كان للإنسان العربي في الماضي قدرةٌ فائقة على الحفظ والاستظهار، ولو تصفحنا تاريخ الأدب العربي لأمكننا التعرف على شخصيات كثيرة تميزت بامتلاك ذكاء حاد وقدرة خارقة على الحفظ بدقة؛ من بين تلك الشخصيات شخصية الأصمعي الذي قال عنه أبو عبيدة: "ما قرأ كتاباً قط، فاحتاج إلى أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج منه".! وكذلك الشاعر أبو نواس الذي حفظ ألف أرجوزة من أراجيز العرب بطلبٍ من مُعلمه خلف الأحمر؛ وكذلك حماد الراوية وهو الرجل الذي يصفه الدكتور فضل العماري بأنه (أعجوبة عصره) في الذكاء والمقدرة على الحفظ، وقد أجاب حماد الوليدَ بن يزيد حين سأله عن سبب استحقاقه للقب (الراوية) قائلاً بلغة تحمل نبرة التحدي: "بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أُنشد شعراً قديماً ولا مُحدثاً إلا ميزت القديم منه من الحديث ... وأنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام" ..! كان هذا في الماضي البعيد وربما القريب أيضاً، أما اليوم وفي عصر التدوين والكتابة، ومع دخول ذاكرة التقنية واقتحام كثير من الملهيات لحياتنا فقد أضحى من العسير على الشخص حفظ أشياء بسيطة كحفظ رقم الجوال الخاص به فضلاً عن إمكانية حفظه لمجموعة من القصائد التي تُعجبه أو يجد فيها شيئاً يستحق الاهتمام والحفظ، وأصبح ضعف ملكة الحفظ مأزقاً كبيراً يُعاني منه الكثير من الشعراء ويُسبب لهم حرجاً كبيراً في المجالس وفي الحوارات الإعلامية، لدرجة أن بعض الشعراء على جودة أشعارهم يتحاشون إلقاء القصائد في اللقاءات المفاجئة أو في المجالس خوفاً من خيانة الذاكرة والاضطرار إلى ترديد العبارة المُخجلة: "مدري وش قلت..." بين بيتٍ وآخر..؟! وثمة من لا يُصدق حتى الآن بكون الشاعر المبدع غير قادر على حفظ جميع قصائده أو معظمها على الأقل، ويعد هذا الأمر عيباً قادحاً في قدرته ومكانته الشعرية؛ وقد استمعنا قبل فترة من الزمن لأحد الشعراء ينفي الشاعرية عن كل شاعر يعجز عن حفظ قصائده؛ مع أن العوامل التي ذكرناها آنفاً كفيلة بتقليص ملكة الحفظ وإحداث ثقوب كبيرة في الذاكرة تجعل من عملية حفظ الشاعر لجميع قصائده عمليةً شبه مستحيلة.