1 علاقة الترجمة بالحداثة تمثل، في وضعنا الثقافي اليوم، أكثر من موضوع دراسي، نبحث عنه بهدف انجاز عمل معتاد. هو، الآن، فضاءٌ نظريٌ لاختبار ما أصبح مسلَّمة في الخطاب الثقافي العربي، والشعري منه على الخصوص. فتاريخية الانتاج الشعري في العالم العربي الحديث ملتبسة، بسبب عدم البحث في اللامفكر فيه. بذلك نطمئن الى ما أصبح عائقاً ملموساً يحول دون اقترابنا من الابدالات الشعرية في عموم ديوان شعرنا الحديث، الذي هو ديوان بالجمع. ولا يقترب منه الخطاب السائد الا في ضوء ما تم رسمه لخريطة هذا الشعر منذ الثلاثينات، في مصر تحديداً، ثم ما انضاف اليه من اقتحامٍ نظري في لبنان الخمسينات. هناك، إذاً، توقف التأمل النظري السائد. وهو لم يجرؤ، بعد، على اختبار ما لم يُختبر بعد. يلزم تذكّر الشعرية لدى العرب القدماء. تذكرٌ من أجل العودة التي بها يمكننا أن نرى الحاضر أيضاً. عين تنفتح على سيرورة وابدال في آن، لا يتقاسمان الوظيفة ذاتها. من هنا تبقى الشعرية العربية المفتوحة أفقاً للاشتغال، بعيداً عن كل وهمٍ ايديولوجي، يمس العروبة فيما نحن نتناول الشعرية. فوصف الشعرية بالعربية هو بالذات اشتغال على رؤية لها غيبها، أو ميتافيزيقيتها، بتعبير رولان بارط. لا شيء يُفزعنا من سخرية لا تدري مصدر خفوت جلجلتها. فالمعرفة لا تخشى مواجهة الوقائع مثلما هي لا تخشى البحث في ما لا يعتبره الرأي العام مكاناً معرفياً. تلك آفةٌ علينا الانتباه اليها، في وضعية لا تستنير، دائماً، بالمعرفي الذي له طرق الاستقصاء والنقض معاً. 2 لتكن العودة، إذاً، الى القديم، للوقوف على طريقة التعلم الشعري التي اتبعها أبو نواس. نعثر على هذه الطريقة في "أخبار أبي نواس" الملحق بكتاب "الأغاني". وهي طريقة تقربنا من تربية تهيِّئ الشخص ليصبح شاعراً عربياً، وتتجسد في شاعر من أكبر شعراء العربية، أبي نواس، أحد أبناء السلالة الفارسية. جاء في هذه الأخبار: "وكان أبو نواس يقول: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهن الخنساء، وليلى، فما ظنك بالرجال. وإني لأروي سبعمئة أرجوزة ما تُعرف. وكان قد استأذن خلفاً الأحمر في نظم الشعر، فقال: "لا آذن لك في عمل الشعر الى ان تحفظ ألف مقطوع للعرب، ومئة أرجوزة، قصيدٍ ومقطوع. فغاب عنه مدةً وحضر اليه، فقال له: قد حفظتها" فقال أنشدها، فأنشده أكثرها في أيام عدة. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك الى أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمرٌ يصعب عليّ: فإني قد أتقنت حفظها" فقال: لا آذنُ لك أو تنساها. فذهب الى بعض الديرة وخلا بنفسه، وأقام بنفسه، وأقام مدة حتى نسيها، ثم حضر اليه، فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط. فقال: الآن فانظم الشعر". يُغري الخبران بالزوغان عن الطرق الكبرى للقراءة. انها شعرية الحفظ والنسيان، التي يركز عليها الخبران. ذلك ما أوضحته سابقاً، ولن أتوقف عنده. لكن علينا أن نفهم ان النسيان لم يأت الا نتيجة للحفظ. أي ان العبور من الكلام غير الشعري الى الكلام الشعري العربي يمر دائماً عبر شعر الآخرين، السابقين، العرب، شعر العرب. انه العبور الذي تحدد سلفاً، لا في تقليدٍ شعري، كسنةٍ، فقط، بل هو عبور الى ملكة الشعر العربي التي هي خصيصة القصيدة التي كان كل شاعر ينزع الى نظمها. الشعر بهذا المعنى ليس انفعالاً أو شعوراً خارج الشرط الشعري، الذي يجعل من الشعر ممارسةً تتجاوز التعبير والاحساس والشعور، كدرجة دُنيا للحساسية الشعرية. كان العرب مدركين، تماماً، ما يعنيه الشعر. والتسميات الكثيرة لهذا الادراك مثبتة في الأعمال النقدية القديمة، التي تجمع بين النظرية والقاعدة. ذلك هو الحقل المزدوج الذي اختصت به هذه الأعمال. يحتاج الشاعر الى تربية، الى تعلم. تلك هي مصطلحات العلم والصناعة والصنعة، التي انتشرت في مرحلة لاحقة، على بداية الشعر العربي في المرحلة الجاهلية. تربيةٌ وتعلم هما أساس عمل كل شاعر. أبو نواس، في الخبرين معاً، نموذجٌ موسع لجميع الشعراء القدماء. والتنويعات عليهما متوافرة، بالنسبة الى شعراء وفترات شعرية. فالشاعر القديم ملزمٌ بالعبور من طريق محدد، هو الأثر السابق الذي يصبح مضيئاً في المستقبل الشعري. لا أعني بالأثر السابق كلمة الماضي، التي كثيراً ما تُؤدي الى قصدٍ يناقض تجربة العبور، بقدرر ما أعني بها الشعر الذي اختزن القوة الجاذبة الى العبور. سببُ ذلك التعلُّم والتربية هو ما أشار اليه ابن خلدون وهو يتناول "الملكة" و"القالب" الشعريين. فها هو ابن خلدون يصف المعبر بالدقة المعهودة فيه: "واعلم ان فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون اليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمةً فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها انما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبهٌ في تلك الملكة. والشعر من بين فنون الكلام، صعبُ الأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كلِّ بيت منه بأنه كلامٌ تامٌّ في مقصوده، ويصلح ان ينفرد دون سواه، فيحتاج من أجل ذلك الى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلاً بنفسه، ثم يأتي ببيتٍ آخر كذلك، ثم ببيتٍ آخر ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده". 3 الشعر، إذن، من بين الملكات اللسانية التي "تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم حتى يحصل شبهٌ في تلك الملكة". الشعر مكتسبٌ، وليس هبةً تعلو على الاكتساب. هوذا معني العبور كتعلُّم لملكةٍ ولقالبٍ قوالب. فالشعر ملكة وقالب. وما يلزم الشاعر هو العبور الى لحظة حصول شبهٍ في ملكة الشعر العربي. القالب هو القواعد الشعرية الخاصة وللملكة معنى الحساسية الشعرية. الملكة هي ما وراء القواعد، تبدو ولا تبدو في آن. شيءٌ لا نعرفه ولا نتعرف عليه إلا في الإنصات للمختلف، الآخرِ، الشعر اليوناني مثلاً بالنسبة الى القدماء. والنسيان، الذي ألح عليه خلف الأحمر، عملية تخلصٍ من ايدي الآخرين، أيدي الشعراء التي كتبت قصيدتهم. ولا يصبح الشاعر مستحقاً هذا الإسم إلا إذا أتى بقصيدة لها امضاؤه الشخصي. اكتساب القالب والملكة طريقٌ نحو القصيدة وليس القصيدة. لذلك فإن الإمضاء الشخصي يتوجب ان يكون من داخل أرضية الملكة الذي تظل مشتركة بين جميع الشعراء، مهما أوغلوا في مسافات زمن الأثر السابق أو توقفوا عند الزمن الأقرب اليهم، على غرار المتنبي، الذي كان لا يفارق ديواني أبي تمام والبحتري. تلك هي الملكة التي تتشابه بين شاعر وشاعر دون ان يكون شبهٌ بين قصيدة كلٍّ منهما. قولةُ أبي نواس، أو الرواية الخاصة بخلف الأحمر، تؤكّد الشبه في الملكة بتعيين كلمة "العرب". "حتى رويتُ لستين امرأةً من العرب"، "ألف مقطوع للعرب". وبالتعيين ذاته صرّح ابن خلدون "ذلك المنحى من شعر العرب". هذا هو المقصود هنا من الشبه في الملكة، الحاصلة بالاكتساب. ورود كلمة "العرب" تفيد ان القصيدة العربية القديمة تأتي من داخل النسق الشعريِّ العربيِّ. استقلال البيت بنفسه. ملكةٌ متشابهةٌ وامضاءٌ متفرّد لا تشابه فيه بين الشعراء. فلم يكن يخطر على بال الشاعر العربي القديم أن يلجأ الى شعرِ غير العرب وهو يريد كتابة قصيدةٍ عربية. لنتجنب الأحكام القبلية عن الانغلاق. لا علاقة لهذا التقليد بالانغلاق. ثمة قبل كل شيء، وعيٌ بأن الشعري لا تنفصل فيه اللغة عن القصيدة عن الملكة عن القالب. لكل لغةٍ ملكتها الشعرية ولكل ملكةٍ قالبها. هنا تنتقل النظرية الشعرية من مجرد خصائص جمالية الى رؤية ميتافيزيقية. انه غيبُ القصيدة العربية، الذي ينبغي ان يحافظ الشاعر عليه فيما هو يكتب قصيدةً عربية بإمضائه الشخصي. لا تنظم القصيدة العربية الا بالعربية. ولا يكون الشعر عربياً إلا عندما يحصل شبهٌ في الحساسية ويمتثل الخطاب الى البناء الشعري، المحدد في استقلال البيت. لا تهمنا القواعد بحدِّ ذاتها في هذا السياق. لنا بدلاً من ذلك ان نفتتح طريقاً ثانوية للقراءة. ذلك هو الهامش الذي لا نستنطقة. صامتاً يظلُّ، منسياً، في الجانب المخفي. فبين كلمات العربية والملكة والقالب علاقة تفاعل يمنحها وضعية نسقٍ مستقلٍّ بنفسه، وهو ما يسمح للقصيدة ان تكون عربية أو لا تكون. تستحق الانتماء الى "شعر العرب" أو لا تستحق. كلمة "العرب" و"شعر العرب" تعني ان القصيدة تستوفي صفتها العربية كلما تطابقت مع الملكة والقوالب التي تكتسب من تعلم الأثر السابق للعرب وتنتفي عنها هذه الصفة بقدر لا تطابقها معهما. في التطابق واللاتطابق مع هذا النسق تم تصنيف الشعر العربي القديم وتم وضع خريطة الشعرية العربية. فالكتابة بالعربية وحدها لا تكفي لتجعل من قصيدة قصيدةً عربية. كما ان القواعد وحدها ليست امتيازاً. فعن هذه القواعد كتب ابن خلدون "ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في اطلاقهم. فاعلم انها عبارةٌ عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يُفرغ فيه. ولا يرجع الى الكلام باعتبار افادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الاعراب، ولا باعتبار افادته أصل المعنى من خواص التركيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجةٌ عن هذه الصناعة الشعرية، وانما ترجع الى صورةٍ ذهنية للتراكيب المنتظمة كليةً بانطباقها على تركيبٍ خاص". 4 الملكة هي الصورة الذهنية للتركيب الخاص، التي يكتسبها الشاعر من تعلم طريقة العرب في نظم القصيدة. ملكةٌ تحتاج اليها كلُّ قصيدة تريد ان تبلغ مرتبة التصنيف ضمن ديوانِ العرب. انها تعتمد "شعر العرب". تفاعلٌ بين عناصر، لا عنصراً أو عناصر تتجافى، تنقص أو تزيد. سرُّ القصيدة العربية. وكلُّ تعارض مع هذه الملكة يترك القصيدة غريبةً عن الشعر العربي. بإمكان أي شخص، أكان عربياً أم أعجمياً، اتقان العربية والمعنى أو أصل المعنى والوزن ومع ذلك لا تكون قصيدته، التي تفتقد الملكة، شبهاً في ملكة العرب، عربية. في ضوء منظور صارمٍ كهذا تم تصنيف القصيدة وفي سواه لم يكن للقصيدة، أيِّ قصيدة، ان تستحق الاضافة الى ديوان العرب. والخريطة الجغرافية للشعر العربي القديم كانت على الدوام خاضةً لهذا المبدأ النظري، الذي هو سببٌ أول في الجدل والصراع بين شعراء أو بين شعراء ونقاد حول التصنيف الشعري. قصائد كتبت بالعربية وطبقت القواعد ومع ذلك لم يُصنفها المركز الشعري القديم ضمن الديوان العربي. ثم برز سببٌ لاحق، عندما أصبح شعراء من جهاتٍ بعيدة عن المركز الشعريِّ متمكنين من الملكة الشعرية للعرب. انه سببُ غياب الامضاء الشخصي، بحسب الموزعين للقيم الشعرية. قصيدةٌ لها ملكة تشبه ملكة العرب ولكنها لا تنسى ما حفظتهُ الذاكرة. أي أنها قصيدةٌ تختلط بغيرها من القصائد. لا تمتلك الإمضاء الشخصي للشاعر. فمن يعين وجود أو عدم وجود امضاء شخصيّ؟ انه المركز الشعري وليس سواه. المركز الذي فيه كانت ملكة العرب مودوعةً، مثلما كانت فيه سلطة توزيع القيم الشعرية متمركزة. 5 لقد اتقنت مناطق جغرافية أخرى اللغة والملكة والقواعد، في كلٍّ من الجهات البعيدة عن المركز الشعري، الذي فيه حافظت الملكة، الى حين، على قاعدتها وسرِّها، ومع ذلك لم يتم تصنيف أيِّ شاعر من خارج المركز الشعري، في آسيا أو أفريقيا، كشاعرٍ عربيٍّ كبير، سواءٌ أكان عربياً أم من غير العرب. وتظلُّ الأندلس مدرسةً للتأمل، كما تظل بلاد فارس. بل ان التأمل يُُصبح لازماً لمعرفة ما الذي جرى في المراحل التاريخية اللاحقة للقرون الثلاثة الأولى من العهد الإسلامي، حيث أصبحت العربية ذات أوضاعٍ غريبةٍ على النموذج الذي ورثه العرب عن أسلافهم. والتاريخ الصعب والغامض، لحد الآن، للشعر العربي ينبع من معايير التصنيف بالذات، ما دمنا لا نعيد النظر في ابدالاتٍ ثقافية عرفتها أوضاعٌ جهوية أو زمنية لا علاقة لها دائماً بالنموذج الذي أسس العرب عليه شعرهم.