والملفت ان البطلة "لانثذكورية" تسلك السلوك نفسه في روايات الكاتبات والكتّاب على حد سواء: تصارع الشخصية الذكورية حتى النهاية وترفضها من ناحية، وتستخفّ بالشخصية "الذكوانثوية" او لا تأخذها على محمل الجد، او لا تدرك قيمته "المساواتية" من ناحية اخرى. ولنأخذ بعض الأمثلة من روايات الكاتبات. في رواية "وصف البلبل" للمصرية سلوى بكر تنفر البطلة من الشخصيات الذكورية المطالبة لصورة زوجها المتوفى. وفي النهاية تقع في حب غرسون شاب في مثل عمر ابنها، وهو شخصية "ذكوانثوية" حنونة متعلقة بالحب منجذبة الى الامومة، وديعة، غير اقتحامية. لكن الكاتبة تتدخل في سياق علاقتهما بعد استقرارها على القبول، وتعمل على اعادة هندسة مكانيهما من العلاقة. تفرمل اندفاع البطلة وتحدد مبادرتها ودورها في قيادة وتوجيه العلاقة، وتشدد من دور البطل الذكوري بوضع عناصر المبادرة والقيادة بين يديه، ثم توجه العلاقة نحو الخيار الوحيد المقبول اجتماعياً الزواج بل وتجعل الزواج مطلباً اساسياً من مطالب البطل، فتتحول البطلة الى انثى تقليدية لا تقوى على مقاومة القوالب التقليدية للعلاقة، وتتحول القضية من قضية علاقة بين طرفين متساويين الى قضية زواج امرأة من شاب يصغرها بكثير، على رغم ان هذا الجانب لم يكن جزءاً من اشكالية العلاقة، وفي تقديرنا ان الشخصية الذكوانثوية للبطل لم تستقم لدى الكاتبة، وبالتالي لم تستقم علاقة البطلين باعتبارهما طرفين متساويين، فوجدناها تعمد الى دفع البطل "للتحلي" بمزايا وصفات الذكورة الضرورية لانجاز علاقة على اقل ما يمكن من النشوز عن المعايير الاجتماعية وبذلك تتخلص من اشكالية التكافؤ في العلاقة بين الرجل والمرأة. وفي رواية "قبو العباسيين" للسورية هيفاء البيطار، تنفر البطلة أشدّ النفور من شخصية حبيبها الامومية الحنونة المتفانية المدركة فكراً وممارسة، بل ان كل ميزة من مميزات شخصيته تدفعها الى الاستخفاف بمشاعره والتنكيل به حتى تدفعه في النهاية الى الانتحار بعد ان تختار للزواج رجلاً غنياً وجيهاً …الخ. وفي رواية "بستان اسود" لهاديا سعيد، نجد البطلة انثى تقليدية على رغم مظهرها وممارساتها الاجتماعية. وتفشل في ادراك الجوانب الايجابية في شخصية حبيبها، وبالتالي في اقامة علاقة مساوية معه. بل على العكس تسعى الى اغتنام المكسب الاجتماعي من العلاقة: الزواج، او علانية العلاقة من دون ان يقترن مساعاها بوعي مساواتي، وبذلك تدمر العلاقة. غير ان البطلة على رغم ضآلة وعيها الفكري والاجتماعي تضيق بصوتها الانثوي العاجز عن تلبية طموحها للتميز والتفرّد فتنتهي الى استعارة الصوت "الانثذكوري" لامرأة اخرى كانت غريمتها في حب زوجها المتوفى ثم اصبحت مثلها الاعلى، امرأة قوية مستقلة منتجة، فتسعى الىها في النهاية تعلقاً بصفاتها وسعياً الى التمثل بها. وفي رواية "ذاكرة الجسد" للجزائرية احلام مستغانمي تبرز الشخصيتان المساويتان. فالبطل ذكرانثوي والبطلة انثذكورية. لكن البطلة تضيق بشخصية حبيبها وتدرك ان مصير علاقتهما الى الفشل، وعلى رغم ادراكها الايجابيات عناصر شخصية فهي لا تكف عن البحث عن رجل أكثر "ذكورة" في السلوك والقيمة الاجتماعية وطبيعة الدور ووسيلة التعبير في الحياة. وفي النهاية تتزوج - من دون حب - من رجل سلطة، غني متنفذ يبدل النساء كما يبدل الاحذية. ان عذاب البطل "البريء" ذي الشخصية الذكوانثوية على يدي البطلة ذات الشخصية الانثذكورية يتكرر في ملامحه وسياقاته واتجاهاته ونهاياته، لكنه يختلف عن معادلة "ذكر/ أنثى" "سادية/ مازوكية" في انه ليس انقلاباً ميكانيكياً للمعادلة، بل تعبيراً عن صراع فكري شديد الإيلام بين عاملين يتمتعان بالقدرة نفسها على الجذب والاستيلاء والتوجيه. وبالنسبة الى رواية "ذاكرة الجسد" فإلى جانب مسألة استحالة العلاقة بين الشخصيتين المتكافئتين فإن العلاقة بينهما تلتبس بقضية أكثر مركزية، وهي استعارة صوت الرجل للخطاب السياسي. فلكي تدخل الكاتبة الى السياسي فإنها تختار بطلاً رجلاً لكي تضمن قوة ومقبولية خطابه النقدي والتحليلي والتاريخي. فهو البطل، مناضل مشوّه حرب، مثقف وفنان، عمل في مؤسسات الدولة واصطدم بالمتغيرات التي أحدثتها الدولة في الثورة. ففشل بسبب نقائه ومبدأيته في أن يصبح رجل دولة. وحيث لم يعد للثورة مكان في بلده فإنه يهاجر وينصرف الى الرسم. إذن: مناضل مشوه - مسؤول - معارض - مهاجر/ منفي - متفرغ لفنه في محاولة لتعويض خسارة الجسد والدور وبالنتيجة "مهزوم". في واقع الأمر فإن الخطاب هو خطاب الكاتبة/ المرأة/ الأنثى، والرؤية التاريخية رؤيتها، والتحليل تحليلها، والثورة ثورتها. لماذا اذن لم تختر امرأة بطلة لروايتها، خصوصاً ان الواقع التاريخي الجزائري حافل بالحضور النسوي وبالبطولات النسوية، وبالاندحار النسوي في ما بعد؟ لماذا وجدت الكاتبة صوت الرجل أكثر "أهلية" لتصدير الخطاب السياسي؟ هل لأنها أرادت تحميل الرجل كمهزوم مسؤولية ما وصل اليه الوطن من خراب؟ أم أنها لا تقوى على مقاومة المفاهيم الموروثة في توصيف الذكورة والأنوثة وفاعلية خطاب كل منهما ضمن الهندسة المكانية المقررة لدوريهما في الحياة، وبالتالي فإن استعارتها صوت الذكر لتمرير خطابها السياسي سينظر اليه كنموذج للاستلاب الأنثوي "للمجتمع الفكري الذكوري" أو للخوف من تبعات تصدير الصوت الأنثوي للمهمات الذكورية وخطابها. ان ما كانت ستكشفه وتكتشفه بطلة امرأة ذات تاريخ ودور، ماضٍ وحاضر، فكر ووعي، ممارسة ومعاناة أي امرأة مساوية لما كان عليه البطل هو أعمق وأوسع بكثير مما توصلت الكاتب الى الكشف عنه من التاريخ والواقع سياسياً واجتماعياً ومعيارياً ونفسياً، على رغم ان ما كشفت عنه الكاتبة كان مهماً جداً وفائق الشجاعة، وتكمن أهميته في خصوصيته المسكوت عنها من ناحية، وشموليته الجارحة لكل المجتمعات العربية. فما الذي حال دون ان يكون ذلك كله، وأكثر منه أو أقل خطاب بطلة امرأة؟ بالطبع لأن الكاتبة تدرك ان خطاب المرأة لا يؤخذ مأخذ الجد في ما يخص أي شأن عام يقع خارج حدود حركتها في الهندسة المكانية المرسومة للرجل والمرأة في المجتمع. فالخطاب السياسي أو الفكري أو الاجتماعي في الرواية يستقبل في العادة مستقلاً عن صوت البطل، فحين يكون على لسان رجل فإنه يكون في الواقع على لسان "كل واحد" و"لا أحد محدداً". فالرجل هو الكل، المجتمع. والبطل الذكر سيكون بمثابة "ناقل" محايد تقريباً، أو لنقل شاهداً مقبول الشهادة. أما حين يكون الخطاب على لسان بطلة امرأة فإنه سرعان ما يلتبس بما يمكن ان نسميه "عوامل تشتيت الاستقبال" فخطاب المرأة لا ينفصل في ذهن المستقبل عن كينونتها الأنثوية وصفتها الجنسية. ومن ناحية القيمة الاعتبارية فهي شاهد غير عدل، لا تتصف بالموضوعية ولا بالملكات الذهنية والتحليلية، بل بالعصاب والجموح والمبالغة ونقص المعلومات، واللاعلاقة إجمالاً، فهي ليست ذات شأن خارج حدود دورها الاجتماعي، فما شأنها بالتاريخ والثورة والدولة والواقع والعصر... الخ، وما أدراها، ومن أين لها... الخ... الخ! بإمكاننا - وببساطة - استعارة المصطلح النقدي الغربي وتطبيقه على النصوص الروائية العربية. لكن النتيجة المنطقية لذلك قتل النصوص وإلغاؤها باعتبارها حاملة للفكر والموروث وعناصر الصراع والرؤى المتقدمة للمبدع الذي تمثل كل هذه العناصر وجسدها في عمله الابداعي. إن تأصيل المصطلح النقدي العربي كان وما يزال أحد أهم اشكالات الثقافة العربية. ويشتد الاضطراب حين نقترب من المواضع الأكثر حساسية والتهاباً وتطلباً للبحث والدراسة والتأصيل. الأدب النسوي... إن أُخذ بخفة أفضى الى المزيد من الفوضى، وان أخذ مأخذ الجد تخبط ما بين الاصطلاح الغربي وقصور البحث الجدي في الساحة العربية، وكلما عقد ملتقى جديد حول الأدب النسوي ازداد المصطلح غموضاً وازداد البحث حوله تخبطاً. لماذا؟ يتساءل الكثيرون وهم ضجرون ومستاؤون من التخصيص: لماذا أدب نسوي؟ لماذا يجب ان يتصف الأدب الذي تكتبه المرأة بصفات وملامح وسمات مختلفة، فالأدب الجيد هو الأدب الجيد، أو بالاحرى الأدب هو الأدب سواء كتبه رجل أو كتبته امرأة. في الواقع ان هذا الاستياء هو جزء من الاستياء الشامل الموروث من كل ما يتعلق بقيمة المرأة وموقعها في المجتمع والحياة، ومحاولاتها لطرح خطابها في أي من عناصر الحياة والوجود. وأظنه في الأساس استياء يواجه كل إثارة وزحرحة للثوابت، وكل اقتراب من المسلمات بأي شكل من أشكال المساس. وفي "قديم الزمان!" كان الأمر بسيطاً ومريحاً. فالمرأة خلف موقدها ومغزلها، داخل غيبتها المقننة المحكمة. فإذا ما "نشزت" فإنها تعاقب بصرامة وتضبط في موقعها المقرر لها. واذا ما تمردت "تميزت" فإنها: إما ان تُضم الى جنس الرجال، أو "تُلغى"، تشطب من التراتبية الاجتماعية وتدفع الى مواقع مهيأة لها حيث تُحرم من القيمة والقدر والدور والمكانة. أما اليوم فالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية أخرجت المرأة من الهندسة المكانية الثابتة في حياتنا الى أمكنة كانت محرمة عليها، وأرست واقعاً مغايراً، ليس متكاملاً أبداً، وليس مبشراً دائماً، ولكنه مغاير، يفسح ساحات واسعة هنا ضيقة هناك، ممكنة هنا صعبة هناك، ولكنها ساحات تُغذى دائماً من خارجها، ومن داخلها بالمحرضات والشواهد والممارسات والنماذج وانماط السلوك والإزاحات، والتشبثات والفاعلية الضاغطة باتجاه التغيير، والتأصيل. وفي تقديري ان تأصيل مصطلح الأدب النسوي يمكن ان يكون تجربة طليعية في حقل تأصيل المصطلح النقدي في الساحة الثقافية العربية، لأنه من بين جميع المصطلحات النقدية يمتلك خصوصية الاختبار والمقاربة مع البنى المولدة للرؤى والأفكار والمعايير، ويمكن بالتالي ان يفضي الى مقاربات اخرى على هذا القرب أو ذاك من حقول توليد أكثر من مصطلح ما يزال أسير الجمود أو الجموح، وبالنتيجة، التطبيق القسري لمصطلحات، أما قد عفا عليها الزمن أو تولدت وتبلورت في حقول توليد مختلفة كلياً عما لدينا. ليست الكتابة النسوية هي التي تتخذ الكاتبة منها منبراً للخطابة في الشأن النسوي أو الاجتماعي، انها بالأحرى رؤية تتصف بالشجاعة ونفاذ البصيرة، تكشف عن فعل الشرط الاجتماعي في التكوين النفسي والسلوكي والمعرفي للانسان ذكراً كان أم أنثى، وبالمقابل عن فعل هذا الشرط في الكتابة - في المنظور الذي تختاره الكاتبة - أو تضطر الى اتخاذه، - للافصاح والتقييم والتشخيص وبلورة الموقف والمعنى وبناء الشخصية واللغة والبنى السردية... الخ، الأمر الذي يهيء المتلقي لإدراك خلل ميزان العدالة الاجتماعي في مجتمع ذكوري. وبالطبع لا تقوم الكاتبة بذلك كله بناء على تخطيط ايديولوجي، وانما بشجاعة ونفاذ بصيرة وتحرر من الخوف: الخوف من الإدانة، الخوف من الافصاح عن عمق واتساع تجربتها الحياتية، الخوف من معتقداتها الفكرية والسياسية، الخوف من النبذ الاجتماعي، الخوف من المساءلة الاجتماعية وربما القانونية، وفي الاجمال "التحرر من الخوف من الحرية". ولكن قبل ذلك كله التوافر على الموهبة التي تطلق عوامل الابداع الفكري والفني والمعرفي نحو آفاق التعبير ذي الخصوصية والأصالة المتفردتين. وليس بالضرورة ان تكتب هذا الأدب امرأة، فالكاتبة قد تسلك في الأدب كما تسلك في الحياة كأنثى. والرجال الذين يكتبون مثل هذا الادب يؤسسون مع نظيراتهم النساء ما يمكن ان نصفه مبدئياً بأدب "إدراك وعي المساواة" وهو في هذه المرحلة أدب الاستبصار وبلورة الرؤى واعلانها، وبالتالي فهو أدب المعارضة الاجتماعية للفكر الموروث والثوابت المهيمنة. واذا كانت الاديبات اكثر اندفاعاً في هذا الصدد فلأن المرأة أكثر مكابدة لاشتراطات اختلال ميزان الصراع والعدالة في المجتمع وأكثر وعياً بعوامل فعله في الذات الانسانية، وأكثر تقديراً لامكانات وفرص التعبير حين تتاح لها، أو حين تعمد الى انتزاعها انتزاعاً. ان الرواية العربية الحديثة تواصل انتاج نماذج بالغة الحساسية والثراء في مقاربة المخاضات الاجتماعية والفكرية الصعبة لجيل من الأبطال أعادت المعاناة تشكيل رؤاهم وأفكارهم ومواقفهم من المعايير الاجتماعية والفكرية والسياسية الموروثة. ولا بد لتأصيل المصطلح النقدي من ان يمضي جنباً الى جنب من الكتابة الابداعية، لا يسبقها لينصب لها الفخاخ فيتصيدها ويعتقلها في أقفاص المصطلح الجاهز، ولا يُستلب لسطوتها فيضيع في دوامات الاجتزاء والاحكام المتعجلة. ويخيل إلينا ان هذا هو المسار الطبيعي للعلاقة ما بين النقد والابداع. وهو مسار ظل لدينا - وما يزال - مقلوباً أو مضطرباً، أو في حالة تنازع تناحري لم يصل بنا في الواقع الا الى التشتت والفوضى، التزمت والجمود، التسلط والاستلاب.