خلت "الساحة الخضراء" في الميدان الرئيسي الذي يحتل قلب العاصمة الليبية طرابلس من اليافطات الضخمة التي كانت تحمل شعارات "ثورة الفاتح" حيناً و"الثورة العربية" طوراً ثانياً، و"الثورة الافريقية" طوراً ثالثاً، والتي ظلت تغطي الجدران وشرفات المصارف والعمارات المطلة على الساحة. فقط شعار واحد ما زال مثبتاً في إحدى الشرفات مفاده أن "لا شورى خارج اللجان الثورية"، وكأنه بقي ليذكّر بالحقب السابقة التي عرفتها هذه الساحة التي ما زالت تتفيأ ظلال قلعة طرابلس التاريخية المهيبة المطلة على البحر. أكثر من ذلك ،ازيل الطلاء الأخضر الذي كان يغطي أرض الساحة وأطرافها، حيث تتجمع طوابير السيارات المتدفقة من الشوارع الرئيسية، في خطوة ترمز ربما للانتقال من مرحلة الرومانسية الثورية إلى الواقعية، خصوصاً في ظل قرار المصرف المركزي الليبي خفض قيمة الدينار بنسبة 51 في المئة للسيطرة على التضخم والذي وصل إلى مستويات محيّرة، إذ يقدر حالياً بأكثر من 21 في المئة، طبقاً للأرقام الرسمية، لكن خبراء نقديين توقعوا أن يرتفع إلى مستويات أعلى لو لم يُتخذ قرار خفض سعر العملة المحلية التي تضررت كثيراً جراء سنوات "الحصار". هل هي نقلة إلى مرحلة البراغماتية؟ يعتقد الأمين المساعد لوزارة الوحدة الافريقية الدكتور سعيد حفيانة أن لا وجود لانقطاع في السياسة الليبية، وان هذا التطور نحو الواقعية مع التركيز على القارة الافريقية "منطقي لأن العلاقات التي أقامتها ليبيا مع البلدان الأفريقية باتت تستند إلى أساس التكامل والتعاون الاقتصادي والثقافي لننشئ شبكة من المصالح المادية. وبالتالي ينبغي أن تقوم الأمور على نظام مؤسسات ينهض على اتفاقات تعاون في جميع المجالات". ولع ب"انترنت" خارج إطار الواقعية السياسية، وربما في تكامل معها، هناك مظاهر جديدة لافتة في المجتمع الليبي تدل على الرغبة بالتعويض عن الوقت الذي مضى وراء الأحلام الكبيرة وسد الفجوة العلمية مع العالم الخارجي. فمحلات بيع الهواتف النقالة ومكاتب "انترنت" بدأت تنتشر على نحو لافت، إضافة إلى مكاتب الاتصالات الحديثة التي يملكها القطاع الخاص وتتوافر فيها خدمات الهاتف الدولي والفاكس السريع على عكس البريد المركزي ذي الخدمات البطيئة والمعقدة والذي لم ينتقل من البناية العتيقة التي أنشأها الايطاليون في الثلاثينات من القرن الماضي، لدى احتلالهم البلد. وما زالت البناية ذات الديكور الاستعماري ماثلة وسط طرابلس القديمة. إلا أن انتشار محلات "انترنت" في ليبيا ما زال في خطواته الأولى، وهو يقتصر على الأحياء الراقية مثل ضاحية قرقارش وحي الأندلس، حيث يسكن التجار وكبار الموظفين في الدولة. فهناك يلمح المرء في الشوارع الرئيسية يافطات تشير إلى خدمات غير معهودة هنا من نوع "أندلس الانترنت". لكن الشباب لا يرتاد هذه الأماكن فقط، وإنما يقبل على المقاهي وقاعات الألعاب القليلة مثل "مقهى شاهين الترفيهي" في حي الأندلس، حيث يستطيع الشاب أن يلعب كرة الطاولة أو يدخن النرجيلة. اسطول جديد في ناحية أخرى من طرابلس، يقوم مبنى "الخطوط الجوية العربية الليبية" في شارع عمر المختار، وهو مرآة إضافية ترمز للنقلة التي تعيشها ليبيا بعد تعليق العقوبات الدولية التي فرضتها الأممالمتحدة طيلة سبعة أعوام. قبل سنتين كان المبنى كئيباً وخالياً من الموظفين، لأن الرحلات الدولية معطلة والمكاتب الخارجية مقفلة. أما اليوم فيعج المبنى بالحركة ويعكف كبار المسؤولين في الشركة على تنفيذ خطة واسعة لتجديد الاسطول بعدما توصل الليبيون إلى صفقة مع مجموعة "ايرباص" لشراء خمس عشرة طائرة جديدة. ويمكن القول إن هذه النقلة تخضع لأولويات السياسة الليبية الجديدة التي تركز على بلدان الجوار الافريقية، إذ تجري حالياً استعدادات لانشاء مؤسسة طيران مشتركة بين ليبيا وتونس ومالي مركزها الرئيسي في باماكو. وينتقد مسؤولون ليبيون "الفهم الخاطئ" لخيارهم الافريقي. وقال الدكتور حفيانة ل"الحياة" إن "البعض رأى فيه شكلاً من الملل وحتى اليأس من الواقع الاقليمي العربي وفشل تجارب الوحدة السابقة التي طرحها الاخ معمر القذافي على أكثر من طرف عربي". وأضاف: "هذا الفهم سطحي، فإذا نظرنا إلى الموقع الجغرافي والسياسي لليبيا، نجد أنها بلد عربي وافريقي إسلامي ومتوسطي في آن معاً، وبالتالي فهذه الحقيقة تمنح ليبيا أربعة أبعاد متداخلة مما يجعلها تلعب على صعيد السياسة الخارجية في هذه الملاعب الأربعة". ألا يكون الأفارقة طامعين بثروات ليبيا؟ ينفي الدكتور حفيانة هذا التأويل بشدة، لأن "ثروات ليبيا النفطية نسبية قياساً على موارد بلدان افريقية أخرى"، لكنه يشدد على أن "لدى افريقيا دَيناً في عنق ليبيا لأن الذي خلخل الموقف الدولي أيام الحصار علينا هو افريقيا، فالقادة الأفارقة وقفوا وقفة صلبة لتحدي العقوبات سواء افريقيا العربية أو افريقيا السمراء جنوب الصحراء". ربما لهذا السبب تحتل الأجندة الافريقية صدارة الأولويات الليبية، وهم يركزون حالياً على الإعداد لانجاح القمة الافريقية المقبلة المقررة الربيع المقبل في جنوب افريقيا والتي يأملون بأن تكرس نهائياً الانتقال من "منظمة الوحدة الافريقية" إلى "الاتحاد الافريقي".