لم تتجسد ربما سيرة حياة كاتب في أعماله بهذا المقدار من الثراء والزخم، مثلما هي الحال بالنسبة للروائية هيرتا موللر. وحتى عندما منحت جائزة نوبل للآداب (2009)، بررت اللجنة تكريمها «بسبب لغتها المتميزة من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب أن لديها حقاً قصة ترويها عن نشأتها في ظل نظام ديكتاتوري». والواقع أن صاحبة «جواز السفر» لم تنكر، يوماً، هذا «المنحى الذاتي» لكتاباتها التي تتحدث عن طبيعة الحياة التي عاشتها في رومانيا، وعن أسلافها الذين عانوا القهر والحرمان والنفي، وعن ازدواجية الهوية المتأرجحة بين الألمانية والرومانية. وهي اختزلت ذلك بالقول «إن مناهضةَ الديكتاتورية موضوعٌ اختارته لي حياتي». ولدت موللر في 1953 في قرية نيتسكيدورف غرب رومانيا، لوالدين من الأقلية الألمانية. بعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) تعرضت هذه الأقلية لأبشع أنواع القهر والعسف، وذهبت ضحية تصفية الحسابات مع ألمانيا النازية. الديكتاتورية الرومانية اعتبرت هذه الأقلية الألمانية مسؤولة عن فظائع النازية، فأنزلت بها عقوبات من دون تفرقة بين مدنيين ومحاربين، وتعرضت لتصفيات رهيبة. ولعل القرار الروماني الأقسى بحق هذه الأقلية، ذاك الذي صدر 1945 والذي قضى بالقبض على كل الألمان بين سن 17 و45 وترحيلهم، قسراً، إلى روسيا للعمل الشاق سنوات طويلة في ظروف قاتلة. كان من بين هؤلاء والدة هيرتا موللر التي قضت ست سنوات هناك. عرفت الكاتبة هيرتا موللر، لاحقاً، أن أمها أسمتها هيرتا، تيمناً باسم زميلة لها ماتت، مثل أعداد لا تحصى من ألمان رومانيا، في معسكر الأشغال الشاقة في أوكرانيا. حاولت السلطات الروسية والأوكرانية والرومانية مسح آثار هذه الجريمة وإزالة المقابر الجماعية، الشاهد على الوصمة. لكن موللر صممت على التحدي، ونقلت تفاصيل ذلك الجحيم في روايتها «أرجوحة النفس». هذه الخلفية تشكل مفتاحاً لفهم أعمال موللر التي ظهرت موهبتها، باكراً، في قريتها، فأوصى معلم بإرسالها إلى مدرسة مدينة تيميسفار، حاضرة إقليم بانات. أتمت، هناك، الثانوية ثم درست الأدب الألماني والروماني. عينت مترجمة في مصنع جرارات زراعية. لكن جهاز البوليس السري الروماني راح يتعقبها قاصداً تجنيدها، وهي تتهرب وتتحايل، إلى أن رفضت صراحة التجسس لحسابه، فطردت من العمل عام 1979. ظل رجال البوليس يستدعونها ويبتزونها، ومنعت الرقابة كتبها، فقررت، في هذا الجو الخانق، أن تهرب إلى ألمانيا التي وصلتها نهاية الثمانينات لتشق طريقها في عالم الأدب، وتواصل كفاحها ضد الديكتاتورية. في ألمانيا وجدت موللر نفسها بين هويتين، فتمردت على هويتها الرومانية وشرعت في استرداد هويتها الألمانية. لكنها لم تتخلَّ عن معركتها ضد الديكتاتورية في بلادها، ولا عن ارتباطها بالتراث الروماني. تمكنت سريعاً من إثبات حضورها في الوسط الأكاديمي، فأصبحت أستاذاً زائراً في جامعة برلين الحرة، وتنقلت بين الجامعات الألمانية والأميركية والسويسرية. نالت كتبها جوائز منها نوبل. وجدت في ألمانيا ساحة ثقافية مواتية تتقبل فتح ملفات مؤجلة عن فظائع الطغاة القدامى والجدد في أنحاء العالم. وهذا ما تقوم به موللر عبر قصصها ورواياتها، ومنها «منخفضات»، «الترحال على ساق واحدة»، «الشيطان منعكسًا في المرآة»، «الثعلب كان، آنذاك، هو الصياد»، «البطاطا الساخنة هي السرير الدافئ»، «الجوع والحرير (مقالات)»، «الموعد»، «الرجال الشاحبون وفناجين القهوة». في رواية «ليتني لم أقابل نفسي اليوم»، الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، بترجمة وتقديم مصطفى ماهر. تعود موللر إلى ثيمتها المفضلة، أي إلى مقارعة الديكتاتورية وما يتفرع من هذه المفردة من مواضيع مرتبطة بها، كالخوف والقهر والاستبداد والتسلط والقلق والصمت والخيبة والمكابدة... ذلك أن الأنظمة المستبدة تحصي على المرء أنفاسه، فيكاد يتحول الإنسان إلى مجرد كائن مهمش، يؤثر الصمت ويعيش في عزلة أشبه بالموت، أو يجهر بمكنونات نفسه في جرأة تقوده إلى السجون والمعتقلات. منذ البدء نشعر بهذا الهاجس القلق لدى بطلة الرواية. امرأة في مقتبل العمر مطلوبة للمثول، مراراً وتكراراً، في ساعة محددة أمام ضابط الأمن، يحقق معها بلا نهاية. وها هي بطلة موللر، الراوية بضمير المتكلم، تنقل هذا الشعور الضاغط في المقطع الأول، إذ تفتتح الرواية على هذا النحو: «أنا مطلوبة للحضور، يوم الخميس فى تمام الساعة العاشرة. أصبحت أطلب للحضور على نحو متزايد ظل يتزايد على الدوام: يوم الثلاثاء فى تمام الساعة العاشرة، يوم السبت فى تمام الساعة العاشرة، يوم الأربعاء أو يوم الإثنين، كأنما كانت السنوات أسبوعاً، ودهشت فعلاً لأن الصيف المتأخر يقترب من نهايته ويوشك الشتاء أن يعود». الأيام تمضي والفصول تتعاقب، والبطلة مضطرة للمثول، على الدوام، أمام الضابط «ألبو» والإجابة على أسئلته التي لا تنتهي. هذا التكرار للذهاب إلى مركز التحقيق، يفتح أمام البطلة آفاقاً أمام تداعي الأفكار وتدفق تيار الوعي، فنذهب معها إلى حكايات الماضي والحاضر. تتحدث، بلا ملل، عن الذكريات والصداقات والأزمنة المنقضية. عن هواجس امراة ومشاهداتها. عن كل تفصيل صغير يصادفها في الطريق، وعن كل شيء يقع تحت بصرها. كل موقف يقود إلى موقف آخر. وما إن تخوض حديثاً حتى تنتقل إلى آخر، وهي لا تتردد في البوح بكل ما يخطر في ذهنها، والاعتراف بمواقف وحالات مختلفة مرت بها. لكنها تعود دائماً إلى نقطة البداية، إلى موضوع التحقيق الذي يمثل ذريعة لفتح جميع الملفات المتعلقة بحياة امرأة تتأهب يومياً للتحقيق. واللافت أنها صافية الذهن، وهي تسير نحو مقر التحقيق، بل إنها تلجأ أحياناً إلى سرد شاعري، كما في حالة وصفها الطبيعة من حولها، إذ تقول: «في الطريق إلى الترام تعود شجيرات الخميلة عليها التوت البري الأبيض يتدلى مجدداً من خلال الأسيجة، تشبه أزراراً من الصدف خيطت متجهة إلى أسفل وكادت تنفذ فى التربة، أو تشبه كريات من الخبز. وثمار التوت البري أصغر بكثير من أن تقارن برؤوس عصافير بيضاء لفت مناقيرها إلى وراء، ولكنني لا بد من أن أفكر فى رؤوس عصافير بيضاء. إنها تحدث بي دواراً، الأفضل أن أفكر في نتف من الثلج في النجيل، ولكنها تسبب الضياع والسبات». وإلى جانب هذا المنحى الشاعري، سنجد البطلة وهي تتحدث عن النوافل والبديهيات، إذ تروي كيف أن ذبابة دخلت عينها، وكيف ذهبت إلى محل للعدسات اللاصقة، وكيف يأكل سائق الترام فطوره. وهي لا تكف عن وصف ما تراه من أشخاص يصعدون ويهبطون من الترام فهذا شاب حيوي وذاك شيخ متعب، وتلك امرأة حزينة، وذلك طفل شقي... ولأن شريط الذكريات يتواصل بلا توقف، فإن البطلة ستعود إلى ماضي أسلافها لتتحدث عن أمها وأبيها وعن أجدادها، وكيف قضوا حياتهم، بمشقة، في تلك القرى والمنخفضات والتلال. ستتحدث عن زواجها الأول وعن زوجها الحالي باول، وعن أهله وطبيعة حياتهم، بل إن موقفاً عابراً مع اسكافي مجهول سيتحول إلى قصة إنسانية مؤثرة. هذا الاسترسال المحموم يقودها إلى الحديث عن الأزياء والمصانع والشوارع والبيوت والدروب المقفرة وصولاً إلى فنون الرقص. حين يخاطبها أحدهم، بأنها لا تتقن الرقص لأن أسرتها كانت متهاونة في تعليمها. ترد البطلة إجابة موحية: «كانت أسرتي حزينة أكثر منها متهاونة، بعد المعتقل لم يعد أحد في بيتنا يبتهج إلى هذا الحد». ولن تنسى بطلة موللر، بالطبع، إدانة شرور النظام الشيوعي الذي سلب الملاكين أرضهم وممتلكاتهم بحجج سرعان ما اتضحت أنها مزيفة. وعلى رغم أن الرواية تتناول هموم البطلة ومكابداتها، بيد أن المواضيع تتشعب على لسانها هي بالذات. تسير الرواية ضمن دوائر زمنية مغلقة، إذ يختلط الزمان والمكان وتشتبك المشاهدات والملاحظات والمواقف التي تستحضر أفراداً مختلفين يعيشون ضمن بيئة اجتماعية مضطربة، مقهورة ما إن تتوضح معالمها حتى يكتنفها الغموض من جديد. ويمتزج السرد مع الحوار والوصف الذي يأتي على نحو غير مألوف، كذلك، إذ تكتب مثلاً «سكنت بالإيجار عند رجل نحيل دائم الابتسام. تلوح ابتسامته كأنها تجعيدة من تجاعيد وجهه، وليست تعبيراً. له من الخلف كتفان محدبتان، ومن أمام عظام ترقوة مقوسة كالقبّة، كأنما كان الذي أراه عندما يأتي ليحصّل الإيجار، قفص طائر يقف ببابي. كان جلده شفافاً يوشك أن يتمزق من احتكاك العظام. يتحدث بصوت كالزقزقة الواهنة». تعكس موللر في كتابتها حياة المحرومين «بتركيز لغة الشعر وصدق ووضوح لغة النثر»، كما في هذه الرواية التي تتسم بسمات الرواية البوليسية التي تفترض قضية غامضة، في البداية، ثم تتكشف الخيوط تدريجاً وصولاً إلى النهاية وإجلاء الملابسات. لكن هذا القالب، كما يرى المترجم في مقدمة شغلت حوالى 50 صفحة، «يتحوّر ليواكب الموضوع الرئيس للرواية، وهو موضوع سياسي نقدي في المقام الأول، ولينسجم مع الخط السردي الذي يتأرجح بين السيرة الذاتية وبين مشاهد الظلم والتزييف والقهر وضياع الحقوق واختلال الموازين والعجز عن الفهم».