ترقب شعاع شمس في سماء تكاثرت فيها الغيوم، جعل انتظار فريق تصوير الفيلم، الموجود في إحدى قرى إيران الشمالية، يطول. تتناهى الى الممثل العجوز إصابة زوجته بأزمة قلبية في طهران. يقرر ترك التصوير، ولم يبق على إنهاء الفيلم سوى مشهد واحد، للالتحاق برفيقة عمره خوفاً من أن يختطفها الموت وهو بعيد منها. نتابع تحركات العجوز وأحاسيسه العميقة، ومحاولاته الرجوع الى طهران بمختلف السبل وبأقصر مدة زمنية ممكنة. أثناء تقديم فيلمه الروائي الأول "الغيوم والشمس المشرقة" الذي عُرض في مهرجان نانت السينمائي، أكد محمود كالاري ان من سيصمد في الدقائق العشرين الأولى من الفيلم، لن يستطيع تركه بعد ذلك. لم نجد صعوبة في الصمود. فهذا الفيلم جذبنا ببعده الإنساني الآسر وبمواقفه المعبرة و طرافته أيضاً، عدا عن الاجتهاد الفني الواضح فيه. ومحمود كالاري الذي كرمه مهرجان نانت في دورته هذا العام بعرض فيلم عمل فيه مدير تصوير ومع أكبر مخرجي إيران، بدأ حياته المهنية مصوراً صحافياً لوكالة "سيغما"، ودخل عالم السينما بعد معرض صور له، أقيم في متحف طهران، إذ على أثره عرض عليه المخرج مسعود جعفري العمل معه في أول فيلم سيخرجه. وعلى رغم أنه "لم يسبق له أن وضع عينه على عدسة سينمائية"، وافق بعدما أكد له جعفري أن ما عليه هو فقط "تركيب المشهد" على أن يساعَد تقنياً. نال كالاري الجائزة الأولى في التصوير في مهرجان الفجر عام 84 عن هذا الفيلم، ليبدأ أبرز مخرجي ايران: مهرجوي مخملباف، كياروستامي، طلبه للعمل معهم حتى وصل عدد الأفلام التي صورها الى أربعين. "الحياة" التقت كالاري في نانت وكان هذا الحوار: ما الذي دفعك الى الانتقال من التصوير الى الإخراج؟ - أفكر بالإخراج منذ البداية، لكن صعوبة إنتاج أفلام غير تجارية هو الذي أوقفني، الى أن عرضت عليّ قصة لإخراجها. كانت الشركة المنتجة متسمكة بها على رغم تفاهتها، لثمنها الرخيص. عرضت عليها سيناريو كنت كتبته، ولم يكن يتجاوز الصفحات العشر بدلاً من القصة. فوجئ أصحاب الأمر وطلبوا مئة صفحة على الأقل! ثم وافقوا بعدما شرحت لهم أن "الخلاصة" هي هنا وأنني سأتقيد بما طلبوه مني من عدم تجاوز الموازنة والمدة المحددة للتصوير. لم يكن في الفيلم سوى أربعة محترفين والباقي من الهواة. أنجزته بموازنة ضئيلة جداً. إنها حال الإنتاج في إيران. من دون أجر كم تبلغ موازنة الفيلم الإيراني في المتوسط؟ - قد تصل الكلفة في السينما التجارية، الى 150 ألف دولار، وفيلمي كلّف نصف هذه القيمة، لأنني لم أحصل على أجر. وكنت الكاتب والمصور والمخرج. وثمة أمر أود الإشارة إليه هو مساعدة وزارة الثقافة لنا. فهي تبيعنا النيغاتيف بأسعار رخيصة وتؤجرنا المعدات. صحيح أنها ليست على درجة عالية من التطور، لكنها مناسبة. نلاحظ اعتماد السينما الإيرانية، الفنية منها بخاصة، الممثلين الهواة. هل السبب مادي بحق كونها سينما ذات جمهور محدود ربما؟ - السبب الأول مادي بالفعل، لأن أجور هؤلاء متدنية. لكن الأهم أن وجود أناس حقيقيين في سينما كهذه تتجه نحو الجوانب الإنسانية وتعرض صورة الحياة الواقعية، سيكون له وقع أقوى على المشاهدين. وستصل إليهم وتمسهم في شكل أفضل. هل العمل مع "الناس الحقيقيين" كما تقول، أليس أكثر صعوبة من العمل مع المحترفين؟ وكيف اخترتهم لفيلمك؟ - اخترتهم من القرى التي مررنا بها. كنا نزور الناس في بيوتهم ونشرب الشاي معهم، ثم اختار البعض منهم بعد اختبار بسيط. أما عن الصعوبات فالعمل معهم ليس أكثر مشقة. ممثلي الأول الذي تجاوز الثمانين كان يعاني أحياناً صعوبات في تذكر الحوار نظراً الى أدائه اللافت، كنا نعتقده أحد كبار الممثلين الإيرانيين. والشاب الذي رافقه في السيارة الى طهران في الفيلم نجار أتى ليعدّ بعض الديكور للفيلم، ولم ينقطع عن طرح الأسئلة "لماذا أنتم في هذه القرية النائية؟! كم تبقون؟ شهرين في هذا المكان البارد! لماذا لا تنهون فيلمكم في يومين وتغادرون؟!" طلبت منه نطق جملة في الفيلم وبالطريقة نفسها أمام الكاميرا لم يكن طبيعياً في المرة الأولى، وطلبنا إعادة التصوير في اليوم التالي، لأن النهار كان على وشك الانتهاء، والإضاءة لم تعد مناسبة. وأعتقد أنه فهم حينذاك، ووجد الإجابات عن كل أسئلته. جمهور سينما المؤلف هذا فيلم بسيط وفني وشاعري. كيف تُستقبل أفلام كتلك في إيران؟ - المشكلة التي واجهتني هي صالات العرض. فالأفلام التجارية تجد جمهورها، وبالتالي صالاتها، في كل الأوقات. أما ما يطلق عليه سينما المؤلف فجمهوره محدود نسبياً. وفي طهران، هناك ست صالات لعرض هذه النوعية من الأفلام، ولكن على أصحابها انتظار دورهم للعرض. وأعرف مخرجاً ينتظر منذ ثلاثة شهور... أما فيلمي فعرض في صالتين، ولمدة عشرة أسابيع، وهي مدة تعد مناسبة قياساً الى موازنته. هل ثمة مشكلات أخرى تواجه سينما المؤلف؟ الرقابة مثلاً؟ - الآن وما أعده أهم حدث يتعلق بالسينمائيين منذ وصول الرئيس محمد خاتمي، هو أننا لسنا مضطرين الى إرسال قصة الفيلم الى الرقابة. ولم أسمع بعد عن فيلم رفض بعد تصويره. لعل ذلك عائد الى تأكد الرقابة من وجود الرقابة الذاتية لدى السينمائيين، وبأن لا أحد يغامر بفيلم قد يُمنع بعد تصويره! - هذا صحيح. ولكن من وجهة نظري، تدفعنا القيود المفروضة على السينما الى التفكير العميق والبحث عن الوسائل الكفيلة بإيصال ما نريده من دون الاصطدام بالموانع. هذا يعزز قدرتنا على الإلماح وعلى إيجاد أمور جديدة مختلفة، لم يتم التطرق إليها سابقاً، لإظهار الحب على سبيل المثال، وأي شعور آخر. سينما تتغير خلال 16 سنة عملت في 40 فيلماً؟ ما هي ملاحظاتك على السينما الإيرانية؟ - انها تتغير. في البدء لم يكن أحد ليفكر بإمكان عرض الأفلام خارج إيران. ومع اشتراك أول فيلم في مهرجان أوروبي عام 1988 وشراء الموزعين له نادري وفيلمه "المتسابق"، واشتهار كياروستامي ونيله جوائز دولية، بدأ بعض السينمائيين بوضع المهرجانات هدفاً لهم، خصوصاً أن التوزيع الخارجي كان يتيح لهم الحصول على العملات الصعبة وبالتالي إنجاز الأفلام التي يحلمون بها، ولو لم يكن لها جمهورها في إيران. الآن اختلف الوضع. فقد بدأنا بجذب المشاهد الإيراني نحو تلك السينما الفنية، ورُفع عدد الصالات المخصصة لعرضها من اثنتين الى ست. وهناك عشرون مخرجاً من أصل مئتين تقريباً يُقبلون على تحقيق أفلام ذات نوعية أي سينما المؤلف. ولكن أعتقد ان ظاهرة جديدة بدأت بالانتشار، واعتبرها ذات أثر سيئ وخطير في السينما الإيرانية. بعض المخرجين يفكر فقط بالمهرجانات عبر إثارة مواضيع تعجب جمهورها كالمرأة والسياسة وغير ذلك. لا نعني ان لا سينما فنية تعالج مثل هذه المواضيع، لكن ثمة أفلاماً تشتم منها رائحة مريبة لا صدق فيها ولا فن وإنما "بزنس"! إذا سارت السينما الايرانية على هذا الطريق فسيؤدي ذلك الى ضياعها. ما هي خصائص السينما الايرانية؟ وماسبب رواجها داخلياً؟ - لها خاصية واضحة. انها السينما التي تعرض الحياة الواقعية بأساليب وتقنيات متواضعة فلا مؤثرات ولا ديكورات خاصة أو أزياء. ويعمل فيها هواة كثر. لكن هناك ايضاً سينما النجوم وهي تجتذب اعداداً كبيرة من المشاهدين. وعدم انتشار السينما الاميركية شعبياً يؤدي خدمة جمة للسينما الايرانية. وهي تعرض ولكن في صالة واحدة ومع الترجمة اي غير مدبلجة. وإذا دخلت الأفلام الأميركية في شكل أوسع، فإن مديري الصالات لن يبرمجوا غيرها، وسيكون لذلك تأثيره المدمر في السينما الإيرانية. لكنك قلت إن السينما الأميركية لا شعبية لها، فلمَ الخشية على الأفلام الإيرانية؟ - صانعو الأفلام الأميركية يعرفون كيف يتحركون الى من يتجهون، وكيف يؤثرون في العقليات، ويمكنهم النفاذ إليها وتغييرها. حدثنا عن دور مدير التصوير في الفيلم؟ - لا يكتفي مدير التصوير بتنفيذ طلبات المخرج، بل عليه أن يكون قارئاً لأفكاره وعينيه كيفما تحركتا. بعد كل مشهد يسأله المخرج عن رأيه، ليس فقط في تركيب المشهد والإضاءة وغير ذلك من المسائل التقنية، وإنما في طريقة أداء الممثلين. وهل استطاع المشهد أن يترجم ما أراد المخرج قوله. فمن ضمن تلك المساحة المربعة التي ينظر منها المصور يستطيع التمييز بين الجيد والسيئ. وكثيراً ما يحصل أن أقول للمخرج إن نظرة الممثل لم تكن معبرة. وفي بعض الأفلام التي دخلت تاريخ السينما كان دور مدير التصوير مهماً الى درجة وضع اسمه قرب اسم المخرج. كما حصل مع أورسون ويلر في فيلمه "المواطن كين". هل تتحول الى الإخراج بعد فيلمك الأول الذي نال جائزة في الأرجنتين؟ - نتيجة لهذا الفوز سنقوم بإنتاج مشترك مع الأرجنتين وسنصور نصف الفيلم هناك ونصفه في إيران. لكنني لا أستطيع التحول نهائياً الى الإخراج لأنه لا يؤمن لي عيشي، كما يؤمنه التصوير.