عندما اعتلى المخرج البريطاني الثمانيني كين لوتش خشبة الحفل الختامي للدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي ليتسلم السعفة الذهبية التي فاز بها وسط تصفيق مدهش من الحضور، لا سيما من السيدات اللواتي كنّ متزينات بأثواب ومجوهرات مذهلة، فاته في خطبته الطويلة نسبياً أن يلفت نظر الحضور إلى أن مجمل ثمن تلك الملابس والمجوهرات قد يكفي وحده لإنقاذ حياة ومصير ألوف من أمثال دانيال بليك، الشخصية المحورية في فيلمه الذي شارك في مسابقة «كان» وأناله ثاني سعفة ذهبية في مساره الفني. لو كان الفرنسي/السويسري جان – لوك غودار مكانه لفعلها وأخبرهم بكل لؤم عما يدور في رأسه في تلك اللحظة. لكن لوتش، ومهما كان من شأن غضبه الاجتماعي وحدّة نضاله السياسي يبقى رجلاً إنكليزياً مهذباً من طراز نادر. من هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن يلقب ب «آخر اليساريين المحترمين». ولا شك في أن أهل «كان»، بقدر ما كافأوه في الحفل الختامي على قوة فيلمه الجديد وربما حتى، على كلاسيكيته «الوظائفية»، كافأوه أيضاً على تاريخه السينمائي الحافل والكبير، هو الذي مضى عليه حتى الآن نصف قرن بالتمام والكمال يخوض الفن السينمائي، بالمقدار نفسه الذي يخوض فيه النضال السياسي ودائماً دفاعاً عن القضايا العادلة والشعوب المظلومة في العالم، وصولاً طبعاً الى مواقفه المعروفة في تأييدها لقضية الشعب الفلسطيني ما أغضب اليمين الإسرائيلي ودفعه الى محاربته... كين لوتش لا يطيق أن يرى مظلوماً في هذا العالم. وهذا ما عاد وأكده هذه المرة من جديد في فيلمه الفائز في «كان» «أنا، دانيال بليك». هل كان يستحقها؟ من ناحية مبدئية لا بد منذ البداية هنا من إراحة ضميرنا النقدي والإشارة الى أنه على رغم السرور الذي اعترانا ونحن نرى كين لوتش يتوّج للمرة الثانية بسعفة «كان»، لا بد من التأكيد على أن «تسعيف» الفيلم فاجأنا. إذ، حتى لئن كان عدد الأفلام المستحقة هذا التتويج في هذه الدورة قليلاً، فإن ثمة أفلاماً فيها بدت لنا، من الناحية الفنية على الأقل، أكثر استحقاقاً للسعفة من فيلم لوتش. فهناك «طوني إدرمان» – الذي لو فاز لكان التجديد مزدوجاً: السعفة لفيلم كوميدي ولفيلم ألماني وهما أمران ندرا في الآونة الأخيرة -، وهناك «باترسون» الذي عاد فيه جيم جارموش الى رونق سينماه القديم، وهناك أيضاً «لافنغ» لجيف نيكولز، وربما «فقط نهاية العالم» فيلم كزافييه دولان «الثرثار» – راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -، كما هناك بالطبع «البائع» لأصغر فرهادي، حتى وإن كان قد أتى أدنى من توقعاتنا. مهما يكن، إذا كان اختيار لجنة التحكيم التي ترأسها جورج ميلر قد وقع على فيلم لوتش، فلا بأس. كان هو أحد اختياراتنا الثانية على الأقل. ونحب هنا أن نحتفل به، على الأقل إحتفاء بصاحبه، الذي لم يتغرب كثيراً عن تاريخه في خطبة الفوز حين تحدث عن فيلمه وعن الظلم الإجتماعي وعن العدالة والبيروقراطية ونسي أن يقول ولو عبارة واحدة عن ذلك الفن السينمائي العظيم الذي لا يزال يخوض فيه ويحمّله مواقفه ونضالاته منذ العام 1966 حين بدأ صور واحداً من أول أفلامه «كاتي تعود الى البيت». رجل يحلم بعالم أفضل منذ ذلك الحين وكين لوتش في الواجهة، يحقق فيلماً كل عام ونصف تقريباً ويحلم بعالم أفضل. عالم لا تدمر فيه المستشفيات نفسيات الشبان وحياتهم («حياة عائلية» -1971-)، ويخلو من تلك الحيوات التعيسة («ريف راف» -1991 -، «تمطر حجارة» -1993-، «ليدي بيرد» -1994-) ومن آلام الطبقة العاملة («إسمي جو» -1998»، «سويت سكستين» -2002»، «الملاحون» -2001»). عالم يطلع فيه العالم كله على «خفايا» الثورة والقضية الإيرلنديتين («تهبّ الريح» الذي أعطاه سعفته الذهبية الأولى في العام 2006 إضافة الى عشرات الجوائز الأخرى، ناهيك بفيلمه السابق «قاعة جيمي» 2014). ولئن اهتمت سينما كين لوتش بقضايا الثورة العالمية في أفلام مثل «أرض الحرية» -1995-، وأغنية كارلا» -1996-، و «إنه عالم حر» -2007-،و «بز وورود» -2000-، فإن «حرب الأميركيين والبريطانيين معهم على العراق» وفق توصيفه، لم تغب عن باله، إذ ها هو يدنو منها في واحد من أحدث أفلامه «آيريش رود» -2011-. غير أن كل هذا السجل الحافل من أفلام السينما السياسية على طريقة كين لوتش، لا ينبغي أن ينسينا أن الرجل عرف، أحياناً، في بعض أفلامه على الأقل، كيف يخوض مواضيعه بطرافة تنفي عنه صفة التجهم التي ربطها البعض به. فها نحن أمام الفيلم الذي عرضه في مهرجان كان في العام 2012 في عنوان «حصة الملائكة» – ونال عنه جائزة التكيم -، نضحك ونلهو مع أبناء حثالة مدن الأرياف البريطانية وهم يسرقون الويسكي من المصانع. وها نحن مع فيلمه «في انتظار إريك» -2009-، نلهو ونخوض رياضة كرة القدم مع العامل المحبط والمعجب في الوقت نفسه، باللاعب الفرنسي إريك كانتونا، إذ يظهر عليه اللاعب ذات يوم. بل حتى لم يخل الأمر في سينما لوتش من حكايات غرام دافئة («مجرد قبلة» -2004»، و «سويت سكستين» -2002-، مثلاً). ولكن هذا يحدث دائماً على خلفية تلك الأوضاع الإجتماعية التي ما لبث يرصدها، موصلاً هذا الرصد الى ذروته الآن في «أنا، دانيال بليك». صراع ضد التنين دانيال بليك الذي يعير اسمه لعنوان الفيلم هو عامل ستيني في مدينة صغيرة بريطانية حدث له أن أصيب بحادث عمل تسبب في أزمة قلبية. هو لم يعد قادراً على ممارسة مهنته، النجارة، بعد الآن، وصار من حقه أن يتقاعد تبعاً لنظام حماية إجتماعية سيتبين له ولنا بسرعة أنه نظام نظري لا أكثر. فالإدارة ترفض طلبه وتطلب منه أن يسجل اسمه كعاطل عن العمل يبحث عن شغل. وهنا يبدأ الصراع الذي يكشف من خلاله كين لوتش، وكما فعل أندريه زغينفييف الروسي قبل عامين في فيلمه «ليفياتان» الذي عرضه في دورة كان لذلك العام، كم أن الدولة وبيروقراطيتها/ تنين كبير يبتلع الكل، أناساً كانوا أو قوانين أو قيماً أخلاقية. في فيلمه الذي صوره وكأنه يصور فيلماً وثائقياً بحركة متواصلة لكاميرا راصدة متعاطفة وفاضحة، وبدينامية مدهشة لسيناريو وُظّف تماماً لخدمة الموضوع، في فيلمه هذا يتابع لوتش بطله في صراعه ضد لاإنسانية أجهزة الدولة، وموظفي هذه الدولة الذين قد يبدي بعضهم تعاطفاً إنسانياً ما، لكنه يبقى محدوداً وخارجاً عن السياق العام طالما ان السياق العام تنيني مبتلع، لا قبل له بإدراك أحاسيس البشر وآلامهم. أما التعاطف الحقيقي فلن يلقاه دانيال بليك في رحلته الكافكاوية الكابوسية في دهاليز أجهزة الدولة وخشبية وجوه وظفيها، إلا لدى أمثاله: هنا لدى الأم العزباء ريتشيل ذات الطفلين واتي يلتقيها وهي تصارع بدورها أجهزة الدولة التي لن تعطيها مسكناً إجتماعياً إلا في منطقة تبعد مئات الأميال عن موطنها. سيتعرف دانيال على ريتشيل في دهاليز الصراع مع البيروقراطية. سيرتبطان كأسرة ويخوضان الصراع سوية، لكنه سيكون صراعاً مسدوداً. فذات يوم وسط لحظات السعادة الإنسانية الضئيلة التي سيوفرها له ارتباطه بريتشيل، وفي خضم صراعهما الذي بات مشتركاً الآن ضد سلطة الدفاتر الحجرية واللاإنسان، ستقضي الأزمة القلبية على دانيال ويموت، لعل السلطات تتنبه الآن الى أنه لم يكن يكذب حين قال لها انه لم يعد قادراً على العمل... عندما كان كين لوتش يصور فيلمه السابق «قاعة جيمي» قال إنه سيكون فيلمه الأخير. لكنه حقق «أنا، دانيال بليك» بعده، ومن جديد قيل أنه ربما يكون هذه المرة فيلمه الأخير عن حق وحقيق. أما هو فلم يؤكد هذا ولم ينفه. فقط قال إن تصريحه إبان تصوير «قاعة جيمي» كان لصعوبة تحقيق الفيلم «اما اليوم فإن تصوير هذا الفيلم الجديد لم يكن صعباً...» إذاً؟ لسنا ندري. مهما يكن، عبر «السعفة الذهبية» التي نالها «أنا، دانيال بليك»، احتفل لوتش واحتفل أهل السينما معه بمرور خمسين عاماً على فيلمه الأول «كاتي تعود الى البيت» -1966-، وهو حين سئل عما يراه من قاسم مشترك بين هذين الفيلمين اللذين يفصل بينهما نصف قرن أجاب: «إن الفيلمين يرويان حكاية أشخاصن انقلب مسار حياتهم بفعل الوضع الإقتصادي. وهذا واقع ألهمنا كثيراً لكنه يبدو أشد حدة في الفيلم الجديد. أما الإخراج فيبدو لي شديد الاختلاف بين الفيلمين. في ذلك الحين كنا ندور في الشوارع مع كاميرا على كتفنا ونصور (...). مهما يكن فإن الواقع الذي نصوره اليوم في «أنا، دانيال بليك» يبدو أشد قسوة بكثير، لأن اقتصاد السوق قد تمكن أخيراً من أن يقودنا الى الكارثة».