بعد زوال المنافس النووي للغرب روسيا، خرج فوكوياما من أقبية مخابر الخارجية الأميركية ليعلن وصول العالم إلى "نهاية التاريخ"، وليشطب بجرة قلم على ثقافات الآخرين، تاركاً الديموقراطية الليبرالية الغربية خياراً وحيداً، بل قل أوحد، إن هم أرادوا الخروج من أعماق التاريخ. ثم تلاه هانتنغتون، ليقول بواحدية البعد الصراعي المتمحور حول الثقافة، وليؤكد سيطرة الصدام بين الحضارات على السياسة الدولية، وليحذر من الحضارات الشرقية وخصوصاً الإسلامية. إن هذه النبرة إنما تعكس رؤية سياسية أميركية الى المسلمين واعتبارهم خصماً أيديولوجياً بديلاً عن الخصم النووي، فهل كان المسلمون حقاً هم البديل؟ وهل قرأوا هذه الرسالة في حينها بإمعان؟ إذ ها هي اليوم الحرب على أوجها بين الغرب المستكبر والمستضعفين في عالمنا الإسلامي، ها هي أميركا تطل في عهد بوش الإبن مجدداً من خلال امتداداتها العلمية والتكنولوجية، لتعلن تصريحاً لا تلميحاً عن ترتيب علاقاتها مع الآخر على أساس ثنائية الذات المتفوقة والآخر المتخلف. وترفض التعايش الإنساني مع الآخر، بل تسعى لتدميره، بل تدمير ملايين البشر من بلاد المسلمين، رغم تبجحها باحترام حرية حقوق وبمبادئ الإنسان و الدفاع عنها. وقد دار جدل حاد منذ سنوات بين المفكرين والباحثين للتنقيب في حقيقة الأفكار التي طرحت منذ سنوات خلت من قبل منظري السياسة الأميركية، والتي روجت، وتروج لها اليوم وسائل الإعلام الغربية بصورة مكثفة، بغية الوصول إلى إجابات موضوعية. وكانت أغلب الدراسات تدور حول أسئلة مفصلية مهمة، أهمها: هل الصراع حتمية تاريخية أم طموح غربي، لفرض نموذجه واستنباته في بيئات خارج الحدود، قصد إنتاج مستعمرات جديدة؟ وهل ما طرح من أفكار - يومها - نظرية علمية أو استراتيجية عملية في إطار الإيديولوجية الغربية لتدمير الحضارة الإسلامية أو قل ما تبقى منها، مما أفسدته أيدي حكامنا العرب! وها نحن نعيش اليوم فصلاً أخر من الفرقة والضياع والإحتكام للطاغوت ليصل بنا الأمر الى ان يضرب الأفغاني المسلم عنق أخيه المسلم عربياً كان أم أعجمياً، سنياً كان أم شيعياً، تماماً كما جرى منذ بضع سنوات في الجزائر من طرف أناس جعلوا من "الفقه البدوي وفقه دورة المياه" ديناً جديداً يتعبد به وقانوناً يحتكم إليه. فعلى رغم حزني العميق لهذا الصنيع، البعيد كل البعد عن الإسلام، فإني أكتم غيظي، لأن الموضوع عميق ومتشعب، وأقول: "اللهم أهدي قومي فإنهم لا يعلمون، أي لا يعرفون"، كما قال صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف. وهكذا يمكننا ان نعترف بل ونقر ان تاريخنا الإسلامي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حمل في أعز صفحاته "قوائم شرف" سوداء داكنة، مرصعة بدماء بريئة أريقت لرجال وعلماء أجلاء. وصدق الله العظيم القائل: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. والمصيبة فينا - كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله - ان عدداً من الدعاة والقادة لا يدرون "جغرافية" الميدان الذي يقاتلون فيه، ولا آماد الانحراف الذي يقاومونه. ويحسب كثير منهم القوى الإسلامية - أعني المحسوبة على الإسلام - قوى خالصة مجدية، وأن القوى الأخرى هم خصم مناوئ يجب القضاء عليه. وقد يقولون: "من ليس منا فهو علينا!". ان رفض دراسة الأخطاء التي تورط فيها بعضنا الحقتنا خسائر جسيمة. وما زلنا نسبح فيها في بحر لا شاطئ له، من باب ستر العيوب والتغاضي عن العورات. وانني أسارع الى القول ان الأخطاء لا تخدش التقوى، وان القيادات العظيمة ليست معصومة، انما المصيبة في تجاهل الخطأ، بل ونقله من الأمس الى اليوم والى الغد، وادعاء العصمة، والتعمية على الجماهير المرسلة بسياسة الركض الى الأمام. فالإسلام يعلمنا ان الرجل يجب ان يتحاشى الحدة في خصامه وفي سلامه. ولو جمعنا ذلك في نقاط لقلنا، كما صنفها أحد المصلحين، ما يلي: - ان العمل الإسلامي اليوم قد لا ينقصه الإخلاص، في كثير من الأحيان، وانما الذي ينقصه، ولا يزال يفتقد اليه، هو الصواب كشرط لازم. - التحول من عقلية التبرير والتسويغ الى منهج دراسة الخلل. - ضرورة النقد الذاتي الموضوعي والشعور بالمسؤولية تجاه ذلك بمختلف الوسائل المشروعة. - يجب ان نضع دائماً في الحسبان اننا دعاة ولسنا قضاة، ومهمتنا الهداية وليست الجباية. - الالتزام انما يكون دائماً وأبداًَ بالمنهج الإسلامي، بالفكرة، بما شرعه الله لنا، وليس الالتزام بالأشخاص، أو التنظيمات، أو الجماعات، أو الحكومات التي هي دائماً محل للخطأ والصواب، عملاً بقول الأثر: "ألا ان رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا ان الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب". هذا هو واقعنا المر منذ ان أطلقت أوروبا على الدولة العثمانية اسم الرجل المريض وبدأت تتدارس أمر توزيع تركة هذا الرجل المريض والعلة اننا كنا "غثاء" نسبح في غثائيتنا، كما جاء في الحديث الشريف. ولتدارك ذلك نصح الكثير من المصلحين ومفكرينا بجملة من النقاط عدوها سبلاً للنجاة والانقاذ، منها: 1 - واجب الشهادة على الناس: الشهادة على الناس واجب هذه الأمة، والشهادة ليست مجرد "فرجة" أو تسلية، بل هي فعل وقرار. فعل: يبتغي تبليغ رسالة التوحيد للبشرية، كل البشرية. قرار: يتضمن معنى القوامة على البشرية أي ان تكون "الرغبة" في بيت البشرية الكبير، تبين الحق، وتدعوهم اليه وتحضهم عليه، وتبين لهم الباطل وتصدهم عنه. 2 - سبل النجاة: الالتزام بالمنهج ضرورة لسلامة الطريق" التحذير من علل التدين تحريف الغلاة/ تأويل أهل الجهل/ انتحال أهل الباطل، الذين يقرأون الإسلام من خلال أوضاعهم النفسية، وظروفهم الحياتية، وذلك بسبب ردود الفعل أو ضغوط المجتمع غير المسلم من حولهم" التحذير من "صوفية" الداخلين الجدد في الإسلام، خصوصاً من الدول الغربية، ينحرف هؤلاء بالإسلام عن وجهته الصحيحة ويحملون عليه ما ليس منه، ولكل عصر غلاته وخوارجه كما يقال" الطاعة المبصرة: فلا طاعة الا بالمعروف. اننا، كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله، نعتقد جازمين اننا المسؤولون عن هزائمنا المتكررة وتخلفنا المستمر مهما حاول بعضنا الإلقاء بالتبعية على الآخرين، استجابة لخطاب التكليف وتحديد المسؤولية في قوله تعالى: قل هو من عند أنفسكم. النموذج الأفغاني قمة ضعف المسلمين على مختلف الصعد: وأنا أحاول قراءة أبعاد الحصار الذي خطط له الغرب منذ عقود، وأتأمل زماننا العربي والإسلامي المتردي على حد سواء. ثم اني فكرت في القتال أو الجهاد الأفغاني، واستنتجت كما استنتج غيري ان جهاداً عن جهاد يختلف، ومقاتلاً عن مجاهد يختلف، والأمور ليست بالنيات فقط، ولكنها بالوعي والدراية والإخلاص لله وحده ومعرفة الواقع والتربة. فمن يحكم تصرفاته سوء التقدير، والتوقيت هلك وأهلك من معه. جنيف - محمد مصطفى حابس عضو مجلس الشورى الوطني للجبهة الإسلامية للانقاذ.