغب في خسارته، الاخراج امين لروح النص والتمثيل جيد، لكن الفيلم لا يشد المشاهد، وربما كان نابوكوف نفسه يقدم الجواب في قصة "مساعد المنتج" التي كتبها في أوائل الأربعينات: "عدم التحديد ممنوع من دخول الستديو"، على ان عدم التحديد مزدهر في أعمال نابوكوف وغيره، أمر لا ينسجم مع حاجة صناعة السينما الى قول نعم أو لا بوضوح. كتب نابوكوف بنفسه سيناريو فيلم "لوليتا" الذي أخرجه ستانلي كوبريك في 1962 لكنه لم يستعمل لفرط طوله، ومع ذلك نال ترشيحاً لجائزة أوسكار. كوبريك اعترف بفشل فيلمه وندم في ما بعد على "جبنه في نقل رواية تكمن عظمتها في صوت راويتها الفريد". "لوليتا" فشل ثانية في 1997 مع آدريان لاين، وبين أواخر الستينات وأواخر السبعينات لقيت ثلاث روايات لنابوكوف المصير نفسه في السينما: "ضحك في الظلام" و"ملك، ملكة وخادم" و"يأس". منذ عامين حول الطابق السفلي في منزل آل نابوكوف في سان بيترسبرغ الى متحف له بتمويل خاص. درس فلاديمير في جامعة كمبريدج، انكلترا، وترك روسيا مع أسرته الموسرة الى برلين في أوائل العشرينات حيث تعرف الى روسية يهودية جميلة هربت هي أيضاً من روسيا مع اسرتها الثرية وثلاث وأربعين حقيبة سفر. كانت علاقتهما جسدية قبل الزواج، وعندما اضطرا الى الهرب الى باريس من النازية ارتبط بعلاقة جامحة مع روسية مهاجرة كاد يترك فيرا من أجلها. مع سقوط فرنسا أمام المانيا النازية انتقل مع زوجته الى اميركا وعلّم الفرنسية والروسية في كلية ولزلي للبنات في بوسطن. افتتنت كثيرات من طالباته بالمدرس الأوروبي الوسيم الواسع الاطلاع الذي كان يرتدي قمصاناً وردية وبدا دائماً في حاجة الى المساعدة، وغازل هو الفتيات الجميلات وواعد احداهن من دون أن يمارس الجنس معها. تكرر موضوع هيام الرجال الأربعينيين بالمراهقات في كتبه وأثار التساؤلات حول ميوله وحياته الخاصة، لكنه حضّر لذلك بالقراءة عن المراهقات والجنس ووجه اسئلة كثيرة الى ابنة احد اصدقائه. فشلت مؤلفات نابوكوف قبل "لوليتا" التي بدأت في 1947 مشروع قصة قصيرة، واستدان من اصدقائه ليؤمن عيشه. كانت فيرا تطبع وتصحح ما يكتبه وأنقذت الرواية كلما حاول نابوكوف ان يحرقها. أدرك كلاهما ان المجتمع التقليدي لن يتقبل غرام رجل في العقد الرابع بابنة زوجته التي تبلغ الثانية عشرة من عمرها. رفض خمسة ناشرين اميركيين "لوليتا" ورأوها خلاعية ومفسدة للأطفال أو خافوا من ملاحقة القضاء والخسارة المادية. أخيراً طبعت بالانكليزية في فرنسا في خريف 1955، ولم يتوقع الكاتب او الناشر نجاحها تجارياً، في حين خشيت فيرا العواقب واحتمال خسارة زوجها وظيفة قد لا يحصل على غيرها وهو في السادسة والخمسين. الرواية الملعونة صنعت مؤلفها وطبعت في اميركا بعد ثلاثة أعوام، وأدى ظهور فيرا المتوسطة العمر مع زوجها الى طمأنة الاميركيين الطهرانيين الى ميول الرجل الذي يقف وراء الكاتب همبرت همبرت عاشق لوليتا. احتلت الرواية قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الشهر التالي، وشعر نابوكوف وشريكته بالحرج عندما هبطت عليهما الثروة مع بيع كوبريك حقوق النقل بمئة وخمسين ألف جنيه استرليني، أي ما يفوق راتبه في جامعة كورنل، نيويورك، بسبعة عشر ضعفاً. فيرا التي شاركت زوجها الكفاح ثم النجاح لاحظت مع ناقد من "نيويورك بوست" الاستقبال العدائي للوليتا التي اعتبرت مسخاً شهوانياً سطحياً في حين رأت هي همبرت الوحش الحقيقي الذي يستغل ضعف الصغيرة واعتمادها عليه. قال نابوكوف انه سيبقى في الذاكرة بفضل "لوليتا" وترجمته "يوجين اونيغين" من الروسية الى الانكليزية، لكن الفيلم المقتبس عن الرواية الأخيرة فشل أيضاً العام الماضي. الخيانة عند الانكليز تعرض اوبرا "تريستان وإيزولد" في رويال أوبرا هاوس، لندن، حتى التاسع من تشرين الثاني نوفمبر المقبل، وتجدد النقاش حول أكثر الأعمال الموسيقية إروتيكية. هل كانت أوبرا ريتشارد فاغنر 1813 - 1883 أقوى أثر موسيقي اطلاقاً؟ لم يحدث أي موسيقي خبرة عاطفية عميقة كتلك التي تسبب بها فاغنر منذ عرض "تريستان وإيزولد" للمرة الأولى في 1865. ارادها أوبرا قصيرة تدر عليه المال بادئ الأمر، لكنه ما لبث أن وسعها لتشمل مثلث الحب والجنس والموت بعدما تعرف الى ماتيلد وزندونك زوجة أوتو تاجر الحرير الذي ساعد فاغنر حالياً، وقدم له منزلاً في زوريخ واستسلم للعاطفة الجامحة بين الموسيقي وزوجته. على أن علاقة الاثنين بقيت غير جسدية لأسباب مجهولة تماماً كتلك التي جمعت تريستان وإيزولد. شاع التصريف العاطفي العلني في ألمانيا القرن التاسع عشر عند حضور أعمال فنية تراجيدية، ولم يجد موسيقيون وكتاب بأساً في البكاء والاغماء وهم يشاهدون "تريستان وإيزولد". ربما كانت العاطفة الجياشة التي راجت بين الجمهور ما دعا فاغنر الى القول: "لم اخلق كغيري من البشر"، لكنه عجز عن استدراج الكاتب الاميركي مارك توين الى نهر الدموع. كان سمع عن الناس الذين عجزوا عن النوم وبكوا طوال الليل بعد حضور الأوبرا وأحس انه "الشخص العاقل الوحيد وسط مجموعة المجانين". اعتمد فاغنر على الرواية الألمانية لقصة العاشقين اللذين سحر أحدهما بالآخر منذ شربت تريستان الشراب الذي أعد لزوجها الذي أكرهت على الزواج منه. بقي حبهما روحياً على رغم الرغبة الكبيرة، لكن خيانة المرأة عوقبت في القرن التاسع عشر بصرف النظر عن الأسباب، ولم يختلف فاغنر عن ليو تولستوي مؤلف "آنا كارنينا" وغوستاف فلوبير كاتب "مدام بوفاري". عوضت الموسيقى عن اللقاء الحميم، ورأى موسيقيون ان الفصل الثاني وحده يحوي سبع ذروات جسدية، علماً أن هذه كانت تعتبر "موتاً صغيراً" في عصر النهضة. تأثر فاغنر بالفيلسوف آرثر شوبنهاور 1788 - 1860 فأتت موسيقاه في "تريستان وإيزولد" كثيفة وقاتمة وعميقة. وحرّكت الأوبرا فيه مشاعر غامضة وهو يكتبها فقال انه يفلت "شيئاً مخيفاً" على العالم قد يؤدي الى الخبل إذا عزف جيداً. وزاد ارتباط الأوبرا بالسحر عندما توفي بطلها بعد ستة اسابيع من بدء العرض ربما لتمدده على أرض المسرح الباردة. الكاتب الألماني توماس مان اعتمد على هذه "اللعنة" عندما كتب روايته القصيرة "تريستان" التي تموت بطلتها المصابة بالسل بعد أن تستمع الى موسيقى فاغنر وتشعر باثارة عاطفية وجسدية، وكانت "تريستان وازيولد" مع سمفونية ارويكا لبيتهوفن أكثر الأعمال تأثيراً في الموسيقى التي كتبت بعدهما. كره فاغنر اليهود والفرنسيين والانكليز والايطاليين وجعله النازيون موسيقارهم المختار. عرف بحب زوجات الآخرين وعاش بعيداً من زوجته الأولى مينا التي توفيت بمرض القلب. أحب كوزيما ابنة الموسيقي فرانز ليست التي كانت متزوجة من مايسترو بقي يعزف أعمال فاغنر حتى بعد أن تركته كوزيما. أصبحت هذه الزوجة الثانية لفاغنر لكنه تعب من عشقها له وخانها مع الكاتبة الفرنسية جوديث غوتييه. عندما قدم "تريستان وإيزولد" في 1877 في لندن قالت صحافتها ان تمجيد الخيانة "لا يطاق على المسرح الانكليزي" لكنها لم تستطع إلا أن تنحني ل"الموسيقى الرفيعة الجمال" فيها.