تكمن جاذبية رواية "ليالٍ اخرى" لمحمد البساطي في اكثر من سمة فنية وبنائية: - شخصية البطلة الفريدة والغريبة، والتي لا تمثلّ سوى ذاتها، اي انها لا تستخدم في الرواية للدلالة على شريحة، أو فئة أو جيل... الخ. - الغموض الشفاف حول دوافعها. فهل هي مضطربة نفسياً، ام ذات ميول انتحارية تدميرية. هل هي متهتكة ام واعية ومدركة لقيمة تحررها واستقلالها؟ - الحبكة البوليسية المتمثلة في مقتل كل رجل يزورها في شقتها في ظروف غامضة. وخصوصاً ان الكاتب يترك هذه الحبكة من دون حل حتى النهاية. تبدو البطلة ذات شخصية مستقلّة. قوية ومسؤولة، فكأنما تستقي هذه السمات من معين مألوف لجيل أنفقَ مراحل الشباب بين عقدين ستينات وسبعينات القرن العشرين: الالتزام السياسي. لكن هذا لم يكن صحيحاً، فالبطلة لم تعبّر عن اي اهتمام بالقضايا السياسية، كما لم تفصح سيرتها عن تاريخ نضالي منته. ليس لديها صديقات أو زميلات. تغيب اسرتها عن حياتها غياباً تاماً، وخصوصاً شقيقاها التوأمان اللذان يعشقانها لكنها تثير غضبهما حين تزوجت سرّاً من مغترب، على رغم انهما لم يعلما ان زواجها كان موقتاً ومحدداً بعامين فقط هما الفترة التي امضاها زوجها في مصر للدراسة قبل عودته الى أوروبا كما أرادته أسرته ان يعود، وحيداً من دون ارتباط. ارتضت البطلة هذا الزواج من دون غضاضة: "عامان معك أكثر مما أتمنّاه" تقول له. وفي حقيقة الأمر فقد كانت تتمنى لو أنه يلغي اتفاقهما ليظلاّ معاً. لكنه يلتزم اتفاقهما حتى اللحظة الأخيرة حين يحزم حقائبه ويرحل. أما شقيقاها فيعلنان عليها قطيعة لا هوادة فيها. فهل أراد الكاتب ان يوحي أن الحياة الزوجية العابرة المهددة بالفراق أقرّت في وعي البطلة نمطاً من العلاقات المبتسرة، والتي لن تجد غضاضة في عقدها حتى مع رجال عابرين تماماً. إن ما يجعل بطلة هذه الرواية تراوغ الإدانة وتمتنع على الأحكام الأخلاقية، انها لم تعبر عن نفسها بشكل مباشر بخطاب خاص وشخصي كالمونولوجات أو المذكرات، كما ان معظم حواراتها مع شخوص الرواية ذات طابع سردي، فهي لا تشرح تصرفاتها لأحد. يلاحظ احد أصدقائها انها لم تعد تتحمس كثيراً لزياراته. فتقول له انها لم تتحمس أبداً لذلك، فيسألها: "وكنتِ توافقين؟" فتهزّ كتفها وتنظر الى الناحية الأخرى من الشارع. ويبدو أنها لا تملك تفسيراً لتصرفاتها ولا تعبأ كثيراً بعواقب افعالها ولا تُسائل نفسها. كذلك فهي لا تستعرض ثقافتها ومعارفها على رغم انها توصف على لسان الراوي بأنها قارئة جيدة، كما انها تدير عملاً مهماً: مركز تراثي أسهمت في تأسيسه وجمع مادته وتهيئته ليصبح مركز جذب للسياح وغير السياح قبل ان يتحول الى مرفق حكومي شبه مندثر. ومن ناحية أخرى، فإن الراوي نادراً ما اهتم بتأمل دوافع البطلة ونوازعها، فهو اكثر استغراقاً في متابعة حركتها الفيزيائية وتسجيل احداث يومها. فكأن ما تفعله هو بالضرورة التعبير الفصيح عن وعيها. أو على العكس، ان يكون ما تفعله هو التعبير الوحيد عن غياب الوعي وترك الجسد وحيداً في مهبّ رياح الإغراء باتخاذه هوية للكينونة البشرية. فما الذي عبّرت عنه البطلة بحركتها باتجاه الأماكن والشخوص، أو بعيداً، أو في معزل عنها؟ احسب انها عبّرت عن نزوع ذكوري. أو عن نزوع نحو استقلالية ذكورية. فمن ناحية يبدو روتين حياتها مكتفٍ بذاته، على غير حال روتين حياة الأنثى. كما انها لا تنصرف الى شؤون انثوية كالزينة والتدبير المنزلي ومصاحبة الصديقات، ولا العلاقات العاطفية طويلة الأمد. بل إنها لا تستجيب للمشاعر الرومانسية وتخشى الكلام العاطفي وعروض الزواج. تلقائية في الاستجابة للعلاقات مع الذكور سواء أكانوا مشاريع علاقات أو أصحاباً. وتلقائيتها غير مقيدة - حتى وإن بالهاجس - بحذر الأنثى الفطري والإرث الضاغط خوف المحاذير والنذر وسوء العواقب. وفي الغالب يُساء فهم هذه النزعات، كما هو متوقع، وسواء من طرف الذات، أو من طرف الآخر، لينشب اضطراب في المعايير والأحكام، سرعان ما يؤدي الى انحلال العلاقة أو تحطّمها. وإنما من طريق الحبكة البوليسية المتمثلة في القتل الغامض لشركاء البطلة في مغامراتها البائسة، عمل الكاتب على تلافي نتائج الصدامات التي كان يفترض نشوبها نتيجة تكرار مغامرات البطلة وتداخلها. وهكذا كان كل رجل يحل في فراغ من الالتزامات ثم يرحل بتجربته معها الى غير عودة. وما الذي كان سيؤول اليه مسار الأحداث لو أن الرجال الخمسة لم يقتلوا وظلوا يترددون عليها ويناوشونها من اجل استمرار العلاقات؟ تتخذ البطلة جسدها حقلاً لتجريب غوايات شديدة التطرف والخطورة، أو قناعاً لتقمّص أدوار سريعة العبور. وبعد مقتل أول رجل تبدأ في الشك بشقيقيها اللذين تحسّ بهما يتبعانها ويحيطان بها من دون ان تراهما. ولا تلبث أن تنساق في لعبة مشتركة معهما فتستدرج الى شقتها رجلاً لتجد خبر مقتله في الصحيفة بعد يومين، فتتذكر انها شعرت بمصيره منذ دعاها الى الغداء، وأنها ربما قبلت دعوته انسياقاً نحو "سحر الهاجس الخفي" كما تقول. لكن تأكدها من ضلوع شقيقيها في مسلسل القتل لا يثنيها عن مواصلة مغامراتها، فكأنما هي على ثقة من انهما إنما يقتلان شركائها منعاً لهم من تداول سيرتها فإن في ذلك ما يعزز ثقتها من انها - في النهاية - في ظل حماية. لم تكن بطلة هذه الرواية سعيدة بأي من مغامراتها، اذ كانت تبدو وكأنها مقادة بقوّة سلبية غاشمة تستنفد إرادتها وتسيّرها رغماً عنها. ومن هنا جاءت ملاحظتنا حول صعوبة إدانة سلوك على رغم توافر معيار محاكمة سلوكها وصوابه. فهي من ناحية لم تقدم بصفة اعتبارية تمنحها فسحة تقدير خاصة تستعصي على الإدانة. ومن ناحية ثانية لم تقدم بصفتها مضطربة نفسياً وعاطفياً. فالأحداث التي تجري لها انما تحدث بعد طلاقها بعشر سنوات، لم تستدع من ذكرياتها ما هو على صلة، أو شبه بما اندفعت إليه خلال زمن الحدث. وهكذا وجدنا انفسنا امام مرحلة تاريخية من حياة البطلة موسومة بسمة التنقّل بين العلاقات العابرة ومع رجال لا يلبثون أن يقتلوا في ظروف غامضة بعد اول أو ثاني زيارة الى شقتها. ان عامل القتل يؤشر الى دقة وضع هذه المرأة، وأن سلوكها يمر بتحوّل دراماتيكي. لكنها هي بذاتها لم تعبّر عن إدراك لهذا التحوّل الخطير، فلم يُتح لنا بالتالي مشاركتها وعيها بحالها. لذا، يحتمل - بالقدر نفسه - انها سلكت دائماً هذا السلوك بعد انتهاء علاقتها الزوجية العابرة وتخلّي شقيقيها عنها، وأهلها بالتالي. وفي المناسبة، الكاتب نادراً ما اهتم بتأشير الزمن، افتراضاً بأن كل ما يتداعى في ذاكرة البطولة هو في سياق الكشف عن تفاصيل ومجريات الأحداث، من جهة، وحالتها الشعورية تجاهها من جهة اخرى. لكننا سنرى انه لم يشدد ابداً على هوية البطولة وخصوصاً اسمها الذي لم يرد سوى مرة واحدة. وكما ذكرنا فإنه لم يحطها بعلاقات زمالة أو صداقة او قرابة...الخ. وبذلك انجز وحدتها التي سرعان ما اصبحت ميداناً خصباً لاجترار تجربة سلوكية لم يسبق للبطلة ان خبرتها، لكنها تصبح كل ما يشغلها، فكأنما - على حين غفلة - قررت الانتحار مستدرجة من يملك "حق" نحرها، الى المبادرة في ذلك. لكن المفارقة تكمن في ان شركاءها هم الذين دفعوا الثمن. اما هي، فإنها - كما يبدو ذلك في مشهد ختام الرواية - استمرأت لعبة الموت العبثية وقررت مواصلتها في انتظار ما يمكن ان يكشف لها اسرار سلسلة القتل التي تحيط بحياتها. صدر عن دار الآداب - بيروت 2000.