جرت العادة أن ينتقل الصحافي من بيروت الى القاهرة مثلاً خلال الاحتلالين العثماني والفرنسي، بسبب ضيق مساحة الحرية، وتناقض سياسة الجريدة مع سياسة المحتلّ. بل ان بعض الصحافيين انتقلوا من بيروت الى فلسطين خلال الانتداب، لأن مناهضة صحفهم للفرنسيين لا تزعج الانكليز. من هنا سرّ توقف صدور جريدة "الحقيقة" لكمال عباس في بيروت، وظهورها باسم "اليرموك" في فلسطين. ولكن مجلة "المحبة" البيروتية استأنفت الصدور في حيفا كجريدة، من غير ان يكون هناك سبب وجيه لانتقال صحابها فضل الله فارس أبي حلقة من بيروت الى حيفا، باستثناء صحة معلومة مؤرخ الصحافة العربية يهوشع التي سنأتي على ذكرها في ختام هذه العجالة. يمكن الاستنتاج، من خلال امتلاك أبي حلقة لمجلة أسبوعية وصحيفة يومية خلال 14 سنة من غير ان تكون له افتتاحيات أو مقالات، أن صحابنا وجيه وغنيّ، يتوسّل الصحافة لتأمين مكانة في المجتمع، ولا مانع لديه ان تفيد مطبوعته قراء ذلك المجتمع. أصدر مجلة "المحبة" في بيروت عام 1899، واستمرت خمس سنوات منبراً للطائفة الأرثوذكسية. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1908 تحولت الى صحيفة يومية حين تولى كامل حميّة رئاسة تحريرها، وأصبحت سياسية عامة، تشيد بالحرية والديموقراطية اللتين توفرتا في السلطنة العثمانية في صيف 1908 اثر الانقلاب على السلطان عبدالحميد. وبعد ان صدر منها 87 عدداً، توقفت بصورة موقتة من دون سبب منطقي، بدليل انها استأنفت الصدور في حيفا، حيث النظام واحد والوالي هناك لا يختلف عن والي بيروت الا بالإسم. في 24 شباط فبراير 1912 صدر العدد الأول من "المحبة" الحيفاوية، وهو العدد 538 من صحيفة "المحبة". وكما في بيروت، اكتفى أبي حلقة بمنصب ملكية الجريدة اذ تولّى متري حلاّج ادارة التحرير. هنا، تبرز مجموعة أسئلة قد لا نعثر على أجوبة عليها، خصوصاً حين نقرأ لحلاج في افتتاحية العدد الأول العبارة الآتية: "عدنا الى اصدار هذه الجريدة عملاً بنصيحة الأصحاب وأوقفنا جريدة جراب الكردي الفكاهية التي كان يصدرها محرر هذه الأسطر". هل أوقف صاحبنا جريدته لأنها فكاهية، ولكن لماذا لم يسع للحوصل على امتياز باسم رصين؟ ولماذا يتكلم وكأنه صاحب "المحبة" في حين ان ترويسة الجريدة تؤكد ان فضل الله فارس أبي حلقة هو صاحب الامتياز. ولنعد الى الافتاحية التي يستهلها حلاّج بالاشارة الى ان الصحيفة التي يصدرها في حيفا ليست سوى "جريدة المحبة التي كانت تصدر في بيروت". يضيف محاولاً رسم سياسة "المحبة" الحيفاوية التي لا تختلف عن سياسة أية صحيفة نموذجية، حيث تتمحور على وظيفتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بالناس وتستهدف "رفع نفوسهم من حضيض الجهل والغباوة الى قمة المعرفة والسعادة، والثانية "وهي نشر أعمال الحكومة ومقاصدها وتأييد المبادئ والأفكار الصائبة ومحاربة الأفكار الضالة". وتحت عنوان "حاجتنا الى حكومة قوية" انتقد محرر الصحيفة حكومة الاتحاد والترقي الضعيفة، وطالب بحكومة قوية "تعزز جانب الشعب وتحمي حقوقه من ان تعبث بها أيدي الجائرين وتقف سداً منيعاً من دون مطامع أعدائه في الخارج". وتساءل الكاتب: "بماذا تقوم هذه الحكومة القوية التي ينشدها الشعب"؟ وأجاب: "انها تقوم برجال اكفياء يتولون زمام الأمور، ويعملون يداً واحدة وقلباً واحداً لما به اصلاح شؤون الأمة والبلاد". وأكد في ختام المقال ان جمعية الاتحاد والترقي لو حرصت على ثقة الشعب منذ بدء الانقلاب "لما وصلنا الى ما صرنا اليه اليوم من الاختلال الداخلي والخارجي". وحلاّج هنا يتبع نهجاً شبيهاً بالذي اتبعته نخبة الصحافيين الوطنيين في بيروت ودمشق أمثال سعيد عقل وعبدالغني العريسي والشيخ أحمد طبارة وعمر حمد وباترو باولي، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لكتاباتهم، حين شنقهم أحد أركان الاتحاد والترقي أحمد جمال باشا الملقب بالسفاح. كانت المعركة الانتخابية في عزها حين صدر العدد الأول. لذلك، حفلت "المحبة" بالأخبار والتعليقات الانتخابية. وكان توفيق المجالي احد المرشحين فكتب شكري العسلي في صحيفة "المقتبس" لمحمد كرد علي، مقالاً لمصلحته حيث قال: "إذا تأخر أحد عن انتخابه يكون محروماً من الشرف والأخلاق العربية". وعلّق محرر "المحبة" متسائلاً: أهكذا يرشحون أبناء الوطن لخدمة الوطن يا عسلي"؟ وبلغ عدد مرشحي لواء عكا "العشرين ذاتاً فتساءل حلاج: "لا ندري اذا كان كل هؤلاء غيورين على خدمة الوطن ومتفانين في اعلاء شأنه، أم كل واحد منهم يركض وراء مصلحة نفسه. فمن لنا بمن يلج الى قلوبهم ويكشف لنا ما انطوت عليها من الأسرار الغامضة". لم تقتصر الانتخابات على مجلس النواب أو "المبعوثان"، بل هي شملت بلدية حيفا. ولما كان انتخاب رئيس البلدية موازياً "لانتخاب مبعوث" فقد طالبت "المحبة" الحيفاويين ان يضعوا "نصب أعينهم الضمير والذمة وينتخبوا من يروا فيه الكفاية والمقدرة ولا يكونوا عبيداً لذوي النفوذ". وتوقفت "المحبة" في آذار مارس 1913، أي بعد عام وشهر من صدورها. هل يكمن السرّ في مناهضتها للوالي التركي وسياسة الاتحاد والترقي؟ من المرجّح ان يكون ذلك سبب توقفها أو توقيفها أسوة بالصحف المعارضة في بلاد الشام آنذاك. ولكن هذه، أو بعضاً، كجريدة "المفيد" لعبدالغني العريسي، كانت مناهضة للمشروع الصهيوني. فهل كانت "المحبة" مؤيّدة للإستيطان اليهودي، وفق ما أكده يهوشع نقلاً عن صحيفة "أحيروت" التي علقت على توقف صدورها بالآتي: "هذه الصحيفة ناضلت ضد أعدائنا ودافعت عن مستوطناتنا فتوقفها مما يؤسف له"؟ اذا كان صحيحاً ما قالته "أحيروت"، فإن ما أسف له المستوطنون كان بمثابة عيد للوطنيين الفلسطينيين. * كاتب لبناني.