في 26 كانون الأول ديسمبر 1882، ولد اديب وصحافي وخطيب باللغة العربية، فرنكوفوني الثقافة، في قرية جبلية صغيرة تدعى صليما في جبل لبنان. كيف لا، والطفل فليكس فارس هو ابن حبيب فارس الصحافي الذي أصدر في مصر مجلة "صدى الشرق" عام 1891، وابن اخ ابيه انطون فارس صاحب جريدة "المرصاد" الصادرة في مرسيليا عام 1897. اما والدة فليكس فهي لويز شفاليه السويسرية الأم والفرنسية الأب التي تميزت بالجمال والثقافة. وهكذا يمكن القول بدوحة فارسية ثقافية شبيهة الى حد بعيد بالدوحات البستانية واليازجية والتقي دينية. وهي بيئات أدبية وفكرية تساعد المنتمي إليها على صيرورته أديباً أو مفكراً إذا كان يتمتع بموهبة ثقافية. درس فليكس اصول العربية في المدرسة الوطنية - بعبدات لصاحبها المربي والكاتب نعيم صوايا. ثم أتقن الفرنسية في مدرسة عينطورة الشهيرة. وبالطبع كان افعل استاذين للطالب فليكس هما والده حبيب وأمه لويز. فوز تخرجه، درّس فليكس في المدرسة الداودية في "عبيه"، ثم في مدرسة يوسف الحاج في "الشبانية". كذلك درّس في جامعة اليسوعية في بيروت، وتولى وظيفة سكرتير للمهندس لبيارسون في مصلحة سكة الحديد في بعلبك. ولكن إعادة الاعتبار للدستور العثماني في صيف 1908 كانت مناسبة لتحقيق حلم فليكس فارس المثلث الأهداف: ممارسة الصحافة، ونشر القصائد والمقالات الأدبية، وخوض المعارك السياسية تعزيزاً للحرية والديموقراطية اللتين ظن فليكس ان جمعية الاتحاد والترقي جادة في صيانتهما وترسيخهما. وهكذا، أسس فليكس مع نجيب شوشاني والشاعر شبلي ملاّط جريدة "الوطن" اليومية الجامعة، حيث ظهر العدد الأول في 22 ايلول سبتمبر 1908، احتلت قصيدة وطنية غير موقّعة ثلثي الصفحة الأولى من العدد الأول. ويفترض انها من نظم شبلي ملاط. تلتها الافتتاحية النثرية غير الموقّعة ايضاً حيث يفترض انها لفليكس فارس حيث قال في مستهلها: "دعونا جريدتنا باسم الوطن تيمناً واستبشاراً بأننا قد وجدنا تلك الضالة التي نشدناها حقبة من الزمن واجتمعنا بأكرم بقعة من الأرض كانت عندنا قبل الحكومة العثمانية الشوروية من اسماء الغول والعنقاء. أضعنا الوطن دهراً، وفي ضياعه قد فقدنا تلك القوة العظيمة التي يمثلها مجموع الأمة المتناصرة المتعاضدة. فكنا ننظر عن بعد الى الأمم المترقية الناهضة ودمعة الأسف في الجفون". وباعتبار ان التعاضد او التناصر عملة غير متداولة حتى على مستوى الشراكة الصحافية، فسرعان ما انسحب فليكس من "الوطن"، ليصدر وحيداً، وفي بيروت ايضاً، جريدة "لسان الاتحاد" في 8 شباط فبراير 1909. ومن على صفحات جريدته التي استمرت بالصدور حتى 4 آب اغسطس 1911، استأنف فليكس افتتاحياته وكتبه المفتوحة، حيث اضاف الى الحرية والديموقراطية او الشورى، اللامركزية التي نادى بها الكثر من متنوري بلاد الشام على اساس انها توفر قدراً معيناً من الاستقلال. ومما قاله "الى النواب العثمانيين كلهم" في الكتاب المفتوح المنشور في حيّز افتتاحية العدد 68 الصادر في 18 حزيران يونيو 1910 "إن كنتم لا تريدون مؤاخاة المسيحيين او العرب أو غيرهما، فقولوا نحن لا نريد ان تكون الدولة العثمانية إلا للأتراك، لا نريد إلا خلافة تركية". وقال ايضاً بأسلوبه الخطابي المتميز بالبلاغة القرآنية المترافقة مع مضمون عميق ومنطقي وجرأة لافتة وقتذاك: "لما اختارتكم الأمة وكلاء، حلف موسويّكم بتوراته ومسيحيّكم بإنجيله، ومسلمكم بقرآنه، لنصدقن الخدمة ولننصرن الحق على الباطل. تلك ايمان خفتت عندها اصوات المدافع ورجعت صداها جوانب البلاد بما فيها. فإن كنتم على تلك العهود مقيمين، فهاتوا برهانكم ان كنتم صادقين". والجدير ان فليكس كان يصدر جريدته البيروتية وهو في حلب حيث تولى التدريس. وقد تولى والده حبيب الإدارة ورئاسة التحرير خلال تغيبه. وربما شاء الإقامة في حلب، لقربها من الآستانة حيث كان يسافر إليها ويحضر جلسات مجلس المبعوثان ويحاور اركان "الاتحاد والترقي" مع موقع الحليف والمصوِّب للأخطاء. ومن النهج الإيجابي نفسه، تعاون فليكس مع الفرنسيين اثر احتلالهم لبنان وسورية وفق صيغة الانتداب التي باركتها عصبة الأمم. وبالطبع، كان تعاونه مع الفرنسيين اكثر عمقاً وأطول عمراً، نظراً لتمكنه من اللغة الفرنسية، وهوية امة الفرنسية لجهة ابيها. وهنا يجدر القول ان سجله الوطني خال من اي عمالة للأجنبي، ما يؤكد انه تقرّب من الاتحاد والترقي اولاً، والمفوضية الفرنسية تالياً، من اجل خدمة شعبه ووطنه. ولكن هذا النهج ليس الوحيد او الأفضل للعمل الوطني. لذلك شنّ البعض عليه حملات قاسية ومنهم الفلسطيني الوطني محمد علي الطاهر. كان الانتداب في مطلع عهده عندما أبحر فليكس مع الفنان جان الدبس باتجاه القارة الأميركية. كانت الرحلة سياسية، وتستهدف ثلاثة امور على صعيد الجاليات وعلاقتها ببلاد الشام: إبراز مدى الظلم والتخلف اللذين نتجا عن الحكم العثماني. اقناع اللبنانيين والسوريين بصوابية اسقاط حكم فيصل الأول... تفعيل تواصل المغتربين مع المقيمين من النهوض بالوطن بمساعدة الانتداب الفرنسي. وبطبيعة الحال، انقسمت الجاليات وقادتها حيال فليكس ومهمته. ولكن هدفاً رابعاً لم يكن مدرجاً في برنامج الرحلة، لم يحصل خلاف بشأنه، ولا شنّت الحملات ضد فليكس بسببه. ويمكن تلخيص ذلك الهدف بكلمة واحدة: الأدب. كانت الحركة الأدبية التجديدية قطعت شوطاً، خصوصاً في نيويورك، عندما تمت الرحلة في اواخر العام 1921. أقيمت مهرجانات ولقاءات حاشدة عدة في نيويورك وغيرها. وكان فليكس قيدوم الخطباء، حيث القى خطبة باللغتين العربية والفرنسية. وبلا وعيه، او بقصد، كان ينحرف عن هدف الرحلة السياسي، ليخوض في الثقافة والتاريخ والحضارة، ما يوحي وكأن السياسة بنظره اكبر من الأمور الآنية، وهي والثقافة وجهان لعملة واحدة. في نيويورك ألقى خطباً عدة باللغتين العربية والفرنسية. ولكن خطابه الفرنسي الذي القاه داخل قاعة "المجمع العلمي الفني الفرنساوي" في 21 آذار مارس 1921 كان الأبعد مدى، اذ انه استشرف جذور ما حدث في 11 ايلول 2001 بأسبابه وحلوله. قال الخطيب بلغته الفرنسية المتينة: "لقد آن للشرق والغرب ان يتفاهما. لقد آن للعالم القديم ان ينشر جناحيه بحركة متوازنة، ويعلو في أفق الإنسانية ليخلصها من التناكر والاصطدام. لقد طالت اعصر التعصب والمطامع وأيام الدموع والدم، وحان لنا ان نصل الى عصر التفاهم والنور". كان في طليعة الحاضرين جبران خليل جبران الذي لم يسبق ان التقى بفليكس او تلقّى رسالة منه. وسرعان ما توطدت اواصر الصداقة الممزوجة بالإعجاب بين الرجلين المريضين والمتقاربين سناً،منذ اللقاء الأول في منزل صديقة جبران ماري عزيز الخوري في نيويورك. وإثر سماعه لفليكس الخطيب، بعث جبران بكلمة لجريدة السائح، نُشرت في 16 شباط 1922، قال فيها: "كان لخطاب فليكس فارس تأثير عميق ثابت في نفسي، لأنه أبان لي شاعراً ذهبي القلب يرى لباب الحياة دون قشورها، ويحبّ امته حتى العبادة، ولا يمزج حبه بأعاصير سياسة الأحزاب او بمسحوق المنازع الذاتية". وتبادل الرجلان الرسائل اثر عودة فليكس الى الوطن. فقال الأخير لجبران في رسالة مؤرخة في 22 نيسان ابريل 1922: "انتظرت ليصفو صوتي من غصة الدموع، فما جفّت مناهلها. أردت ان أكتب إليك مغرّداً لا نائحاً، فرأيت القلم يعصيني فأطعته. جبران: إن رؤيتي لك عليلاً كانت اشدّ علي من علّتي. إن في روحي إليك شوقاً يشبه شوقي الى المقر الذي تركت قلبي فيه هنالك على مرفأ بيروت تتطلع عيناي الى جنان ارزي وجنّات بلادي، وقربك يا جبران تتطلع روحي الى ارزها الخالد كأنها على شاطئ الكون الحق... تعال لتسمع سماءك الصافية كل ما في اناشيدك من الصفاء، ولترسم ريشتك عن الأصل ما ترسمه الآن عن انطباعات الخيال في قلبك". اجاب جبران: "لم أزل رهن الأطباء الأخصائيين، وسأبقى رهن مقاييسهم وموازينهم حتى يتمرد جسدي عليهم او تتمرد روحي على جسدي. ولكن تمردت ام لم أتمرد، فلا بد من الرجوع الى لبنان، لا بد من التملّص من هذه المدنية السائرة على دواليب، ومعانقة تلك المدنية المستسلمة لنور الشمس. على انني ارى من الحكمة ألا أترك هذه البلاد حتى أقطع الخيوط والسلاسل التي تربطني بها. انني اريد أن أذهب الى لبنان وأبقى ذاهباً". لم يدرس فليكس القانون في الجامعة. ولكن ثقافته القانونية الواسعة وموهبته الخطابية - والخطابة كانت من اركان المحاماة - ونزعته العميقة للدفاع عن المظلومين... قد دفعت بنقابة المحامين في بيروت الى التصويت على تكريسه محامياً، بقرار مؤرخ في 23 ايلول 1924. وقد وقّع القرار المحامي الشاعر امين تقي الدين، ومن يتصفح كتابه "أيها القضاة" يتأكد من توفّر الحجة القانونية، المسبوكة بعبارات ادبية ونبرة خطابية، والنابعة من قناعة نهائية، ليس فقط لإنقاذ الموكل من حبل المشنقة، بل ولإلغاء عقوبة الإعدام. وعلى سبيل المثال، نقرأ في مرافعته عن فؤاد المعراوي بعد اشهر من منحه شهادة المحاماة مخاطبته للقضاة على النحو المؤثر التالي: "قولوا كلمة الإعدام إذا شئتم. أما أنا فبعد ان تكلمت بما أوحى الحق إليّ وقد اوجدت بالعذاب والآلام لصوت الحق الى نفسي سبيلاً بعد ان قمت بواجبي أحني الرأس وانسحب من امامكم شاكراً الله لأنني لست احد الخمسة الذين يمثلون الإنسانية ويتحملون مسؤولية الحياة والموت". وبعد مداولة قصيرة، رفض القضاة مطالبة المدعي العام بإعدام المعراوي، مستجيبين الى نداء المحامي فليكس النابع من عمق الوجدان بعيداً عن "داللوز" وسائر المراجع الحقوقية. ولم يشذ فليكس عن قاعدة هجرة المثقفين الشوام الى مصر،وبخاصة الى الاسكندرية التي سبقه إليها مؤسسا "الأهرام" بشارة وسليم تقلا، وسليم نقاش وأديب اسحق وسليم سركيس، ورشيد شميّل وفرح انطون. ولكن، ثمة فارق في التوقيت، ففي حين عاد بعض الصحافيين والأدباء الى بيروت بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد في صيف 1908، وعاد معظمهم من الاسكندرية والقاهرة ابان الانتداب الفرنسي... مشى فليكس عكس السير، حين هاجر الى الاسكندرية عام 1931، بعد مضي عشر سنوات على الانتداب، وعلى رغم فرنكوفونيته وصداقته للفرنسيين. ومن المرجّح انه اقتدى بصديقه جبران الذي ودّع السياسة بعد يأسه من الإصلاح، وانصرافه الى الأدب. وفي الاسكندرية، استقرّ مع عروسه اوجيني الهبر، ترأس غرفة الترجمة في البلدية وتولى ايضاً سكرتيرية المجلس البلدي، ورزق ثلاثة اولاد: حبيب وأديب وسلوى، - توفي في 27 حزيران 1939- وفي المدينة المتوسطية التي امضى فيها بقية عمره القصير، تابع ما بدأه في بيروت وحلب والآستانة ونيويورك، فاعتلى المنابر، وملأ الصحف بمقالاته ومداخلاته، وكتب الكثير من الرسائل. يبقى أن فليكس فارس اورث قراء العربية مجموعة كتب منشورة ومخطوطات عدة باللغتين العربية والفرنسية، اضافة الى آلاف المقالات التي نشرها في "الوطن" و"لسان الاتحاد" وعشرات الدوريات الأخرى. اما عناوين الكتب التي نشرها فهي: رسالة المنبر الى الشرق الغربي، هكذا تكلم زرادشت مترجم عن الفرنسية، اعترافات فتى العصر مترجم عن الفرنسية، رواية الحب الصادق، شرف وهيام، النجوى. وتحتوي لائحة المخطوطات العناوين التالية: المراحل: سياسة وأدب واجتماع، القيثارة: ديوان شعر، قلعة حلب، الأحرار في الشرق، الأحرار في الشرق بالفرنسية، رؤى متصوّف عربي بالفرنسية، من إلهام الشرق بالفرنسية، من حدائق الغرب مترجمة عن الفرنسية، بين عهدين: قبل الاحتلال وبعده، امام المحاكم: الإجرام والقانون، الأغلال مسرحية مترجمة عن الفرنسية، ثورة اثينا مسرحية شعرية نثرية، حديث الأزهار مترجمة عن الفرنسية. أعاد نجله الدكتور اديب نشر الكتب الستة المنشورة في اربعة مجلدات، ثلاثة منها حملت عناوين: "رسالة المنبر"، و"هكذا تكلم زرادشت"، و"اعترافات فتى العصر"، وضم المجلد الرابع مسرحية "الأغلال" وروايتي "النجوى" و"شرف وهيام" ونشر للمرة الأولى ديوان "القيثارة"، ومخطوطة "أمام المحاكم" تحت عنوان "أيها القضاة"، ومجموعة مقالات ورسائل في كتاب بعنوان "من ادباء النهضة العربية". وسينشر قريباً المجلد التاسع بعنوان "لسان الاتحاد" الذي يضم نخبة من المقالات السياسية والأدبية التي سبق ونشرها في جريدته "لسان الاتحاد".