جرائم بلا دماء !    «خدعة» العملاء!    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    الخرائط الذهنية    ماذا فعلت القمة الكبرى؟    مبادرات نسائية    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    عاد هيرفي رينارد    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    لماذا فاز ترمب؟    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    هاتفياً.. ولي العهد ورئيس فرنسا يستعرضان تطورات الأوضاع الإقليمية وجهود تحقيق الأمن    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    NHC تعزز وجهاتها العمرانية ب 23 مركزًا مجتمعياً بقيمة تتجاوز نصف مليار ريال    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    انعقاد المؤتمر الصحفي للجمعية العمومية للاتحاد الدولي للخماسي الحديث    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    عصابات النسَّابة    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    الذاكرة.. وحاسة الشم    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المهرجان الايطالي كرمهم بعرض آخر افلامهم . شاهين ورومير ولوتش وآلن : أسماء تزين سماء البندقية وشاشاتها
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 2001

الدورة الثامنة والخمسون هي الأكبر حجماً والأكثر إثارة في تاريخ المهرجان الإيطالي الذي درس خطواته جيداً في السنوات الثلاث الأخيرة، منذ أن تولى مديره الجديد ألبيرتو باربيرا، ليقدم بدءاً من هذا العام مسابقة جديدة وتنظيمات مختلفة، اضافة الى جلب أكبر مجموعة أفلام للمنافسة في مهرجان دولي. هناك الكثير من الأسماء اللامعة في هذه الدورة وذلك تعبيراً عن رغبة في الإبقاء على صناعة السينما من دون شوائب، فلا سوق ولا "بزنس" ولا سيارات ليموزين، بل استعراض سينمائي صاف ونقي.
من الأسماء الكثيرة التي أتت لعرض أفلامها او لمناسبة الاحتفاء نختار هنا أربعة سينمائيين متباعدين جغرافياً وأسلوباً، متقاربين في انتمائهم المخلص والكامل الى فن السينما.
يوسف شاهين:
مخرج القضايا الكبيرة
يوسف شاهين اليوم هو أكبر مخرجي السينما العربية، وواحد من أنبغ السينمائيين الذين عاشوا على تربتها. كذلك، ومن دون اي تحيز، أحد الأسماء الأكبر في سماء السينما العالمية. واحد من اولئك الذين انتموا الى المجموعة الذهب من مخرجي الستينات والسبعينات حول العالم، ومن القلائل الذين لا يزالون يعملون في هذا الحقل. معظم الآخرين توقفوا - او بالأحرى - أجبروا على التوقف، او رحلوا عن عالمنا. فيلم وراء آخر، وبصرف النظر عن اختلاف الآراء حول بعضها، وهو اختلاف جائز، يدعم شاهين مسيرته بالمزيد من الأعمال الجديدة. ذات مرة علّق ضاحكاً: "المخرجون الشبّان اليوم يبدأون العمل وهم في الأربعين من العمر". مقارنة مع انتاجات هؤلاء فإن أفلام شاهين أكثر شباباً في معظمها، لما تحويه من حماسة وحب في التجربة وصراحة في الطرح وجرأة في اتخاذ الموقف.
شاهين نفسه، وراء الكاميرا، يبدو أكثر تفاؤلاً وشباباً من الكثر الذين تبعوه، وهو الذي بدأ العمل في السينما العام 1950 بفيلم "بابا أمين". صحيح أن أحداً لم يكن يستطيع أن يستوحي من "بابا أمين" 1951 و"المهرج الكبير" 1952 و"نساء بلا رجال" 1953 الكثير مما يدعم تفاؤله بولادة مخرج مميز، لكن شاهين الذي ولد في الاسكندرية في 25 كانون الثاني يناير سنة 1926، عكس في تلك الأفلام الأولى دراية وحنكة في السرد ووضع فيها العلامات الأولى لما تطوّر في ما بعد الى مزايا خاصة به. بل إن هذا التطوير جدّ باكراً في العام 1953 عندما أخرج "صراع في الوادي" مع عمر الشريف وفاتن حمامة متناولاً خطاً عاد اليه أكثر من مرة: الشاب الذي، على رغم حبه فتاة معينة، ينظر الى رجل آخر يجسد القوّة التي يتمناها لنفسه في هذا الفيلم فريد شوقي.
في كل تلك الأفلام حنكة شاهين التقنية واضحة، لكن نجاح "صراع في الوادي" التجاري، بسبب اللقاء المبكر بين عمر الشريف وفاتن حمامة، دفع الى "صراعات" عدة متتالية، في مقدمها "صراع في الميناء" ليوسف شاهين 1956 ثم "صراع في النيل" لعاطف سالم 1959 ثم "صراع في الجبل" لحسام الدين مصطفى 1961. لكن "صراع في الوادي" يبقى أفضلها وهي المرة الأولى لعمر الشريف تحت إدارة يوسف شاهين والثالثة لفاتن حمامة بعد بطولتها ل"بابا أمين" و"ابن النيل". بعده أخرج شاهين "شيطان الصحراء" 1954 مع عمر الشريف ايضاً ليعود فيجمع بين ممثله المفضل حينذاك وبين فاتن حمامة في "صراع في الميناء". وهذا الفيلم كان نهاية مرحلة أولى تميزت باختيار مواضيع عاطفية، ولو أنها لم تكن نهاية قاطعة اذ عاد شاهين لاحقاً الى قصص حب صغيرة - كبيرة أكثر من مرة.
في العام 1958 سجل لنفسه وللسينما العربية نصراً: لقد خطا صوب الموضوع الاجتماعي الجاد عبر فيلم "باب الحديد" متطرقاً الى موضوع كانت السينما العربية تتحاشاه: الوضع الجنسي اليائس لشاب ذي عاهة يبيع الجرائد في محطة قطارات القاهرة. الى جانب اختلاف المضمون عما كان شائعاً، هناك ايضاً اختلاف الأسلوب. انه فيلم واقعي ليس من حيث أماكن أحداثه وشخصياته فقط، بل ايضاً من حيث نظرته التي اعتبرت سوداوية في حينه. الفيلم ايضاً بلور ذلك الخط الذي تعزز لاحقاً في أفلامه اللاحقة والذي كان ولد في "صراع في الوادي": بطل الفيلم الأعرج كما لعبه يوسف شاهين نفسه لا يحب فقط أنوثة هند رستم كما كان يفعل واحد من كل اثنين من مشاهدي الفيلم آنذاك بل يحب ايضاً رجولة فريد شوقي ويتمناها لنفسه. كل ذلك كان أغرب من أن يجد لدى الجمهور العربي الإعجاب او القبول، فمر الفيلم - وهو من أفضل أفلام شاهين الى اليوم- من دون التقدير الذي كان يستحقه. هذا التقدير ورد لاحقاً بفرض من النقاد وهواة السينما اولاً، ثم بسبب اعادة عروضه التلفزيونية ثانياً.
هناك مرحلة وطنية حقيقية وليست على نحو الأفلام الهزلية الحالية التي تقحم مشهداً ضد اسرائيل وتسمي نفسها معادية للتطبيع، تلت "باب الحديد" مباشرة من خلال "جميلة بو حريد" 1958 الذي كان أول فيلم مصري يهتم بقضية عربية لبلد آخر، و"الناصر صلاح الدين" 1963 الذي انطلق فيلماً قومي الهدف وبقي إلى ما بعد أن دهمه، خلال التصوير، سقوط تجربة الوحدة العربية بين مصر وسورية، تلك التي كان الفيلم ينادي بها استيحاء من الأجواء السياسية القائمة.
بعد ثلاثة أفلام "فجر يوم جديد"، "بياع الخواتم" و"الناس والنيل" بنجاحاتها الفنية المتفاوتة يستدير شاهين سنة 1968، بعد عام واحد من الحرب الثانية بين العرب واسرائيل، الى قضية محلية تعيد، من بين أشياء أخرى تقوم بها، رصد موضوع الأرض المحتلة الى أيام الاستعمار الإنكليزي. "الأرض" كان الأكبر بين أعمال يوسف شاهين في جودته وصلب قضيته التي تمزج بين ما يدور بين الشخصيات المقدمة على نحو شخصي وخاص، وبين ما يدور بينها وبين الوضع المتأزم نتيجة رغبة العسكر في الاستيلاء على ارض الفلاحين.
بسبب "الأرض" أعيد سريعاً اكتشاف شاهين الذي كان توجه الى المهرجانات السينمائية مرات عدة من قبل، وكان حرياً بالفيلم أن يحوّل محمود المليجي الى وجه يذكر بالنفس ذاته الذي يذكر به اليوم فيتوريو غاسمان أو تريفور هوارد. بالنسبة الى شاهين، كان "الأرض" بداية قرار بأن يدير ظهره لأي فيلم لا يحتوي على ذلك التوازي بين الخاص والعام، ولا يعبّر عن هاجسه السياسي، فأتبعه ب"الاختيار" 1970 و"العصفور" 1972، و"عودة الابن الضال" 1976 و"اسكندرية ليه" و"حدوتة مصرية" ثم "اسكندرية كمان وكمان" وصولا الى "المهاجر"1995 و"المصير" 1997 و"الآخر" 1999 وفيلمه الجديد المعروض هنا "سكوت... حنصوّر" 2001.
إذاً فيلم كل عامين لمخرج كبر وهو واقف وراء الكاميرا يرصد من خلالها متغيرات بلده ويحاول سبر غور حياته الشخصية وانعكاسات التيارات والأوضاع العامة عليه وعلى مجتمعه حتى حينما يبتعد، شكلاً، الى التاريخ كما في "المهاجر" و"المصير" او يمضي بعيداً داخل الذات "حدوتة مصرية".
اريك رومير: المخرج الدؤوب
الاحتفاء بالمخرج الفرنسي اريك رومير في دورة هذا العام الوحيد المحتفى به عملياً يعكس جانباً من اهتمامات المهرجان الأساسية: الاحتفال بسينما المؤلف التي في واحدة من ترجماتها تعني أفضل ما قدمته السينما الفرنسية في تاريخها من مدارس او تيارات. ورومير ولد في 2/4/1920 باسم مختلف كلياً عن شهرته: جان - ماري موريس شيرير. شق طريقه كما جان - لوك غودار وجاك ريفيت اللذين احتفى بهما نوعاً مهرجان "كان" هذا العام ناقداً في "الكاييه دي سينما" قبل أن يصبح رئيس تحريرها في العام 1957 وهو العام الذي بدأ فيه تحقيق أول فيلم روائي طويل له "علامة الأسد" بعد أفلام عدة قصيرة.
بقي رومير محاذياً لمنهج موجة السينما الجديدة، الى ما بعد أن شق منهجه المختلف الذي يقع، إذا ما قورن بأساليب اساتذة آخرين، بين اسلوب روبير بريسون وجان رنوار. الأرجح ان هذا الابتعاد المبكر من سينمات غودار - تروفو وشابرول، هو الذي أخر اكتشافه الى ما بعد نجاح كل اترابه الآخرين كما حدث ايضاً مع ريفيت. أفلامه الروائية الأولى بالكاد وجدت اهتماماً حتى بين المثقفين. بعضها اعتبر تجريبياً خالصاً وجلّها انتهت في الخزائن غير معروضة او معروضة لأسابيع متناثرة في معاهد او مهرجانات بلا جوائز.
"ليلتي عند مود" 1970 و"ركبة كلير"1971 هما الفيلمان الأولان اللذان حققا، متتاليين، النجاح الذي ينشده رومير على الصعيدين النقدي والتجاري معاً. هذا من دون أن يتنازل عن سماته. فقط قرّبها أكثر الى الجمهور حتى تصبح أكثر تداولاً وفهماً. "ركبة كلير" هو بداية شغل رومير على موضوع ارتباط بطله - الرجل بالمرأة الذي امتد لستة أفلام متتالية سميت ب"الحكايات الأخلاقية" كونها تتناول أزمة الرجل حين يختار امرأة ثم يقارنها بأخرى قبل أن يعود الى اختياره الأول. لاحقاً، في مجموعة "الفصول الأربعة" نلحظ كيف أن موضوعه الفرد تناثر على شخصيات عدة في الفيلم الواحد عاكساً اختيارات متباينة ومواجهات مع النفس متبادلة وواقعة بين أكثر من شخصية.
رومير كان دقيقاً في اختياراته الفنية. في حين أن القصص المحدودة التكاليف وأماكن التصوير التي عمد اليها كان يمكن تصويرها في اي ظرف، الا أنه كان يختار الظرف الذي كتبه على الورق من دون تعديل. الشتاء يجب أن يكون شتاء، والصيف يجب أن يكون صيفاً. كذلك فإن مكان التصوير الذي يريده يجب ألاّ يتغير لأي سبب. اذا لم يكن الممثل المرغوب متوافراً في شتاء هذا العام فلا بأس من تأخير الإنتاج الى شتاء العام المقبل حدث ذلك مع جان- لوي ترنتينيان حين اختير لبطولة "ليلتي عند مود". هذا أهون عليه من أن يأخذ ممثلاً آخر متفرغاً. وفي حالات كثيرة كان ممثلوه نساء ورجالاً غير محترفين ولا حتى هواة تمثيل. كان يختارهم تبعاً لمطابقة ما يقومون به في الحياة على الدور الذي سيؤدونه في الفيلم . حين أراد رسّاما لفيلمه La Collectioneuse جلب رساماً، وحين أراد مؤرخاً ماركسياً لفيلمه "ليلتي عند مود" جلب مؤرخاً ماركسياً وليس ممثلاً يؤدي دور مؤرخ ماركسي.
سينما رومير لا تعرف مغامرات شكلية واسعة. انها سينما إمعان وبحث وتعليق على ما يدور عادة بصوت بطل الفيلم وهذا يجعلها تتطلب مشاهدة خاصة. بينما بريسون هو أقرب السينمائيين الى أسلوب رومير او العكس نجد أن رومير الأكثر اعتماداً على الحوار. في الواقع الكثير من أفلامه لا تتحرك بقدر ما تُسرد. انه واحد من اولئك المخرجين حول العالم الذين تجلس إزاء اعمالهم لتنتظر النتيجة او كما يرد في فيلم آرثر بن "حركات ليلية": "مشاهدة فيلم لرومير مثل مشاهدة لوحة بانتظار ان تجف". يزيد من ذلك الحس أن الكاميرا لا تتحرك الا قليلاً، والمونتاج لا عمل له خارج نطاق وتخطيط وإيقاع المخرج. انه، المونتاج، لا يتدخل في السرد. السرد هو الذي يتدخل في المونتاج.
على رغم ذلك، بعض أفلام رومير لا يمكن اغفال تأثيرها. مشاهدة "ركبة كلير" كان أول اشارة الى أن ما يستطيع رومير تحريكه في الذات بأقل تحريك مقابل في الصورة ذاتها، هذا لم يساعده في جذب جماهير كثيرة، خصوصاً عندما انطلق في التسعينات لينجز "قصة الربيع" و"قصة الشتاء" و"موعد باريسي".
أحياناً، كما في "حكاية الخريف" مثلاً، يعود الى الشخصيات المثيرة بذاتها ولذاتها ويستولي بها على مشاهديه ببساطة تسليط اسلوبه على عقد شخصياته. دائماً وأبداً كان الهم هو البحث في اختيارات الإنسان العاطفية ومتابعتها. لكن اذ تسقط له تلك الأفلام التي تدور بين شخصيات شابة ومراهقة، نسبة الى أن ما لديها يبقى أقل ثراء مما لدى شخصيات أكثر رشداً وتجربة، ترتفع تلك التي تزدحم أكثر بشخصياتها. لكن من الخطأ تصنيف أفلامه كما لو كانت مراحل مختلفة، انها - مثل سينما بقية الكبار - تنتسب جميعها الى قطعة واحدة مشدودة الى بعضها بعضاً بأسلوب سرد وتعبير لا يتغيران كثيراً.
كن لوتش:
الطبقة العاملة تدخل سينماه!
وجود كن لوتش في "البندقية" هذا العام سببه عرض فيلمه الجديد "الملاح" انتاج بريطاني -الماني- اسباني مشترك، يدور حول تأثير قيام الحكومة البريطانية بتحويل صناعة ومصلحة "سكة الحديد" الإنكليزية من القطاع العام الى القطاع الخاص. بذلك يكون لوتش تابع الحديث عن تأثير المناخات السياسية والمتغيرات الحاصلة حول العالم انفتاح اقتصادي، عولمة، خصخصة الخ... في الطبقة العاملة البريطانية.
في ذلك ايضاً هو أعتق مخرج لا يزال يتابع مثل هذا الموضوع.
لوتش من جيل الستينات، الفترة التي كانت ملائمة لولادة سينمائيين يطلقون ما يريدون من مواضيع بما يختارونه من أساليب. فترة كانت حبلى بالتجارب التي كانت تجد طريقها الى جماهير متعددة. أفلامه الأولى، مثل "حياة عائلية" 1971 وصلت الى بيروت كما وصلتها أفلام ليندساي اندرسون التي لا تقل نقداً سياسياً، زميله في السينما الذي حمل الكاميرا للحديث عن مجتمع بريطاني مرهق. اليوم لا تصل أفلامه الأخيرة الى أكثر من ربع العواصم التي كانت تصلها سابقاً. بالكاد يجد له شاشة لندنية وأخرى باريسية وثالثة في روما او نيويورك.
"حياة عائلية" كان داكناً في عرضه ومتشائماً في خلاصته: تأثير الوضع المعيشي في البيئة وهذه على فتاة شابة لم يستطع أهلها محاربة أسباب الفقر التي تدفعهم الى إساءة معاملة فتاتهم، من حيث لا يعلمون. وهذه الدكانة وذلك التشاؤم سادا كل أفلامه الأخرى سواء تلك التي تعاطت قصص الحياة العمالية في انكلترا او التي أخذت فرصة من هذا الموضوع لتبحث في النضال السياسي في اسبانيا "ارض وحرية" او في اميركا اللاتينية "اغنية كارلا" او في الولايات المتحدة ذاتها "خبز وورد" .
مرات قليلة هي التي عمد فيها الى اختيار مواضيع تبدو مختلفة تماماً. في "مفكرة خاصة" تخلى عن واقعيته التسجيلية وقدم فيلماً من التشويق السياسي. في "ارض وحرية" خرج بالكاميرا من الموقع الاجتماعي البريطاني بفقر أحيائه وحاجات أبطاله الى الأرض الاسبانية التي كانت تشهد الحرب الأهلية، تلك التي خاضها اليسار ضد اليمين: المحور الذي يعلو كل اهتمام آخر للوتش في تلك الحرب. لكن هذا الخروج من الموقع المعتاد زماناً ومكاناً، لا يجعل سينما لوتش متباينة. انها لا تزال السينما ذاتها بالاهتمامات والقدر ذاته، من النقد.
ربما في بحث مستفيض، ليس له مجال الآن مع اي من هذه الأسماء الواردة، يمكن ايجاد تفاصيل حول اختلاف التناول بين ما يدور في رحى وضع انكليزي عما يدور في رحى وضع لاتيني او أميركي او اسباني او ايرلندي، لكن الذي لا يمكن ان يتغير هو وجهة المخرج الناقدة التي تبدو اليوم، وسط تراجع النبرات الانتقادية ذات القضايا الأيديولوجية، وحيدة ومعرضة للنقد من الذين لم يوافقوا عليها يوماً.
وودي ألن: تحت الشبهة
خارج المسابقة يقدم وودي ألن فيلمه الجديد "لعنة العقرب" الذي كنا تطرقنا اليه هنا خلال الحديث الى أهم كوميدي في السينما الأميركية في العشرين سنة الأخيرة. سينما وودي ألن تمر كقطار بطيء يعبر من دون أن تشعر ببطئه. أنت جالس في محطة تنظر الى القطار وهو يعبر وتلحظ أن نوافذه مضاءة جيداً وملونة ومزخرفة، ولو بديكورات قديمة، والشخصيات التي وراء نوافذه كلها مشغولة بتقديم ما يثير الانتباه. اذ يمر القطار تفيق على أن سنوات ثلاثين من هذا الزخرف والجمال مرت وأنت لا تزال جالساً تحدّق. النوافذ متشابهة. الشخصيات تقريباً ذاتها، لكن الدلالات من التنوع بحيث ان التكرار والممل بالتالي لا ينساب اليك. سيكون من المثير لهاوي السينما مشاهدة مجموعة أفلام ألن على نحو متتابع منذ أن أم السينما كوميدياً متأثراً بسينما شابلن وهارولد لويد وباستر كيتون، الى أن عكس حبه لبرغمن وفيلليني ثم عاد الى إنجاز تنويعاته على السينما الكوميدية مضيفاً اليها نضجه خلال تلك الحقب. اذا ما فعل المرء ذلك يجد أن ما بدا رصفاً لنكات عالقة في البال، لم يكن سوى بداية لبلورة مواضيع تلك النكات الى مضامين أساسية.
في "خذ المال واهرب" 1971 يشتبه به لصاً. في "موز"، يشتبه به ثورياً لاتينياً. في "ظلال وضباب" يشتبه به قاتلاً، وفي فيلمه الجديد "لعنة القرب" يشتبه به لصاً من جديد. في كل مرة هناك ما يوحي بسهولة انضواء الشخصية التي أمامنا تحت هذا النوع من الجريمة او تلك. آلن يبدو نموذجياً لإثارة الشبهة وهو يعرف ذلك ويزكيه في الأدوار التي يسندها الى نفسه. إنه كما لو أن آلن يملك نيات دفينة مغلق عليها جيداً لأن يكون لصاً لعب دور اللص الفاشل فعلاً في فيلمه ما قبل الأخير "محتالون صغار" وقاتلاً ويسارياً فوضوياً. ونحن نعلم أن موقفه انتقادي من اسرائيل وساخر من التعصب عموماً، ونعلم انه خريج فترة زمنية لم تعد تعتبر كاسترو عدواً، ولا ثورات جمهوريات الموز مدعاة للغضب الأميركي.
أكثر من ذلك، إن الفيلم الوحيد الذي رضي ألن بتمثيله فقط اي كان من اخراج آخر ما بين بداية شهرته وصولاً الى تتويجه نجماً للكوميديا الراقية كانت في فيلم "العبها ثانية يا سام" 1972 للراحل مارتن ريت. والموضوع كان الكتاب الممنوعين من العمل نتيجة الحملة المكارثية بتهمة ميولهم اليسارية. يؤدي فيه دور رجل بلا موهبة حقيقية يُختار من جانب ثلاثة كتاب ممنوعين لتمثيلهم لأن الكتابة هي العمل الوحيد الذي اتقنوه. هذا الساذج أصبح أكثر من قناة عمل للآخرين، اذ يتبنى مواقف هؤلاء، ما يضعه تحت شبهة كونه يسارياً بدوره.
ثلاث مراحل سينمائياً عاشها وودي ألن: الأولى كوميدية، الثانية درامات عاطفية جادة، ثم الثالثة كوميدية من جديد. هذه الأخيرة تتضمن ملامح من المرحلتين كما لو أن وودي ألن كان في حاجة اليهما للتبلور والتطوّر الى ما هو عليه. واحد من أهم علامات المرحلة الأولى شكلية: رغبته في الإمساك بخيط ما واستغلاله وتكبير حجمه لما فوق المنطقي. في "الموز" و"خذ المال واهرب" و"كل شيء أردت معرفته عن الجنس وكنت تخشى أن تسأل"، تلك المشاهد التي تكبّر حجم وقع شيء ما الجنس، المال، الموت الخ... على بطله ألن نفسه. من الفترة الثانية، عندما اتجه الى الأفلام الجادة، خرج بالطروحات الدرامية التي لم تكن تعرفها كوميدياته السابقة، وصاغها حيث تتماشى مع الشكل الكوميدي المرغوب لها. بذلك، حافظ على كونه كوميدياً أولاً، ثم عالج مضامين هذه الكوميديات بمشاغل عاطفية مسحوبة من "دواخل" و"سبتمبر" و"أحلام منتصف ليلة صيفية".
سينما وودي ألن بحث مستفيض ولو كان متكرراً الى حد ملحوظ، في كل مجال من مجالات اهتمامه. بحث عن الذات والهوية. عن الدين والانتماء والعاطفة والاختيارات. هذا ما يجعل عودة ألن من حين الى آخر للعب شخصية انسان مشتبه به امراً مفهوماً، فهو ككل إنسان مشتبه به يملك شخصيتين على الأقل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.