من الصعب ان تكون لا مبالياً إزاء فيلم "عود الريح" للمغربي داود اولاد سيد. فهو كما يقول عنه مخرجه "قد تحبه وقد لا تفعل، لكنه يترك اثراً لدى من يشاهده". فاز الفيلم بجائزة "الجمهور الشاب" في مهرجان نانت الدولي، كما ذهبت جائزة التمثيل الأولى الى الفنان محمد ماجد عن دور الرجل العجوز في الفيلم نفسه. يحكي الفيلم قصة عجوز وشاب تلاقيا بالصدفة ومشيا معاً في رحلة بحث مشتركة عن امل ضائع. العجوز أراد قطع المسافات الطويلة "ليزور" زوجته الراحلة في قبرها، ليحادثها وهي الوحيدة التي احب وعنت له شيئاً، وافتقد بغيابها جليساً وأنيساً لم يستطع ان يحل احد مكانه. والشاب كان يروم رؤية ام لا يعرفها، هجرته وإخوته وهم اطفال، ثم وبعد سنوات الغياب، استلم منها رسالة تدعوه فيها الى رؤيتها قبل ان يوافيها الأجل. لقاء بين يائسين، يتعلق كل منهما بالآخر ويجد فيه ما افتقده، وما لم يجده في الآخرين. فيلم مليء بالشاعرية ومؤثر. عند الخروج من الصالة يمكن ان تنتابك رغبتان متناقضتان، مناقشة ما رأيت، والصمت لتتأمل. لا تستطيع الفكاك من انقباض يسيطر عليك اثناء المتابعة، وقلق ما. حوار مركز، شخصيات هامشية، أمكنة غريبة الأجواء مدينة ملاهي مهجورة، مركب قديم، طبيعة صحراوية، شاطئ بحر، قرى فارغة... رؤية سوداوية، لا يكتفي المخرج بنفيها بل يرى ان الأمل هو الرؤية المسيطرة. على رغم اختلاف ما رأينا ورأى البعض غيرنا، وبين ما رآه، سادت الحوار معه روح مرحة تميز شخصية داود اولاد سيد، وهو الذي اغرقت تعليقاته جمهور الصالة بالضحك حين قدم الفيلم قبل العرض. كيف اتت فكرة الفيلم؟ - كتب الفيلم المخرج احمد بو عناني، وهو شاعر ايضاً. وحين طرح فكرة الفيلم علي، اعجبتني جداً. وكان كتب لي كذلك فيلم "السراب". نعمل سوية في الأفلام القصيرة والطويلة، ونشكل ثنائياً متفاهماً فنحن متشابهان ولدينا المخيلة نفسها. القدر انت دكتور في الفيزياء، وقبل ان تتجه الى السينما بدأت بالتصوير وأقمت معارض في الكثير من دول العالم: اميركا، فرنسا... كيف تم هذا التحول؟ - انها مسألة قدر! خلال دراستي في فرنسا، دخلت صدفة الى غاليري تعرض صوراً للمصور الفرنسي الشهير هنري كارتييه بريسون. كنت علمي الهوى، ولم يكن لي اي دخل بالثقافة أو الأدب، وعند خروجي من المعرض، اتجهت فوراً لشراء آلة تصوير. لقد اكتشفت المثل الصيني الذي يقول "الصورة عبارة عن ألف كلمة". هل تفرغت بعدها للتصوير والسينما؟ - لا، كنت في الوقت نفسه طالباً مجتهداً. وأنا الآن استاذ في الجامعة في المغرب ولدي محاضرة بعد ثلاثة ايام. إذاً السينما هواية وليست وسيلة للعيش بالنسبة إليك؟ - السينما هي "الهوى"، لأنها الحياة. لماذا تعجبني؟ لأنها تمثل الشمول، فيها الآداب، والحضارة والفن والأزياء... لقد مشيت بعيداً في فن التصوير ووصلت الى مرحلة لم أعد اشعر معها بأن ثمة من مزيد اقدمه، اعطيت كل شيء. وجاءتني السينما عندما التقيت، في المغرب مدير مدرسة السينما في باريس، واقترح علي المشاركة في دورة للسينمائيين ستقام في مدرسته. في الحقيقة، استغللت الفرصة، وقلت انني اعمل في السينما كوني مارست التصوير، ولاعتقادي بأن السينما هي حكايات، هي "طريقة الحكي" إذا جاز التعبير، فإذا كنت من الرواة ولديك آلة للتصوير، فلا بد ستكون من افضل السينمائيين في العالم، هكذا بدأت. وفي البداية، انجزت افلاماً وثائقية، ثم اخرجت فيلمي الروائي الأول في 1998 "باي باي اسويرتي". ما يصدم في فيلم "عود الريح"، تلك الرؤية السوداوية والقتامة المسيطرة على الأجواء... - يقاطعني ضاحكاً، لا، على العكس، هذا غريب! لست متفقاً معك على الإطلاق. الأمكنة غاية في الجمال، الديكور كذلك. ادريس الشاب في الفيلم اراد الانتحار، لكن طاهر العجوز انقذه. اخرجه من الماء، أعطاه الأمل. أعطاه أي أمل؟ وأي حياة تلك؟ بؤس وهامشية... شعرنا وكأنك تقسم العالم في فيلمك الى فئتين: العمليون الذين لا يهتمون إلا بسعر كيس الإسمنت لبناء بيت لهم، والحالمون الذين يعيشون على هامش المجتمع ويصلون بأحلامهم الى اللاشيء! - الحلم! هذا هو الشيء الجميل... فيلمي متفائل جداً! أتفق معك على ما يتعلق ببداية الفيلم. فثمة هاربان من الحياة، لكنهما التقيا في النهاية ووجد كل منهما في الآخر ما يفتقده. فيلمي ليس "رود موفي" Road Movie، انه بحث. بحث الإنسان عما ليس لديه، ويأمل بإيجاده. انا هكذا ايضاً! ابحث عن فكرة ما، عن اي شيء يحقق لي غرضي، اريد ان يكون فيلمي افضل فيلم في العالم... البحث هو محرك الحياة. هذه هي الحياة، وأنا أعشق هذه الحياة وهذه السينما. الحكيم الغريب في بداية الفيلم يشار الى العجوز كمجنون، وكإنسان غريب الأطوار لأنه أراد الرحيل، ثم نلاحظ حكمة الرجل من خلال كلامه، هل ترى ان نظرة الناس الى الحكماء هي على هذا النحو؟ - لا، إنهم فقط لا يتقبلونه. فكنة العجوز لا تريده مع العائلة، والسؤال الذي أردت طرحه هو عن مكان آبائنا وأجدادنا الآن في العائلة. وفي الوقت الحالي، تشكل تلك مشكلة في المغرب. وبعد ان كانت العائلات تعيش مجتمعة، يذهب كل في طريقه بعيداً من العائلة. تؤكد على مكانة الصمت وقيمته في الحياة، ويسير الفيلم على وتيرة بطيئة... - نعم، اعشق الصمت يضيف ضاحكاً لأنني كثير الكلام ربما! وفي حضارتنا الآن، يلاحقنا ضجيج ما في اي مكان، والناس يتكلمون كثيراً. اما عن البطء، فأنا أحبه في الأفلام، إذ في حياتنا اليومية، لدينا الوقت. نتناول القهوة والشاي ونتسامر من دون استعجال. الأمور تسير على هذه الوتيرة وليس كما هو الحال هنا فرنسا. الناس عندنا لديهم الحياة امامهم، والوقت معهم. وهذا الأسلوب يعجبني. انما يجب التنبه الى الفارق بين البطء والتطويل. مع التطويل قد نشعر بالملل، حتى في فيلم قصير. اما البطء فهو اسلوب، هو طريقة رواية الأشياء. اتى اختيارك للأمكنة متناسباً مع الشخصيات، امكنة غير محددة المعالم بين المدينة والقرية، بحر وصحراء... قوية الحضور، لكنها هامشية كشخصيات الفيلم. كيف اخترتها؟ أبحثت عن الجمال ام عن مناسبتها للشخصيات؟ - بحثت عن مناسبتها للشخصيات. إنها كاللباس بالنسبة لي. أبحث عن الألوان. لعلك لاحظت عدم وجود اللون الأبيض في فيلمي. انا دقيق جداً في كل ما يتعلق بالديكور والملابس والمحيط. احضر ذلك كتحضير طبق الطاجين على سبيل المثال. اعشق الذهاب الى السوق واختيار الخضراوات والبهارات، انها ما يشكل الطبق في نهاية الأمر. ومنذ ثلاث سنوات وأنا أبحث عن امكنة تلائم فيلمي. وأثناء التصوير جاءني صديق وتساءل مندهشاً عن "الميزانية الكبيرة" للفيلم بسبب ما رآه من ديكور، كان في الحقيقة طبيعياً أو موجوداً من قبل، كالقارب الذي وجدناه صدفة واستخدمناه. حدثنا عن ردود الفعل تجاه فيلمك؟ - عرض في مهرجان مراكش الأخير وفي عرض خاص في المغرب. صراحة، ليس هو الفيلم التجاري الذي سيتزاحم الجمهور عليه! ولكن ما لاحظته هو ان الناس عند خروجهم من العرض لا يخرجون غير مبالين بما رأوا، إنه يترك فيهم أثراً، سواء احبوه ام لا. وفي الواقع لا أنتظر شيئاً. لقد نفذت الفيلم وهذا هو المهم في الأمر. لا أقول في البداية، سأقوم بعمل فيلم ليعجب الناس! لا ريب ان المخرج يشعر بسعادة اذا حظي فيلمه بالإعجاب. وقد كان النقد ممتازاً. حتى ان بعض الانتقادات حصلت خلال مهرجان مراكش لأن الفيلم لم يعرض في المسابقة الرسمية. اما على الصعيد العام، فأعلم ما يريده الجمهور في المغرب، لكن الأفلام الناجحة التي تستقطب الجمهور لا تمسني. وما هي الأفلام التي تستقطب الجمهور في المغرب؟ - الأفلام الموزعة لدينا، اي الأميركية والهندية وأفلام الكاراتيه. وهي تشكل 99 في المئة من المعروض والبقية هي للأفلام الفرنسية! والسينما المصرية؟ والمغربية؟ - المصرية، انتهى أمرها منذ زمن، ولا وجود لها حالياً في السوق. اما المغربية، وعلى قلة عدد افلامها، فهي نوعان: تلك التي تستقطب الناس، وأخرى للمهرجانات الصغيرة أو الكبيرة. كنت سعيداً بإنجاز فيلمي، كنا بالأحرى سعداء به ولدي الآن فيلم آخر مختلف تماماً عن امرأة. يذكرنا هذا، بغياب المرأة عن "عود الريح"! - في أفلامي كلها، لا وجود للمرأة! ليس لأنني ضدها ضاحكاً! لكن لأن القصة كانت تستدعي ذلك. هذا كل شيء. في فيلمي المقبل لن يقال لي لا امرأة فيه! ستكون هناك امرأة، وجميلة ايضاً!